الإعلانات التلفزيونية... بين إشكالية ضوابط المجتمع و«التشويش»

الإعلانات التلفزيونية... بين إشكالية ضوابط المجتمع و«التشويش»
TT

الإعلانات التلفزيونية... بين إشكالية ضوابط المجتمع و«التشويش»

الإعلانات التلفزيونية... بين إشكالية ضوابط المجتمع و«التشويش»

بمرور السنين، صارت الإعلانات التلفزيونية إحدى علامات شهر رمضان الكريم، إذ زادت مساحتها على الشاشة بشكل تدريجي خلال العقدين الماضيين، فبعد عرضها بين المسلسلات والبرامج الكوميدية، مروراً بتقديمها استحياءً في فواصل سريعة، سيطرت بشكل تام على الشاشات خلال ساعات البث في شهر رمضان.
ويجدد «توحش» الإعلانات، واستحواذها على نسبة كبيرة من ساعات البث، الشكوى من عدم القدرة على متابعة الأعمال الدرامية بسبب «كثرة الفواصل الإعلانية»، حتى وصل الأمر إلى تندر المصريين على المسألة بقولهم: «أصبحنا نشاهد إعلانات بينها فواصل درامية وليس العكس»، lما دفع بكثيرين لمشاهدة الأعمال الدرامية على منصات المشاهدة الإلكترونية هرباً من الإعلانات.
وانتقد خبراء الإعلام موسم الإعلانات الرمضانية هذا العام، إلى حد وصفها بأنها «الأسوأ» منذ سنوات، نتيجة ما اعتبروه «إطالة مبالغاً فيها، وغياب وعدم وضوح للرسالة الإعلانية، في ظل سيطرة نجوم الفن والغناء على المساحات الإعلانية لدرجة طغت على المنتجات، إضافة إلى عدم مراعاتها لقيم المجتمع».

مشهد من إعلان عمرو دياب

ويتنافس عدد كبير من نجوم الفن والغناء على المشاركة في الإعلانات الرمضانية، بينهم عمرو دياب، وشيرين، وتامر حسني، وأحمد عز، وياسمين عبد العزيز، وكريم عبد العزيز، وكريم محمود عبد العزيز، وروبي، ومحمود العسيلي، وغيرهم.
قيم المجتمع
وتثير هذه الإعلانات جدلاً واسعاً في مصر، بعد اصطدامها بالضوابط والأكواد الأخلاقية التي أعلنها المجلس الأعلى للإعلام، والتي تشدد على «احترام الآداب العامة، واحترام عقل المشاهد والحرص على قيم المجتمع وأخلاقياته، وعدم اللجوء إلى الألفاظ البذيئة، والحوارات المتدنية والسوقية».
وأسفر الصدام مع الكود الأخلاقي عن اتخاذ المجلس الأعلى للإعلام، قراراً بوقف عرض إعلان لشركة ملابس داخلية مصرية، لـ«مخالفته المعايير التي حددها المجلس للإعلانات والبرامج، بعد احتوائه على مشاهد تتعارض مع آداب المجتمع المصري وأخلاقياته، ومع الآداب العامة والذوق العام»، وفقاً للبيانات الرسمية، وجاء القرار في أعقاب موجة من الاستياء بين الجمهور، خصوصاً نقابة الأطباء المصرية، التي اعتبرت الإعلان «تنمراً صريحاً وواضحاً على المواطن المصري، وإظهاره بصورة لا تليق بجانب إساءته للفريق الطبي»، حسب بيان النقابة، في بداية شهر رمضان الحالي.
ولم ينته الصدام مع قيم المجتمع عند هذا الحد، بل تسبب في حذف جزء من إعلان آخر لأحد التجمعات السكنية الجديدة، تضمن مشهداً راقصاً للمطربة اللبنانية ميريام فارس، بدعوى «عدم ملاءمة المشهد للشهر الكريم».

د. نائلة حمدي

ويؤكد خبراء الإعلام: «إن أهمية وجود قواعد ومعايير لضبط المشهد الإعلامي بشكل عام، يشمل كل ما يبثه على الشاشات، بما في ذلك الإعلانات». ويقول الدكتور حسين عماد مكاوي، عميد كلية الإعلام الأسبق في جامعة القاهرة، بتصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «من حيث المبدأ يفترض وجود كود خاص بالإعلانات، من حيث شكل الإعلان، والأشخاص الذين يظهرون في الإعلان، ومواصفات السلعة المعلن عنها، ليتضمن الإعلان بيانات دقيقة دون مبالغة، متوافقة مع قيم المجتمع، فلا تظهر المرأة والطفل بصورة غير لائقة، أو تتضمن انتهاكاً لخصوصية الأفراد والمرضى»، مطالباً «بالتأكد من توافق الإعلان مع هذه القواعد قبل عرضه على الشاشات، بدلاً من أن نفاجأ بعرضه، من ثم يحذف بعد انتقادات وجدل».
فيما يرى الدكتور سامي عبد العزيز، العميد الأسبق لكلية الإعلام في جامعة القاهرة، أن «الضوابط والقواعد لا بد أن تبدأ من المُعلن». ويقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «هناك علاقة بين الاتجاه نحو الإعلان، وبين الاتجاه نحو العلامة التجارية، بمعنى أن حب الجمهور واحترامه للإعلان يؤدي بالتبعية لحب المنتج المعلن عنه واحترامه».

د. سامي عبد العزيز

ويشير عبد العزيز إلى أن: «تفعيل الدور المؤسسي هو الحل لمواجهة مثل هذه الأزمات المتكررة، لتبدأ من المُعلن، مروراً بالقناة أو وسائل البث التي تقيّم ملاءمة الإعلان للقواعد والضوابط، وأخيراً الأكواد والقواعد التي يضعها المجلس الأعلى للإعلام».
سيطرة النجوم
بينما يعد ظهور النجوم في الإعلانات الترويجية للمنتجات والخدمات، من بين الأدوات المتعارف عليها في العالم، فإن هذا الاستخدام له قواعد متعددة يضعها خبراء التسويق، من بينها صورة النجم لدى الجمهور ومدى ملاءمتها للمنتج، وضرورة إحداث التوازن بين قوة العلامة التجارية وقوة النجم. وتميزت إعلانات رمضان هذا العام بتكرار ظهور النجم الواحد في أكثر من إعلان، حيث ظهر الفنان أحمد عز في إعلانين، أحدهما لشركة تقدم خدمات للهواتف الجوالة، والآخر لتجمع سكني، وظهر المطرب تامر حسني في ثلاثة إعلانات لمنتجات مختلفة، وكذلك أطل عمرو دياب على جمهوره بأغنيتين لشركتين مختلفتين.

وأثارت هذه الظاهرة جدلاً بين الجمهور وصناع الإعلانات، لما يسببه ذلك من «تشويش للرسالة الإعلانية»، لدرجة وصلت إلى أن بعض الإعلانات تروج للنجم أكثر مما تروج للمنتج، مثل إعلان عمرو دياب عن البريد المصري»، حسب متابعين.
وتصف الدكتورة نائلة حمدي، أستاذة الإعلام والاتصال في الجامعة الأميركية بالقاهرة، موسم الإعلانات هذا العام بأنه «الأسوأ منذ سنوات عدة». وتقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإعلانات تعتمد على أغاني طويلة، لا علاقة لها بالترويج للمنتج أو العلامة التجارية، في ظل عدم وضوح الرسالة الإعلانية، وعدم تقديم معلومات كافية عن المنتج». وتؤكد أن «تكرار ظهور النجوم أنفسهم في أكثر من إعلان، أدى إلى عدم تحديد ماهية المنتج الذي يروّج له». وتضيف: «إن جميع الإعلانات تعتمد على الإبهار والغناء والرقص، دون هدف واضح، مما يجعلها إضاعة لأموال المعلنين».
ويتفق معها الدكتور صفوت العالم، أستاذ العلاقات العامة والإعلان في جامعة القاهرة، بقوله: «إن بعض الإعلانات تخدم النجوم الذين يظهرون فيها أكثر من المنتج نفسه»، ويتساءل في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، عن «جدوى إنفاق الملايين على استخدام نجوم في الترويج لعلامات تجارية، بدلاً من استخدام هذه الميزانيات في تحسين الخدمة والمنتج، أو حتى دون تقديم رسائل إعلانية تتحدث عن الخدمات أو المزايا التي تقدمها هذه العلامات التجارية».

بدوره يقول عبد العزيز: «ثبت علمياً أن استخدام النجم يحقق نوعاً من جذب الانتباه، لكنه لا يبني بالضرورة اتجاهاً سلوكياً إيجابياً لدى المستهلك، وأحياناً قد لا يصدقه الجمهور»، مشيراً إلى أن «هناك شروطاً لاستخدام النجوم، من بينها طبيعة النجم وشخصيته ومدى ملاءمتها للمنتج المعلن عنه».
عن ظهور نجوم دراما رمضان في الإعلانات التلفزيونية خلال الشهر نفسه، يقول عبد العزيز: «يؤدي ذلك إلى نوع من التشويش لدى المشاهد العادي، خصوصاً لو كان النجم يؤدي دوراً وطنياً في العمل الدرامي، وبالمثل يعتبر تكرار ظهور النجم نفسه في إعلانات لمنتجات مختلفة تشويشاً على السلعة، ويؤدي إلى فقدان المصداقية».
من جهة ثانية، يقول محمد عبد الغفار، المدير العام والعضو المنتدب ومسؤول التخطيط الاستراتيجي في شركة «بيكوم» المتخصصة في الإعلانات، لـ«الشرق الأوسط»: «إن استخدام النجم في الإعلان مرتبط بقياس مدى قوة العلامة التجارية للمنتج، وقوة العلامة التجارية للنجم، إضافة إلى مدى ولاء الجمهور للنجم، فالمسألة غير مرتبطة فقط بعدد المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، بل بمدى انتمائهم وولائهم للنجم»، مؤكداً أن «معرفة هذه الأمور مهم جداً حتى لا تطغى العلامة التجارية للنجم على المنتج»، لافتاً إلى أن «تكرار ظهور النجم نفسه في إعلانات مختلفة هو كارثة تشتت الجمهور»، موضحاً: «إن استخدام الأغنية في الإعلانات هو نوع من أنواع التقنيات العاطفية المتعارف عليها في الإعلانات، لتحقيق ارتباط عاطفي بين المنتج والجمهور، وهي إما أن تكون تكراراً لاسم المنتج، أو تتضمن محتوى ترفيهياً يشير لرسالة العلامة التجارية الأساسية واستراتيجيتها الترويجية».
ويلفت عبد الغفار النظر إلى ظاهرة وصفها بأنها «غريبة» تتسبب في فقدان «مصداقية المنتج»، وهي «اعتماد الشركات على نجوم كانوا وجهاً إعلانياً لشركة منافسة لهم، وهو ما حدث مع أحمد عز، الذي يظهر هذا العام كوجه إعلاني لشركة تقدم خدمات للهواتف المحمولة، رغم أنه كان الوجه الإعلاني لشركة منافسة العام الماضي»، متسائلاً: «كيف سيصدق الجمهور هذه الرسالة؟».
الحنين للماضي
على مدار السنوات الماضية، لعب منتجو الإعلانات على فكرة النوستالجيا والحنين للماضي، باعتبارها إحدى أدوات جذب الجمهور، فظهرت إعلانات استعادت نجوماً مما يسمى «زمن الفن الجميل»، وتحدثت عن عادات قديمة ارتبطت بشهر رمضان المبارك، ورغم «نجاح» هذه الطريقة في السنوات الماضية، فإن استدعاء الفنانة الراحلة سعاد حسني، في أحد الإعلانات التجارية من خلال إعادة تقديم واحدة من أشهر أغانيها، لم «يحقق النجاح نفسه»، وفقاً لمراقبين.
ويقول مكاوي: «إن إعلانات النوستالجيا استنفدت أهدافها، ولم تعد تقدم جديداً، فضعف تأثيرها». وتتفق معه نائلة حمدي بقولها: «إن التركيز على فكرة النوستالجيا كان جميلاً في المرات الأولى، لكن تكراره لم يعد مناسباً، وليس فعّالاً في جذب الجمهور»، مشيرة إلى أن «هذه المسألة كانت مرتبطة برغبة البعض في الهروب من الواقع، لكن التركيز عليها باستمرار أمر ممل وغير مُجدٍ إعلامياً».
ويرتبط شهر رمضان عادة بإعلانات التبرعات للمستشفيات وجمعيات المجتمع المدني، في محاولة للاستفادة من «الاتجاه العام لدى الجمهور للزكاة والصدقات في الشهر الكريم».
وهنا يقول عبد الغفار: «إن إعلانات التبرعات في رمضان مبنية في جزء منها على دراسات للحالة المزاجية للجمهور، التي ترجح أن المواطن أكثر قبولاً للأعمال الخيرية، والصدقات والزكاة في رمضان»، مشيراً إلى أن «نجاح هذه الإعلانات يعتمد على قوة المؤسسة ومصداقيتها، وتقاس نسبة الإنفاق إلى نسبة التبرعات».
ويؤكد مكاوي أن هذه الإعلانات: «تسيء للمجتمع المصري، وتشير إلى أن أجهزة الدولة ترفع يدها عن إقامة مستشفيات وتوفير العلاج، وتترك هذا الأمر للأفراد، من خلال التبرعات»، منتقداً ما تقدمه هذه الإعلانات «من مشاهد للأطفال والنساء تستغلهم بصورة سيئة، تم منع تداولها في وسائل الإعلام العالمية».
ويطالب صفوت العالم المؤسسات التي تطلب التبرعات، بإعلان ميزانياتها لجمهور المتبرعين، كنوع من تحقيق المصداقية والشفافية، في ظل إنفاق الملايين على هذا النوع من الإعلانات في رمضان.
حجم الإنفاق الإعلاني
ولا توجد إحصائيات رسمية عن حجم الإنفاق الإعلاني في مصر حالياً، حيث تعود آخر إحصائية أصدرتها شركة «إبسوس» إلى فبراير (شباط) عام 2016. التي «قدرت حجم الإنفاق الإعلاني في الصحف والتلفزيون والراديو بنحو 2.2 مليار جنيه خلال عام 2015». وتشير تقديرات خبراء الإعلان في مصر الآن إلى أن الرقم وصل إلى «نحو ثلاثة مليارات جنيه» (الدولار الأميركي يعادل 18.4 جنيه مصري)، ويحصل رمضان على الحصة الأكبر من الإنفاق الإعلاني، ووفقاً لتصريحات منسوبة لمحمد السعدي، مالك شركة «سعدي - جوهر» للإعلانات، فإن «حجم الإنفاق الإعلاني في رمضان عام 2017 بلغ نحو 800 مليون جنيه».
وهنا يقول العالم: «إن رمضان وقت مميز للمشاهدة ولذلك يزيد الإنفاق الإعلاني في هذا الشهر، عن باقي شهور السنة، كما يتضاعف سعر الوحدة الإعلانية»، مشيراً إلى أن «بعض الشركات تتحايل على هذه المسألة بتكثيف إعلاناتها قبيل رمضان لإحداث الوجود، مع الاستفادة من أسعار أقل».
ويؤكد عبد العزيز أن «الكثافة الإعلانية في رمضان، لها نتائج عكسية»، مشيراً إلى أنه «طالماً لا توجد بحوث سوق تقيس اتجاه الرأي العام نحو هذه القضايا وتحدد نسب المشاهدة، فالأمر متروك للمعلن والقناة»، لافتاً إلى «أهمية دور بحوث المشاهدة في تحديد سعر الإعلان في برنامج معين، الذي يرفع سعر الوحدة الإعلانية في يوم، ويخفضها في يوم آخر بناء على نسبة مشاهدة البرنامج والإعلان».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».