الأضواء في المسرح تمنح الجوّ حميمية، ومقدّما برنامج «تياترو» («أوربت» - «اليوم») جمال فياض وحبيبة طراب يطرحان مواضيع الطرب ويكرّمان أسماءه المتلألئة. بحضور إيلي العليا، قائد الفرقة الموسيقية، وفي مسرح مقاعده الحمراء تنتظر مَن يجلس عليها، تُطرح إشكاليات الفن ويتحدث ضيوف كل حلقة من البرنامج الرمضاني عن نجومه الكبار. سيَر بديعة لأسماء كفريد الأطرش والأخوين الرحباني والأخ الأصغر آلياس، ووديع الصافي، وسعيد عقل، وفيلمون وهبي... وموضوعات يحلو الاستماع إليها، كحكاية السينما والمسرح الغنائي اللبنانيين.
الحلقات ثرية بالمعلومة، جوّها جميل. وبالطرب وسيرة الطرب، يمرّ الوقت. هنا «تياترو» الذكريات وحديث المسرح والسينما والأغنية. شيء من الحلاوة يبلغ الأذن فيطربها ويمسّ القلب فيمنحه لحظة بهجة.
«تياترو» برنامج الذكريات وحديث المسرح والسينما والأغنية (الشرق الأوسط)
ويستند جمال فياض إلى البحوث والوثائق في حواراته، ويأتي بضيوف يخبرون عن النجم ما قد يعرفه المتابع وما يتعرف إليه. وفي الحلقات، حكايات للمرة الأولى. لكل نجم جانب ظاهر وجوانب لا تطرحها جميع البرامج. يهتم «تياترو» بإضافة معلومة، فلا تتشابه الحلقات مع المتوافر على الإنترنت وما سبق الاطلاع عليه في البرامج الفنية. حضور المايسترو إيلي العليا وعزف الفرقة من أغنيات نجم الحلقة، قيمة أخرى للمشهد.
هاجر فريد الأطرش في طفولته إلى القاهرة بصحبة الوالدة والشقيقين فؤاد وآمال التي أطربت الأذن العربية باسم أسمهان. يتحدث مؤرخ سيرته محمود الأحمدية عن مراحل من عمر الراحل وفنه الخاص. ويروي ممدوح الأطرش السيرة الذاتية لقريبه، تاركاً للموسيقي نبيه الخطيب الإبحار في ألحانه، ولقاءاته مع صباح وطروب وفهد بلان...
قد يظن المتابع أنه يعرف كل شيء، فيُذكره البرنامج بشعر أبي النواس «حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء». يطل غدي الرحباني مع الشاعر هنري زغيب لفتح أبواب جديدة على سيرة الأخوين عاصي ومنصور وامتداد إرثهما إلى الأبناء والأحفاد. فزغيب صديق العائلة وموثّق سيرة العظيمين، حديثه عن بداية الأخوين حتى اللقاء مع فيروز بمثابة قصيدة. ولغدي الرحباني ما يقوله عن الأب منصور والعم عاصي، وذكريات يرويها عن عمل الوالد في المسرح والسينما، على مسمع جمال فياض الآتي إلى الحلقة بوثائق تتناول فصولاً من حياة منصور وما لا يعرفه إلا المقربون.
الحلقات دفتر أوراقه من صفحات الذاكرة، وفي الإمكان الاحتفاظ بالمكتوب على هذه الصفحات كزوّادة معرفة. فالحديث يتناول أكثر من جانب وأبعد من محطة. هناك الأخوان الرحباني، ثم مدرسة منصور من بعده، والتوقف يصبح مهماً على مسرحياته التي وقّعها وحده بدءاً من «صيف 840»، فألحانه ومعزوفاته. حين يفتح البرنامج نقاش الإرث الكبير، يدرك أنّ عليه الإحاطة به كاملاً، فلا يُغيّب معلومة ولا يطمس حقيقة. بعد الآباء، يحمل الأبناء مسؤولية صون الأمانة وتطويرها فالإضافة البديعة إليها، ليتسلّمها من بعدهم الأحفاد ودماء الشباب. مسيرة بمرتبة تاريخ، وغسان صليبا، أحد أبنائها، يُخبر الحاضرين عن فضل منصور والفرص التي نالها على مسرحه، حتى حفر اسمه إلى جانب أسماء لا يمحوها الزمن.
اللامعون بصمات في مجالات الفن المختلفة. كجورج نصر ومارون بغدادي وسواهما من روّاد السينما اللبنانية. يروي البرنامج حكايتها على امتداد قرن. وتحت الأضواء الأقرب إلى بدايات التقاء النور مع الظلمة، يشرح إميل شاهين بخبرته في تاريخ الفن السابع ظروف تأسيسها في القرن الماضي، والأفلام الصامتة الأولى، فتطور أدواتها قبل توقفها في عزّ الحرب الأهلية وعودتها من جديد بعد استراحة المعارك. قرن على ولادة سينما تباغتها الظروف، وبالصمود تقهر الصعب.
ووديع الصافي من الحناجر الفريدة، يفسح له البرنامج مساحة يستحقها. بحضور ابنه جورج، تمرّ سيرة وديع فرنسيس ابن نيحا الجبلية، الذي منحه الله واحداً من أعذب الأصوات. تكرّم الحلقات نجومها وتوجّه تحية إلى مكانهم المرموق في الذاكرة، وحين تطرح إشكالية لا تستخف في مقاربتها. الجوانب فنية، وأيضاً عامة، كنقاش نظرة الأخوين الرحباني للحياة وموقفهما من قضايا العرب.
هل ننتهي بخلاصة مفيدة بعد المشاهدة؟ الجواب نعم. فحين يحل جورج خباز ضيفاً على حلقة تطرح موضوع المسرح الغنائي في لبنان، يعني ذلك أننا أمام رجل يعرف «البيضة والتقشيرة». لا يتكلم لمجرد الكلام، بل لوضع النقاط حيث يُفترض وضعها. يتحدث عن مسرحياته وكواليس تحضيرها، من الكتابة والإخراج والتأليف الغنائي، فالغناء نفسه. سيد مسرحه والمهتم بالشاردة والواردة، يتشارك حديثاً عن تاريخ المسرح الغنائي اللبناني، منذ أعمال عاصي ومنصور حتى مسرح آلياس الرحباني، من دون أن يفوت الحلقة إلقاء التحية على مسرح وسيم طبارة وروميو لحود.
عطر القامات، كفيلمون وهبي في الألحان وسعيد عقل في الشعر. يكرّمهما البرنامج باستعادة سيرتهما الحياتية والفنية. ابن كفرشيما الموهوب بالفطرة، بلغ مراتب الإبداع الموسيقي من دون حاجته إلى دراسة العزف أكاديمياً، فلحّن لعمالقة كالأخوين وفيروز وصباح. وقصائد سعيد عقل تصبح أغنيات خالدة بحناجر من ذهب. غنّت له فيروز وماجدة الرومي وطُرحت حول شعره جدلية العروبة والوطنية. «ردّني إلى بلادي»، كانت رجاء وهي اليوم جرح المشتاقين إلى أوطان الحياة فيها مستحيلة.