الإعلانات التلفزيونية... بين إشكالية ضوابط المجتمع و«التشويش»

الإعلانات التلفزيونية... بين إشكالية ضوابط المجتمع و«التشويش»
TT

الإعلانات التلفزيونية... بين إشكالية ضوابط المجتمع و«التشويش»

الإعلانات التلفزيونية... بين إشكالية ضوابط المجتمع و«التشويش»

بمرور السنين، صارت الإعلانات التلفزيونية إحدى علامات شهر رمضان الكريم، إذ زادت مساحتها على الشاشة بشكل تدريجي خلال العقدين الماضيين، فبعد عرضها بين المسلسلات والبرامج الكوميدية، مروراً بتقديمها استحياءً في فواصل سريعة، سيطرت بشكل تام على الشاشات خلال ساعات البث في شهر رمضان.
ويجدد «توحش» الإعلانات، واستحواذها على نسبة كبيرة من ساعات البث، الشكوى من عدم القدرة على متابعة الأعمال الدرامية بسبب «كثرة الفواصل الإعلانية»، حتى وصل الأمر إلى تندر المصريين على المسألة بقولهم: «أصبحنا نشاهد إعلانات بينها فواصل درامية وليس العكس»، lما دفع بكثيرين لمشاهدة الأعمال الدرامية على منصات المشاهدة الإلكترونية هرباً من الإعلانات.
وانتقد خبراء الإعلام موسم الإعلانات الرمضانية هذا العام، إلى حد وصفها بأنها «الأسوأ» منذ سنوات، نتيجة ما اعتبروه «إطالة مبالغاً فيها، وغياب وعدم وضوح للرسالة الإعلانية، في ظل سيطرة نجوم الفن والغناء على المساحات الإعلانية لدرجة طغت على المنتجات، إضافة إلى عدم مراعاتها لقيم المجتمع».

مشهد من إعلان عمرو دياب

ويتنافس عدد كبير من نجوم الفن والغناء على المشاركة في الإعلانات الرمضانية، بينهم عمرو دياب، وشيرين، وتامر حسني، وأحمد عز، وياسمين عبد العزيز، وكريم عبد العزيز، وكريم محمود عبد العزيز، وروبي، ومحمود العسيلي، وغيرهم.
قيم المجتمع
وتثير هذه الإعلانات جدلاً واسعاً في مصر، بعد اصطدامها بالضوابط والأكواد الأخلاقية التي أعلنها المجلس الأعلى للإعلام، والتي تشدد على «احترام الآداب العامة، واحترام عقل المشاهد والحرص على قيم المجتمع وأخلاقياته، وعدم اللجوء إلى الألفاظ البذيئة، والحوارات المتدنية والسوقية».
وأسفر الصدام مع الكود الأخلاقي عن اتخاذ المجلس الأعلى للإعلام، قراراً بوقف عرض إعلان لشركة ملابس داخلية مصرية، لـ«مخالفته المعايير التي حددها المجلس للإعلانات والبرامج، بعد احتوائه على مشاهد تتعارض مع آداب المجتمع المصري وأخلاقياته، ومع الآداب العامة والذوق العام»، وفقاً للبيانات الرسمية، وجاء القرار في أعقاب موجة من الاستياء بين الجمهور، خصوصاً نقابة الأطباء المصرية، التي اعتبرت الإعلان «تنمراً صريحاً وواضحاً على المواطن المصري، وإظهاره بصورة لا تليق بجانب إساءته للفريق الطبي»، حسب بيان النقابة، في بداية شهر رمضان الحالي.
ولم ينته الصدام مع قيم المجتمع عند هذا الحد، بل تسبب في حذف جزء من إعلان آخر لأحد التجمعات السكنية الجديدة، تضمن مشهداً راقصاً للمطربة اللبنانية ميريام فارس، بدعوى «عدم ملاءمة المشهد للشهر الكريم».

د. نائلة حمدي

ويؤكد خبراء الإعلام: «إن أهمية وجود قواعد ومعايير لضبط المشهد الإعلامي بشكل عام، يشمل كل ما يبثه على الشاشات، بما في ذلك الإعلانات». ويقول الدكتور حسين عماد مكاوي، عميد كلية الإعلام الأسبق في جامعة القاهرة، بتصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «من حيث المبدأ يفترض وجود كود خاص بالإعلانات، من حيث شكل الإعلان، والأشخاص الذين يظهرون في الإعلان، ومواصفات السلعة المعلن عنها، ليتضمن الإعلان بيانات دقيقة دون مبالغة، متوافقة مع قيم المجتمع، فلا تظهر المرأة والطفل بصورة غير لائقة، أو تتضمن انتهاكاً لخصوصية الأفراد والمرضى»، مطالباً «بالتأكد من توافق الإعلان مع هذه القواعد قبل عرضه على الشاشات، بدلاً من أن نفاجأ بعرضه، من ثم يحذف بعد انتقادات وجدل».
فيما يرى الدكتور سامي عبد العزيز، العميد الأسبق لكلية الإعلام في جامعة القاهرة، أن «الضوابط والقواعد لا بد أن تبدأ من المُعلن». ويقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «هناك علاقة بين الاتجاه نحو الإعلان، وبين الاتجاه نحو العلامة التجارية، بمعنى أن حب الجمهور واحترامه للإعلان يؤدي بالتبعية لحب المنتج المعلن عنه واحترامه».

د. سامي عبد العزيز

ويشير عبد العزيز إلى أن: «تفعيل الدور المؤسسي هو الحل لمواجهة مثل هذه الأزمات المتكررة، لتبدأ من المُعلن، مروراً بالقناة أو وسائل البث التي تقيّم ملاءمة الإعلان للقواعد والضوابط، وأخيراً الأكواد والقواعد التي يضعها المجلس الأعلى للإعلام».
سيطرة النجوم
بينما يعد ظهور النجوم في الإعلانات الترويجية للمنتجات والخدمات، من بين الأدوات المتعارف عليها في العالم، فإن هذا الاستخدام له قواعد متعددة يضعها خبراء التسويق، من بينها صورة النجم لدى الجمهور ومدى ملاءمتها للمنتج، وضرورة إحداث التوازن بين قوة العلامة التجارية وقوة النجم. وتميزت إعلانات رمضان هذا العام بتكرار ظهور النجم الواحد في أكثر من إعلان، حيث ظهر الفنان أحمد عز في إعلانين، أحدهما لشركة تقدم خدمات للهواتف الجوالة، والآخر لتجمع سكني، وظهر المطرب تامر حسني في ثلاثة إعلانات لمنتجات مختلفة، وكذلك أطل عمرو دياب على جمهوره بأغنيتين لشركتين مختلفتين.

وأثارت هذه الظاهرة جدلاً بين الجمهور وصناع الإعلانات، لما يسببه ذلك من «تشويش للرسالة الإعلانية»، لدرجة وصلت إلى أن بعض الإعلانات تروج للنجم أكثر مما تروج للمنتج، مثل إعلان عمرو دياب عن البريد المصري»، حسب متابعين.
وتصف الدكتورة نائلة حمدي، أستاذة الإعلام والاتصال في الجامعة الأميركية بالقاهرة، موسم الإعلانات هذا العام بأنه «الأسوأ منذ سنوات عدة». وتقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإعلانات تعتمد على أغاني طويلة، لا علاقة لها بالترويج للمنتج أو العلامة التجارية، في ظل عدم وضوح الرسالة الإعلانية، وعدم تقديم معلومات كافية عن المنتج». وتؤكد أن «تكرار ظهور النجوم أنفسهم في أكثر من إعلان، أدى إلى عدم تحديد ماهية المنتج الذي يروّج له». وتضيف: «إن جميع الإعلانات تعتمد على الإبهار والغناء والرقص، دون هدف واضح، مما يجعلها إضاعة لأموال المعلنين».
ويتفق معها الدكتور صفوت العالم، أستاذ العلاقات العامة والإعلان في جامعة القاهرة، بقوله: «إن بعض الإعلانات تخدم النجوم الذين يظهرون فيها أكثر من المنتج نفسه»، ويتساءل في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، عن «جدوى إنفاق الملايين على استخدام نجوم في الترويج لعلامات تجارية، بدلاً من استخدام هذه الميزانيات في تحسين الخدمة والمنتج، أو حتى دون تقديم رسائل إعلانية تتحدث عن الخدمات أو المزايا التي تقدمها هذه العلامات التجارية».

بدوره يقول عبد العزيز: «ثبت علمياً أن استخدام النجم يحقق نوعاً من جذب الانتباه، لكنه لا يبني بالضرورة اتجاهاً سلوكياً إيجابياً لدى المستهلك، وأحياناً قد لا يصدقه الجمهور»، مشيراً إلى أن «هناك شروطاً لاستخدام النجوم، من بينها طبيعة النجم وشخصيته ومدى ملاءمتها للمنتج المعلن عنه».
عن ظهور نجوم دراما رمضان في الإعلانات التلفزيونية خلال الشهر نفسه، يقول عبد العزيز: «يؤدي ذلك إلى نوع من التشويش لدى المشاهد العادي، خصوصاً لو كان النجم يؤدي دوراً وطنياً في العمل الدرامي، وبالمثل يعتبر تكرار ظهور النجم نفسه في إعلانات لمنتجات مختلفة تشويشاً على السلعة، ويؤدي إلى فقدان المصداقية».
من جهة ثانية، يقول محمد عبد الغفار، المدير العام والعضو المنتدب ومسؤول التخطيط الاستراتيجي في شركة «بيكوم» المتخصصة في الإعلانات، لـ«الشرق الأوسط»: «إن استخدام النجم في الإعلان مرتبط بقياس مدى قوة العلامة التجارية للمنتج، وقوة العلامة التجارية للنجم، إضافة إلى مدى ولاء الجمهور للنجم، فالمسألة غير مرتبطة فقط بعدد المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، بل بمدى انتمائهم وولائهم للنجم»، مؤكداً أن «معرفة هذه الأمور مهم جداً حتى لا تطغى العلامة التجارية للنجم على المنتج»، لافتاً إلى أن «تكرار ظهور النجم نفسه في إعلانات مختلفة هو كارثة تشتت الجمهور»، موضحاً: «إن استخدام الأغنية في الإعلانات هو نوع من أنواع التقنيات العاطفية المتعارف عليها في الإعلانات، لتحقيق ارتباط عاطفي بين المنتج والجمهور، وهي إما أن تكون تكراراً لاسم المنتج، أو تتضمن محتوى ترفيهياً يشير لرسالة العلامة التجارية الأساسية واستراتيجيتها الترويجية».
ويلفت عبد الغفار النظر إلى ظاهرة وصفها بأنها «غريبة» تتسبب في فقدان «مصداقية المنتج»، وهي «اعتماد الشركات على نجوم كانوا وجهاً إعلانياً لشركة منافسة لهم، وهو ما حدث مع أحمد عز، الذي يظهر هذا العام كوجه إعلاني لشركة تقدم خدمات للهواتف المحمولة، رغم أنه كان الوجه الإعلاني لشركة منافسة العام الماضي»، متسائلاً: «كيف سيصدق الجمهور هذه الرسالة؟».
الحنين للماضي
على مدار السنوات الماضية، لعب منتجو الإعلانات على فكرة النوستالجيا والحنين للماضي، باعتبارها إحدى أدوات جذب الجمهور، فظهرت إعلانات استعادت نجوماً مما يسمى «زمن الفن الجميل»، وتحدثت عن عادات قديمة ارتبطت بشهر رمضان المبارك، ورغم «نجاح» هذه الطريقة في السنوات الماضية، فإن استدعاء الفنانة الراحلة سعاد حسني، في أحد الإعلانات التجارية من خلال إعادة تقديم واحدة من أشهر أغانيها، لم «يحقق النجاح نفسه»، وفقاً لمراقبين.
ويقول مكاوي: «إن إعلانات النوستالجيا استنفدت أهدافها، ولم تعد تقدم جديداً، فضعف تأثيرها». وتتفق معه نائلة حمدي بقولها: «إن التركيز على فكرة النوستالجيا كان جميلاً في المرات الأولى، لكن تكراره لم يعد مناسباً، وليس فعّالاً في جذب الجمهور»، مشيرة إلى أن «هذه المسألة كانت مرتبطة برغبة البعض في الهروب من الواقع، لكن التركيز عليها باستمرار أمر ممل وغير مُجدٍ إعلامياً».
ويرتبط شهر رمضان عادة بإعلانات التبرعات للمستشفيات وجمعيات المجتمع المدني، في محاولة للاستفادة من «الاتجاه العام لدى الجمهور للزكاة والصدقات في الشهر الكريم».
وهنا يقول عبد الغفار: «إن إعلانات التبرعات في رمضان مبنية في جزء منها على دراسات للحالة المزاجية للجمهور، التي ترجح أن المواطن أكثر قبولاً للأعمال الخيرية، والصدقات والزكاة في رمضان»، مشيراً إلى أن «نجاح هذه الإعلانات يعتمد على قوة المؤسسة ومصداقيتها، وتقاس نسبة الإنفاق إلى نسبة التبرعات».
ويؤكد مكاوي أن هذه الإعلانات: «تسيء للمجتمع المصري، وتشير إلى أن أجهزة الدولة ترفع يدها عن إقامة مستشفيات وتوفير العلاج، وتترك هذا الأمر للأفراد، من خلال التبرعات»، منتقداً ما تقدمه هذه الإعلانات «من مشاهد للأطفال والنساء تستغلهم بصورة سيئة، تم منع تداولها في وسائل الإعلام العالمية».
ويطالب صفوت العالم المؤسسات التي تطلب التبرعات، بإعلان ميزانياتها لجمهور المتبرعين، كنوع من تحقيق المصداقية والشفافية، في ظل إنفاق الملايين على هذا النوع من الإعلانات في رمضان.
حجم الإنفاق الإعلاني
ولا توجد إحصائيات رسمية عن حجم الإنفاق الإعلاني في مصر حالياً، حيث تعود آخر إحصائية أصدرتها شركة «إبسوس» إلى فبراير (شباط) عام 2016. التي «قدرت حجم الإنفاق الإعلاني في الصحف والتلفزيون والراديو بنحو 2.2 مليار جنيه خلال عام 2015». وتشير تقديرات خبراء الإعلان في مصر الآن إلى أن الرقم وصل إلى «نحو ثلاثة مليارات جنيه» (الدولار الأميركي يعادل 18.4 جنيه مصري)، ويحصل رمضان على الحصة الأكبر من الإنفاق الإعلاني، ووفقاً لتصريحات منسوبة لمحمد السعدي، مالك شركة «سعدي - جوهر» للإعلانات، فإن «حجم الإنفاق الإعلاني في رمضان عام 2017 بلغ نحو 800 مليون جنيه».
وهنا يقول العالم: «إن رمضان وقت مميز للمشاهدة ولذلك يزيد الإنفاق الإعلاني في هذا الشهر، عن باقي شهور السنة، كما يتضاعف سعر الوحدة الإعلانية»، مشيراً إلى أن «بعض الشركات تتحايل على هذه المسألة بتكثيف إعلاناتها قبيل رمضان لإحداث الوجود، مع الاستفادة من أسعار أقل».
ويؤكد عبد العزيز أن «الكثافة الإعلانية في رمضان، لها نتائج عكسية»، مشيراً إلى أنه «طالماً لا توجد بحوث سوق تقيس اتجاه الرأي العام نحو هذه القضايا وتحدد نسب المشاهدة، فالأمر متروك للمعلن والقناة»، لافتاً إلى «أهمية دور بحوث المشاهدة في تحديد سعر الإعلان في برنامج معين، الذي يرفع سعر الوحدة الإعلانية في يوم، ويخفضها في يوم آخر بناء على نسبة مشاهدة البرنامج والإعلان».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».