ليالي «وَنَس»... أنغام روحانية في أحضان التراث

الفرقة المصرية تضم 30 فناناً منهم 22 أجنبياً

أعضاء فرقة «وَنَس» (الشرق الأوسط)
أعضاء فرقة «وَنَس» (الشرق الأوسط)
TT

ليالي «وَنَس»... أنغام روحانية في أحضان التراث

أعضاء فرقة «وَنَس» (الشرق الأوسط)
أعضاء فرقة «وَنَس» (الشرق الأوسط)

لا يتطلب الأمر إلا أن تترك نفسك محلقاً في أجواء من السلام النفسي والصفاء الذهني، عندما تقرر أن تستمع إلى موسيقى مختلفة كتلك التي تقدمها فرقة «ونس» الغنائية المصرية، لا سيما في حفلاتها الرمضانية بطابعها الروحاني المميز بين جدران مباني القاهرة التراثية، على غرار مسرح معهد الموسيقى العربية العريق، الذي استضاف أحدث حفلاتها في أجواء مفعمة بالبهجة والنوستالجيا.
فرقة «ونس»، لا تعترف بالحدود الجغرافية، فقد نجح مؤسسها الفنان الدكتور طارق عباس، في تقديم «توليفة» جديدة من المطربين والعازفين من جنسيات مختلفة، منذ إطلاقها في عام 2017، عقب فوزه بجائزة «اللحن الذهبي» في مهرجان الموسيقى العربية بدار الأوبرا المصرية، معتبراً الموسيقى لغة عالمية تختلف عن كل اللغات، التي نتحدث بها لأن الجميع يفهمها.
عباس الذي يُدرس اللغة العربية لغير الناطقين بها عبر الموسيقى في جامعة القاهرة، أسس فرقته لتعزيز تعليم اللغة من خلال ضم أصحاب الأصوات المميزة من طلابه إلى الفرقة، بالإضافة إلى إبراز الصورة الصحيحة للتراث والفن الإسلامي والعربي، حسب ما يقوله عباس لـ«الشرق الأوسط».


حفل فرقة «وَنَس» بمعهد الموسيقى (الشرق الأوسط)

أغنية «تحيا بلدي» التي شارك في غنائها 10 فنانين من مصر ودول أوروبية وآسيوية مختلفة، كانت باكورة أعمال الفرقة، وتميزت بأن جملة «تحيا مصر» كانت تتوج نهاية كل مقطع بها، وكأنما هي رسالة بأن كل من جاء إلى مصر وعاش على أرضها يشعر بأنها وطنه وملاذه الآمن.
يرى الفنان أن هذا الزخم الفني هو انعكاس لحرص الفرقة على تقديم «صورة بالموسيقى» على نحو ربما يكون غير مألوف إلى حد كبير في الوطن العربي، ويصفها بجسر التعارف والتبادل الحضاري، ويتابع: «تتعدد الأبجديات حول العالم، لكن تبقى هناك أبجدية واحدة مشتركة تجمع الشعوب، وهي السلم الموسيقي، الذي يضم سبع درجات نغمية، ولا يعرف العالم سواها، فإذا كان هذا هو الواقع، فلماذا لا تصبح هي الجسر المستمر بينا، الذي يجعلنا نتحاور ونتواصل بلا قيود». ومن هنا اختار الفنان اسم فرقته «ونس» استلهاماً من فكرة الاستئناس بالآخر، وبالتراث والفن الجميل على السواء: «نحن نمثل كياناً واحداً رغم اختلافنا».
الونس الذي يريده مؤسس فرقة «ونس»، يشعر به الجمهور الذي يحرص على حضور حفلاته في معهد الموسيقى العربية بملابس كلاسيكية أنيقة، مستمتعاً بأعمال يسودها الصفاء في مواجهة ضغوط الحياة، حيث تقدم الفرقة مختارات من ألحان عباس، إلى جانب أشهر مؤلفات زمن الفن الجميل التي أبدعها كبار الملحنين.
وتقدم ليالي «ونس» الرمضانية مجموعة روحانية تُبرز أبيات الأشعار وقصائد المديح النبوي، والابتهالات.


                           الفنان طارق عباس في الحفل (الشرق الأوسط)

وإذا كانت فكرة إطلاق فرق موسيقية وغنائية «متعددة الجنسيات» قد عرفت طريقها إلى المشهد الفني العربي منذ سنوات، فإن عباس عرف كيف يصبغها بهوية خاصة، فالمتابع لنشاطاتها يستشعر فلسفتها التي تميزها، وهي الخروج بها من دائرة لغة الموسيقى، إلى التعمق في فكرة أكثر شمولية، وهي التثقيف والجمع بين الموروثات الفنية العربية. وتضم الفرقة، حسب عباس، نحو 30 فناناً من بينهم 22 فناناً أجنبياً: «لا أعتقد أن هناك فِرقاً متعددة الجنسيات تحمل هذا التنوع الكبير والمستمر، فالثابت في الفرقة هو التغير، لأنها تعتمد على دارسي اللغة العربية من مختلف البلدان، وهم يقيمون لفترات قصيرة ومتقطعة في مصر».
لكن لا يقتصر الأمر على الكم وحده، فحين تحضر إحدى حفلات الفرقة، يستوقفك طويلاً غناء الفنانين الأجانب بإحساس عالٍ بالمعاني، وما تحمله من مشاعر، ودلالات، وطاقات وجدانية رغم اختلاف الثقافة، وهو ما يفسره عباس قائلاً: «لا أكتفي بالتدريب اللغوي والنغمي فقط على صعوبتهما، إنما أحتفي كذلك بتزويدهم بثقافتنا بمختلف أبعادها، فعادة يأتي الفنانون إلى منزلي أثناء البروفات ويشاركونني وأسرتي وزملاءهم المصريين إعداد الطعام في المطبخ على الطريقة المصرية، كما أتيح لهم التحدث عن بلدانهم، وهكذا تتعدد الروافد الثقافية وتتحاور وتتقاطع بانسيابية وسلاسة، ما يساهم في دمجهم بعمق موسيقانا».
لا شك أن مزج موسيقات ولهجات متعددة في فرقة واحدة تكتسي شكلاً معاصراً من الفنون، التي تجمع العازفين والمغنين من بلدان مختلفة، لا يزال يثير الدهشة لدى كثير من المستمعين، إلا أنهم حين يبحرون في أغاني «ونس» بالأداءات المميزة لأعضائها، سرعان ما يتخلصون من إبهار اللحظة والتعجب من تعددية تكوين الفرقة ليصبحوا مأخوذين بما تقدمه من وجبة تراثية وفنية متكاملة.
ويزيد من أهمية ذلك، تقديمها روائع من الموسيقى الأصيلة التي لطالما تغذت بها الذائقة العربية وشكلت وجدان ملايين المستمعين، منها أعمال محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، وصباح وغيرهم؛ إضافة إلى حرص مديرها الدكتور طارق عباس، على إقامة حفلاتها في حضن التاريخ، على غرار قصري «المانسترلي» و«الأمير بشتاك»، وأخيراً معهد الموسيقى العربية، إذ يرفد الحضور من عراقة المعمار، وعبق الماضي، وعمق الثقافة، مع الاستمتاع بالأغاني التراثية، وهو ما يعبر عنه عباس قائلاً: «أحاول الربط بين الموسيقى والتاريخ والمجتمع، باعتبار أن هذا المثلث هو الراعي الحقيقي لها وصانع العملية الإبداعية بلا منازع».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».