خبراء أوروبيون يدعمون تحقيقات كييف في «جرائم الحرب»

مسؤولون يتابعون «بداية شرخ» بين موسكو و5 جمهوريات سوفياتية سابقة

عمّال ينقلون جثث مدنيين قتلوا في بوتشا في 13 أبريل (أ.ف.ب)
عمّال ينقلون جثث مدنيين قتلوا في بوتشا في 13 أبريل (أ.ف.ب)
TT

خبراء أوروبيون يدعمون تحقيقات كييف في «جرائم الحرب»

عمّال ينقلون جثث مدنيين قتلوا في بوتشا في 13 أبريل (أ.ف.ب)
عمّال ينقلون جثث مدنيين قتلوا في بوتشا في 13 أبريل (أ.ف.ب)

بعد الانتقادات التي وجّهها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للاتحاد الأوروبي، واصفاً تصرفه بعدم المسؤولية، ومتهماً الدول التي تزوّد أوكرانيا بالأسلحة، بأنها تسعى بكل الطرق لإطالة الحرب، أعلنت المفوضية الأوروبية أنها بدأت بإرسال خبراء جنائيين ومعدات تكنولوجية متطورة إلى السلطات الأوكرانية لمساعدتها في تجميع الأدلّة لمحاكمة القيادات العسكرية الروسية بتهم ارتكاب «جرائم حرب» أمام المحاكم الدولية.
تسريع وتيرة التحقيقات
وقال ناطق بلسان المفوضية إن الوقت يلعب لصالح إفلات المسؤولين عن هذه الجرائم من العقاب، وإن الاتحاد الأوروبي سيضاعف الموارد البشرية والمالية التي سيضعها في تصرُّف الحكومة الأوكرانية لتسريع وتيرة التحقيقات الميدانية، كي لا تبقى جريمة من غير محاسبة. وكانت فرنسا، التي تتوّلى حالياً الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، حضّت الدول الأعضاء على الإسراع في تقديم المساعدات الجنائية والمالية ومعدّات التحقيق التكنولوجية من الجيل الجديد لدعم النيابة العام الأوكرانية و«المحكمة الجنائية الدولية» في توثيق الجرائم التي ارتكبتها القوات الروسية في أوكرانيا. وأفادت المفوضية الأوروبية بأن المساعدات التي قدمتها الدول الأعضاء حتى الآن لهذا الغرض بلغت أربعة ملايين يورو، وأكثر من خمسين خبيراً جنائياً، وأن هذه المساعدات سترتفع في الأيام القليلة المقبلة.
وكانت خليّة الأزمة الأوروبية التي تشكّلت في الأيام الأولى للحرب الروسية في أوكرانيا عقدت اجتماعاً، يوم الخميس الماضي، اطّلعت «الشرق الأوسط» على تقرير النتائج التي توصّل إليها، والتي تشدّد على ضرورة مواكبة الدعم العسكري والمالي الذي تقدمه الدول الأعضاء إلى أوكرانيا، بالدعم اللوجيستي والتكنولوجي لمساعدة أجهزة النيابة العامة الأوكرانية و«المحكمة الجنائية الدولية» في إعداد ملفّات الاتهام ضد المسؤولين الروس عن الجرائم التي قالت منظمات دولية عدة إنها تجمّعت لديها أدّلة عليها.
وأكّد مسؤولون في المفوضية أن فريقاً من الخبراء الفرنسيين يعمل ميدانياً في أوكرانيا منذ أيام لتشريح جثث الضحايا المدنيين، وتحديد هويتها، وأسباب وفاتها، وأخد عيّنات الحمض النووي بهدف تجميع الأدلّة على الاغتيالات وأعمال الاغتصاب والتعذيب، قبل أن تختفي أو تفقد قيمتها القانونية في المحاكمات بسبب انقضاء الوقت. وكانت فرنسا حذّرت، خلال الاجتماع الأخير لخليّة الأزمة، من أن فريق الخبراء بات على شفا الإنهاك، بعد أيام من العمل المتواصل، بمعدّل تحليل 15 جثّة يومياً، وأنه لن يعود قادراً على مواصلة نشاطه منفرداً بعد نهاية الشهر الحالي على أبعد تقدير.
وكانت ألمانيا وهولندا وسلوفاكيا أعلنت، في اجتماع الخميس الماضي، أنها سترسل فرقاً من الخبراء الجنائيين إلى كييف قريباً، بينما قالت السويد وفنلندا والبرتغال إنها تدرس إرسال مساعدات جنائية في الأسابيع المقبلة. وكانت السلطات الأوكرانية طلبت إرسال خبراء دوليين في التحقيقات الجنائية لتشريح مئات الجثث في المناطق المحيطة بالعاصمة كييف، وتوثيق الجرائم التي قالت إن الجيش الروسي ارتكبها بحق المدنيين، خلال احتلاله لهذه المناطق خلال الأسابيع الماضية.
ويحضّ التقرير الذي صدر عن الاجتماع الأخير لخليّة الأزمة الدول الأعضاء، على «الإسراع في توفير المساعدة اللازمة لتشريح جثث الضحايا من غير إبطاء»، مشيراً للحاجة إلى عشرات الخبراء في علوم البصمات والتحاليل الباليستية والطب الشرعي لتحديد أسباب الوفاة بدقة. وكان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز أعلن، بعد عودته من زيارة كييف قبل أيام، أن بلاده سترسل إلى أوكرانيا قريباً 29 طبيباً متخصصاً وعشرة خبراء في علوم التشريح الجنائي.
وتجدر الإشارة إلى أن المسؤولين الأوروبيين يشددون في تصريحاتهم منذ فترة على ضرورة مثول المسؤولين عن فظائع الحرب أمام المحاكم الأوكرانية أو الدولية، خاصة بعد اكتشاف عدد من المقابر الجماعية في مدينة بوتشا وغيرها من المدن الصغيرة المحيطة بالعاصمة كييف. وكان رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، صرّح، خلال زيارته مدينة بوروديانكا، يوم الأربعاء، قائلاً إن «هذه جرائم حرب، ويجب على الذين ارتكبوها أن يمثلوا أمام القضاء لمحاسبتهم وإنزال العقوبات، لأنه لن يكون هناك سلام من غير عدالة».
يُذكر أن مكتب النائب العام لـ«المحكمة الجنائية الدولية»، كريم خان كان، طلب فتح تحقيق حول جرائم الحرب المحتملة التي ارتكبت في أوكرانيا، منذ عام 2013. وهو التاريخ الذي تقول أوكرانيا إنه كان بداية الاعتداء الروسي عليها. ويحظى طلب فتح التحقيق الذي تقدّم بها المدّعي العام الدولي بدعم 41 دولة، بينها البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
بداية تراجع نفوذ موسكو
إلى جانب ذلك، يلاحظ المسؤولون في الاتحاد الأوروبي أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا بدأ يُحدِث شرخاً في العلاقات بين موسكو والجمهوريات الآسيوية الخمس السابقة في الاتحاد السوفياتي (كازاخستان، قيرغيزستان، طاجكستان، تركمانستان، أوزباكستان) حيث تتمتع روسيا تقليدياً بنفوذ سياسي واقتصادي كبير. يُذكر أن هذه الدول التي بعد استقلالها إثر انهيار الاتحاد السوفياتي بقيت تدور في فلك «الكرملين»، ترددت في إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، وامتنعت عن التصويت على قرار إدانته في الجمعية العامة للأمم المتحدة. في المقابل، يتوقف المراقبون منذ فترة عند القرارات التي اتخذتها هذه الدول بالسماح بخروج المتظاهرين في عواصمها احتجاجاً على الاجتياح الروسي، وإرسالها مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا، ورفض بعضها، مثل كازاخستان وقيرغيزستان، تسديد فاتورة النفط الروسي بالروبل كما طلبت موسكو.
وكانت آخر خطوات الابتعاد عن موسكو، القرار الذي صدر عن لجنة الأمن القومي في قيرغيزستان بمقاضاة الذين يرفعون شعار «Z»، رمز الاجتياح الروسي، بتهمة إثارة النعرات العرقية، وتعرّضه للسجن.
وفيما يواصل المسؤولون الأوكرانيون التحذير في تصريحاتهم من أن الهجوم الروسي على بلادهم سيمتدّ إلى دول الجوار الأخرى، أعلن رئيس كازاخستان، قاسم توكايف، أن بلاده لن تعترف بجمهوريتي دونتسك ولوغانسك اللتين أعلنتا الانفصال عن أوكرانيا، واعترفت بهما موسكو، كما أنه لن يعترف بضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم.
يُضاف إلى ذلك أن برلمان كازاخستان يناقش حالياً اقتراحاً للدعوة إلى استفتاء شعبي حول الانتماء إلى الحلفين، العسكري والاقتصادي، اللذين يربطاها بروسيا. ويقول خبير دبلوماسي أوروبي إنه ليس من السهل على حكومات هذه الدول الحدّ من النفوذ الروسي فيها «لكن لم يعد أمامها خيار آخر، لأن موسكو أصبحت قوة يصعب التكّهن بنياتها وخطواتها المقبلة».
وفي تصريحات، أمس (السبت)، قال كبير مستشاري الرئيس الأوكراني للشؤون الأوروبية والأطلسية، إيهور زوفكفا، إن الخطوة العسكرية لموسكو في حال عدم صدّ هجومها على أوكرانيا، ستكون باتجاه بولندا ودول البلطيق. يُذكر أن الولايات المتحدة دعت، أمس، نحو أربعين دولة إلى اجتماع عسكري، يوم الثلاثاء المقبل، في قاعدة رامشتاين الجوية بألمانيا للبحث في الحرب الدائرة، وسبل دعم أوكرانيا في مواجهة الحرب الروسية، كما أفاد ناطق بلسان وزارة الدفاع الأميركية من واشنطن. ولم توضح الإدارة الأميركية من هي البلدان المدعوّة، مكتفية بالقول إن عشرين دولة أكّدت حتى الآن حضورها.
وفيما دعا البطريرك الروسي كيريل، للمرة الأولى منذ بداية الحرب، إلى السلم وتجاوز النزاعات، فإنه من غير أن يدين العملية العسكرية، أدان البابا فرنسيس من مقرّه في الفاتيكان جميع الحروب، الأوكرانية وغيرها، مشيراً إلى أنها «تدمّر الجميع، المهزومين والمنتصرين»، ودعا المجتمعات إلى «استعادة حضارة الحب وعدم التفرّج على الحروب».


مقالات ذات صلة

زيلينسكي: مقتل 15 ألف جندي روسي خلال القتال في كورسك

أوروبا دبابة روسية مدمرة في منطقة كورسك (أ.ب)

زيلينسكي: مقتل 15 ألف جندي روسي خلال القتال في كورسك

أكد مسؤول عسكري أوكراني، الاثنين، أن قواته تكبّد قوات موسكو «خسائر» في كورسك بجنوب روسيا، غداة إعلان الأخيرة أن أوكرانيا بدأت هجوماً مضاداً في هذه المنطقة.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يلقي كلمته أمام السفراء الفرنسيين 6 يناير 2025 بقصر الإليزيه في باريس (رويترز)

ماكرون يدعو أوكرانيا لخوض «محادثات واقعية» لتسوية النزاع مع روسيا

قال الرئيس الفرنسي ماكرون إن على الأوكرانيين «خوض محادثات واقعية حول الأراضي» لأنهم «الوحيدون القادرون على القيام بذلك» بحثاً عن تسوية النزاع مع روسيا.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا جندي روسي خلال تدريبات عسكرية في الخنادق (لقطة من فيديو لوزارة الدفاع الروسية)

روسيا تعلن السيطرة على «مركز لوجيستي مهم» في شرق أوكرانيا

سيطرت القوات الروسية على مدينة كوراخوف بشرق أوكرانيا، في تقدّم مهم بعد شهور من المكاسب التي جرى تحقيقها بالمنطقة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا صورة تظهر حفرة بمنطقة سكنية ظهرت بعد ضربة صاروخية روسية في تشيرنيهيف الأوكرانية (رويترز)

روسيا تعلن اعتراض 8 صواريخ أميركية الصنع أُطلقت من أوكرانيا

أعلن الجيش الروسي اليوم (السبت)، أنه اعترض 8 صواريخ أميركية الصنع أطلقتها أوكرانيا في اتجاه أراضيه.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا رجال إنقاذ أوكرانيون في موقع هجوم مسيّرة روسية بكييف (إ.ب.أ)

مقتل 5 أشخاص على الأقل بهجمات متبادلة بين روسيا وأوكرانيا

أسفرت هجمات روسية بمسيّرات وصواريخ على أوكرانيا، يوم الجمعة، عن مقتل ثلاثة أشخاص على الأقلّ، في حين قُتل شخصان في ضربات أوكرانية طالت مناطق روسية.

«الشرق الأوسط» (موسكو - كييف)

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟