«كأنَّني لم أكن» لهوشنك أوسي

«كأنَّني لم أكن» لهوشنك أوسي
TT

«كأنَّني لم أكن» لهوشنك أوسي

«كأنَّني لم أكن» لهوشنك أوسي

عن دار «سؤال» في بيروت، صدرت رواية جديدة للشاعر والروائي الكردي السوري أوسي بعنوان «كأنَّني لم أكن».
وتتناول الرواية حياة فنّان تشكيلي، مقيم في دمشق، لا علاقةَ لهُ بالسياسة والثورة وكلّ ما جرى في سوريا، فقط يركّز على فنّه، ومنهمك في تحضير معرضه المؤلّف من اثنتي عشرة جداريّة مستوحاة من 12 قصيدة قصيرة، كتبها جدّهُ، من جهة أمّه. ينجز 11 لوحة، واللوحة الثانية عشرة، لم يكملها، بسبب إصابتهِ المفاجئة بالعمى. يراجع الأطباء في دمشق، فيقولون له: لا توجد أي مشكلة في عينيه، والجهاز العصبي المتعلّق بالبصر. يقترحون عليه مراجعة الأطباء في موسكو ولندن، لزيادة التأكّد والاطمئنان. يتلقّى هناك الإجابة نفسها. يقترح الأطباء عليه الخضوع لجلسات علاج نفسي، لربّما تكون مشكلته نفسيّة وليست عضوية. يقيم معرضه بإحدى عشرة لوحة، ونصف. ثم يأخذ موعداً مع طبيب نفسي، ويبدأ جلسات العلاج النفسي في دمشق. أثناءها؛ يستحضر ذاكرة والدهِ الريفي الذي التحق بمقاتلي الزعيم الكردي مصطفى بارزاني، وذهب إلى إيران للاشتراك في إعلان جمهورية كردستان في مهاباد سنة 1946، كمقاتل - بيشمركة. وعقب انهيار الجمهوريّة الكرديّة، يتّجه مع زعيمهِ ورفاقه إلى «طشقند» سنة 1947. ثم يعود معهم إلى العراق سنة 1959 بعد تولي عبد الكريم قاسم السلطة في العراق، وإصداره عفواً عن البارزاني ومقاتليه، ويكون شاهداً على عودة الصراع بين الكرد وبغداد سنة 1961، ثم الصراع بين الكرد أنفسهم. فيترك الحزب والسياسة، وصولاً إلى الاستقرار في دمشق سنة 1962، وينصح ابنه بالابتعاد عن السياسة والتحزّب والثورات. يُقتل والد الفنان التشكيلي سنة 1981 في دمشق، لأنه كان ضمن المدنيين الموجودين بالصدفة في مكان انفجار كبير، إبان الصراع الدموي بين الإخوان ونظام حافظ الأسد، مطلع الثمانينات.
فجأةً، يسترد الفنان بصره. لكنه يفقد السمع. أيضاً، يراجع الأطباء. الإجابة نفسها: لا توجد مشكلة عضوية في جهازه العصبي السمعي. يغادر دمشق سنة 2014 إلى فرنسا. يعود إلى الرسم مجدداً، ويحضّر لمعرض في باريس. لكن هذا الفنان يُقتل أثناء الهجمات التي تستهدف باريس سنة 2015. أيضاً، لأنه وُجد بالصدفة في مسرح «باتاكلان» الذي استهدفه الإرهابيون.
وهكذا، تتنوع المساحة الجغرافيّة والزمنية التي تتحرّك فيها أحداث الرواية، فهي تبدأ من دمشق 2011، وتعود إلى 1946 في كردستان العراق، ثم كردستان إيران، فالاتحاد السوفياتي السابق، فالبصرة، وبغداد، وكركوك، وحاجي عمران، وهولير (أربيل)، فدمشق، وتنتهي في باريس 2015.
من أجواء الرواية:
«سيأتي اليوم الذي أندمُ فيهِ على كلِّ الأشياء التي لم أقترفها، أكثر مِن التي اقترفتُها. لذا، عليَّ ارتكابُ المزيد، حتّى يكون هناك توازن أو تعادل. إن اقترفتم الشَّيءَ أو لم تقترفوه، في كلتا الحالتين، أنتم أبناءُ النَّدم الشّرعيون، وهو الابن الشَّرعيُ للحياة. مهما أخذتنا العزّةُ بالتكبّر والتجبّر والخيلاء، وأمعنا في نفيه عن أنفسنا، أفعالنا ومشاعرنا، فنحن كاذبون. ما مِن أحدٍ دخلَ الحياة، إلاّ وكان النَّدمُ في استقبالهِ. وما مِن أحدٍ خرجَ منها، إلا وهو في وداعهِ، كي يستقبل وافداً آخر، ينوي دخولَ الحياة، لأنه أحد الأبطال الأبديين على مسرح الحياة، ونحن محضُ كومبارس؛ نتناوبُ على الصُّعود إلى خشبة المسرح والنزول منها. لكنَّهُ ليسَ بمعلّمٍ، والحياةُ ليست مدرسةً، ولسنا تلاميذ أبديين. الحياةُ حيوات؛ روايات لا حصر لها، لا ولن تنتهي، يرويها كاتبٌ واحدٌ يحترم نفسهُ، وقرّاءهُ، ونصوصهُ، ولا نحترمهُ. إنه ذلك الكاتب العظيمُ الذي في داخل كلّ واحدٍ منّا؛ واسمهُ النَّدم».
ورواية «كأنَّني لم أكن» هي الرابعة لهوشنك أوسي، بعد روايته «وطأة اليقين: محنة السؤال وشهوة الخيال» (2016) التي فازت في سنة 2017 بجائزة كتارا للرواية العربيّة، فئة الروايات المنشورة، وتمّت ترجمتها إلى اللغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة، ورواية «حفلة أوهام مفتوحة» (2018)، ورواية «الأفغاني: سماوات قلقة» (2020). كذلك صدر لأوسي حتّى الآن تسعة دواوين شعريّة باللغتين العربيّة والكرديّة.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.