تيم ليندركينغ... دبلوماسي محترف يقود جهود أميركا لوقف حرب اليمن

قدرته على العمل مع إدارة جمهورية وأخرى ديمقراطية أثبتت كفاءته

تيم ليندركينغ... دبلوماسي محترف  يقود جهود أميركا لوقف حرب اليمن
TT

تيم ليندركينغ... دبلوماسي محترف يقود جهود أميركا لوقف حرب اليمن

تيم ليندركينغ... دبلوماسي محترف  يقود جهود أميركا لوقف حرب اليمن

بعد 14 شهراً من تعيينه مبعوثاً خاصاً لبلاده لدى اليمن، وعند اتفاق الحكومة اليمنية والحوثيين على هدنة ثنائية برعاية أممية، قال المبعوث الأممي تيم ليندركينغ «هذه لحظة حاسمة بالنسبة لليمن، تمنح الأمل والشعور بالفرصة».
كان تصريح المبعوث الذي نشرته «الشرق الأوسط» من الرياض في ذلك اليوم، بمثابة انفراجة بسيطة، لعقدة واحدة من مئات العقد التي تشكل الأزمة اليمنية، التي لا تخفى على المبعوث الأممي الذي قال خلال تلك التصريحات، إن إعلان الهدنة الأخيرة أشاع «طاقة للتجمع هنا»، وأضاف «سأكون حاضراً (لدعم) الشعب اليمني، كما ستكون الولايات المتحدة حاضرة، فالرئيس (الأميركي) أعطى التزاماً لليمن».
لم يمر على حديث المبعوث سوى أيام معدودات حتى خرج اليمن واليمنيون بمجلس قيادة رئاسي يضم رئيساً وسبعة أعضاء، يمثلون مختلف الأطياف السياسية. كان ذلك نتاج مشاورات عقدت في الرياض برعاية خليجية، وتميزت بأنها كانت يمنية - يمنية خالصة، وحظيت بدعم واشنطن التي بعثت بمبعوثها ليكون حاضراً في المنطقة طيلة فترة انعقادها بين 29 مارس (آذار) و7 أبريل (نيسان) 2022.
ويبقى التحدي اليمني ماثلاً أمام ليندركينغ، الذي تقول الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية، إنه حاصل على درجة الماجستير في التاريخ والعلاقات الدولية من جامعة واشنطن في العام 1989، وعلى درجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف من جامعة ويسليان في العام 1985. حصل على جائزة الاستحقاق الرئاسية، وعلى 9 جوائز شرف عليا من وزارة الخارجية، وجائزة الاستحقاق للخدمة المدنية من دائرة الجيش عن خدمته في العراق.

بدأ المبعوث مهمته في الرابع من فبراير (شباط) 2021 مبعوثاً خاصاً، لكنه لم يكن بعيداً عن اليمن؛ إذ شغل سابقاً منصب نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون إيران والعراق وشبه الجزيرة العربية في مكتب الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركية.
وسبق للمبعوث زيارة اليمن في مناسبة عدة. كانت إحداها في العام 2019 وقبل توسده منصبه الجديد، حيث زار عدن. كما زار بعد توليه المهمة الجديدة محافظة شبوة، وذلك بعد تحريرها من قِبل قوات العمالقة المسنودة بدعم تحالف دعم الشرعية في اليمن.
وتصفه الخارجية الأميركية بأنه «موظف مهني قديم في السلك الدبلوماسي للخارجية، وشغل سابقاً، منصب نائب رئيس البعثة في سفارة الولايات المتحدة في الرياض، من العام 2013 إلى 2016، كما شغل منصب مدير مكتب باكستان في وزارة الخارجية من العام 2010 إلى 2013».
ومن العام 2008 إلى 2010، أكمل ليندركينغ فترتَي عمل في العاصمة العراقية بغداد. الأولى بصفته كبير مستشاري الديمقراطية في السفارة الأميركية، والأخرى بصفته المستشار السياسي، للقائد العام للقوات متعددة الجنسيات في العراق، الجنرال تشارلز جاكوب. وقبل عمله في العراق، عمل ليندركينغ مستشاراً اقتصادياً ونائب رئيس البعثة بالوكالة، في سفارة الولايات المتحدة في الكويت. كما شغل منصب المستشار السياسي في سفارة أميركا بالرباط من العام 2002 إلى 2006.
وشملت جولات ليندركينغ الأخرى في السلك الدبلوماسي، العمل مساعداً خاصاً لوكيل الوزارة للشؤون السياسية مارك غروسمان، من العام 2001 إلى 2002، ومسؤولاً عن مكتب لبنان من العام 2000 إلى 2001، ومسؤولاً مراقباً في مركز العمليات. كما عمل ليندركينغ أيضاً في دكا، عاصمة بنغلاديش، ودمشق عاصمة سوريا. انضم ليندركينغ إلى السلك الدبلوماسي في العام 1993، بعد أن عمل في مجال اللاجئين، حيث شغل العديد من المناصب مع المنظمات غير الحكومية الأميركية، ومع الأمم المتحدة في نيويورك والسودان وباكستان وأفغانستان وتايلند. وهو ما يعطيه أفضلية في التعامل مع قضايا المنطقة وفهم مشكلاتها؛ الأمر الذي أشار إليه الرئيس بايدن عند تسميته مبعوثاً خاصاً لليمن. وقال «إن تمتعه بخبرة طويلة في المنطقة، ستساهم في تنفيذ مهمته، والعمل مع مبعوث الأمم المتحدة وجميع أطراف النزاع للدفع باتجاه حل دبلوماسي».

إلمام وكفاءة
يقول البراء شيبان، المحلل السياسي عضو مشاورات الرياض اليمنية، إن «المبعوث الأميركي من الشخصيات التي تتمتع حتى من قبل تعيينها بإلمام بالملف اليمني. لقد تعامل مع اليمنيين بشكل كبير، ولديه تجربة في التعامل مع الملف، حتى عندما تلتقيه تجد لديه المعرفة والخبرة».
ويعتقد شيبان أن المبعوث كان أكثر حماسة ونشاطاً عندما بدأ بتسلم الملف؛ إذ عقد كثيراً من اللقاءات، وكان يلتقى حتى مع اليمنيين الموجودين داخل الولايات المتحدة لكن يبدو أن تعاطي الإدارة الأميركية الحالية قيّد من إمكانية تحركه أو المرونة التي كان يبدو أنه سيتحرك من خلالها في حال وجود إدارة أميركية مختلفة، أو على الأقل تعاط أميركي مختلف مع الملف اليمني.
«الكثير من اليمنيين يثنون على تجربتهم معه، خصوصاً لدى عقد نقاشات ولقاءات؛ إذ يتفاعل بشكل منفتح وإيجابي أكثر أحياناً حتى من المبعوثين الأمميين». يضيف المحلل السياسي «ألاحظ أن نشاطه عندما بدأ كان أكبر؛ لأن يدرك أهمية استعادة الدولة ومفهوم استعادة مؤسساتها وإنهاء حال الملشنة (التحول إلى الميليشيات) التي حصلت في اليمن منذ انقلاب الحوثيين على السلطة (في سبتمبر/أيلول 2014). بيد أن تعامل الإدارة الحالية خصوصاً في تعاطيها مع الملف الإيراني، لا سيما من خلال الدور الواضح والكبير للمبعوث الأميركي للملف الإيراني روبرت مالي، أثر بشكل كبير على قدرة المبعوث الأميركي في التعامل مع الملف اليمني، فاضطر إلى التراجع عن مواقف سابقة كثيرة، أبرزها أهمية كسر الحوثيين عسكرياً قبل الوصول إلى السلام. كان خطاب المبعوث قبل تولي هذه المهمة هو أن الضغط العسكري على الجماعة يستطيع إجبارهم على عملية سياسية. ونظرته للحوثيين كانت مختلفة، فقد كان يرى أن الجماعة الحوثية تستجيب للضغط العسكري، لكن بعدما أزالت الإدارة الجديدة الحوثيين من قائمة الإرهاب اضطر ليندركينغ إلى المناورة والتحرك في إطار الإدارة الجديدة. والمحاذير التي وضعتها الإدارة الأميركية واضح أنها قيّدت من قدرته على المناورة وأثرت على طريقة أدائه وتعاطيه مع الملف اليمني».

إيران والحوثيون
رغم عمل ليندركينغ تحت إدارتين، جمهورية وديمقراطية، فإن قدرته على وصف العلاقة الإيرانية - الحوثية ما زالت متقاربة. فقد اتهم ليندركينغ إيران بلعب دور ضار باليمن، بمواصلتها تسليح الحوثيين وتدريبهم وتجهيزهم، وإرسال الأسلحة والمعدات العسكرية وتهريبها لليمن، وذلك في تحدٍ لقرارات مجلس الأمن الدولي. وخلال مقابلة أجراها الموقع الإخباري «ذا وورلد»، أعرب ليندركينغ عن اعتقاده أن ضرر إيران تعدى اليمن إلى استهداف منشآت النفط السعودية، وجزم بأنها لا تلعب دوراً إيجابياً حتى اللحظة، كما ذهب إلى حد اتهامها بأنها «العامل الرئيسي الذي يلعب التأثير الأكثر ضرراً».
وجود الجهات الخارجية والمتمثلة هنا بإيران ضاعف من استحالة الحلول السياسية اليمنية، في ظل تمسك الحوثيين ومن ورائهم طهران بأن تبقى الجماعة ميليشيات لا يمكن أن تنخرط بشكل سياسي وتقاسم بقية اليمنيين السلطة، أو تنقل الصراع من الأسلحة إلى صناديق الانتخابات.
وللمبعوث تصريح شهير حول الشعب الإيراني خلال مقابلة أجراها مع «الشرق الأوسط» في شهر مايو (أيار) عام 2019، حين قال «نتعاطف جداً مع الشعب الإيراني الذي تحكمه قيادات من أمثال قاسم سليماني والحرس الثوري و(فيلق القدس) بالإضافة إلى دعمهم جماعة (حزب الله) في لبنان ونظام الأسد والتدخل في الشأن السياسي اللبناني والعراقي». وكان ذلك التصريح يسبق مقتل القيادي في الحرس الثوري قاسم سليماني بنحو سبعة أشهر.
ولطالما تحاول الإدارة الأميركية أن تفصل بين الملفين اليمني والإيراني، ورغم استحالة ذلك، وحتى إن حاولت واشنطن فعل ذلك، فكثير من اليمنيين يعتقدون بأن إيران لن تفصل الملفين، وستتعامل مع اليمن كورقة تستطيع تحريكها متى ما توافقت مصالحها ومراوغاتها مع الغرب، سواء في محادثات البرنامج النووي الإيراني أو غيرها من التحركات السياسية.
في الحوار ذاته، قال ليندركينغ أيضاً «نرى أن الإيرانيين يلجأون إلى كل السبل لإطالة أمد الحرب. ويجب أن يكون الشعب اليمني في مقدمة أولوياتنا. ويجب أن نفكر في كيفية إنهاء القتال واستعادة الخدمات الحكومية وحل الأزمات الإنسانية في البلاد التي لا يمكن حلها مع استمرار النزاع وعدم الاستقرار».
كما قال المبعوث في مقابلة أخرى مع «الشرق الأوسط» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 «لم نرَ إيران تلعب أي دور إيجابي في اليمن، وقلنا ذلك منذ فترة طويلة، إذا أرادت إيران أن تُظهر أنها يمكن أن تكون جهة فاعلة ومسؤولة، فعليها أن تبدأ بإنهاء تدخلها في الصراع في اليمن».

صعوبات المهمة
يعتقد الدكتور حمزة الكمالي، وكيل وزارة الشباب والرياضة عضو الفريق الحكومي الإعلامي لمشاورات السويد، أن ليندركينغ يتميز بأن لديه فهماً حقيقياً لأزمة اليمن بعيداً عن النظرة القاصرة التي تحصر الملف عند رؤية اليمن بوصفه خطراً أمنياً على الولايات المتحدة ومصالح واشنطن، كما ينظر ليندركينغ لليمن بنظرة اليمنيين «أي أنه لا ينظر إلى جانب الصراع العربي - الإيراني لليمن بقدر ما يقرأ ما يتعلق بمستقبل اليمن على المستوى السياسي والاجتماعي. هذه النظرة وهذه القراءة والقدرة الكبيرة على الاستماع التي يمتلكها المبعوث مكّنته من فهم أكثر للصراع رغم تغير الإدارات الأميركية. ويعد حصوله على ثقة إدارة ديمقراطية ليكمل عمله الذي كان تحت إدارة جمهورية في الملف ذاته، دليلاً على كفاءته».
ومن البديهي – كما يقول الكمالي - أن يواجه المبعوث صعوبة في الملف اليمني بسبب تغير الإدارة الأميركية، ومن وجهة نظر يمنية «نعتقد بأن هناك عشوائية في اتخاذ القرار الأميركي قد تكون أثرت على أداء المبعوث، سواء الكونغرس أو وزارة الخارجية التي أعتقد أن وجهة نظر وزير الخارجية تسطع فيها بموازاة ملفات أخرى في المنطقة».
النقطة الأخرى التي أوردها البراء شيبان، تتمثل في القيود التي يعمل في ظلها المبعوث الأميركي «فهناك أولوية واضحة للإدارة الأميركية، وهي عقد صفقة اتفاق نووي مع إيران». ويقول، إن هذه الأولوية تعني أن الحماسة التي بدأ بها ليندركينغ باتت الآن أقل مما كانت عندما تولى مهامه. كذلك، كان لحال الفتور التي صاحبت العلاقة الأميركية - الخليجية، أثر واضح على جهود ليندركينغ.
بالنسبة للحال الراهنة والمستقبل، يذهب شيبان إلى أن ليندركينغ يحاول إيجاد منفذ لتغيير تعاطي الإدارة الأميركية مع الملف اليمني، حتى يستطيع القيام بخطوات تختلف عن التعاطي الحالي، وإذا تغير ذلك التعاطي سيمتلك المبعوث أوراق ضغط، ومشكلة المبعوث الحالية هي افتقاده أي أوراق ضغط أو تأثير على الجماعة الحوثية، والسبب الرئيسي باعتقادي هو أن إدارته لا تخدمه في هذه المرحلة، ولكن في حال تغيّر التعاطي - وهو ما قد يحصل في المستقبل القريب - فإن ذلك سيمنح المبعوث الأميركي أدوات ضغط تمكنه من القيام بدور الوسيط بشكل أفضل مما هو الحال في الوضع الراهن.
أما حمزة الكمالي، فيتصور أن تمكين ليندركينغ بشكل أكثر فيما يتعلق بالقرار الأميركي في اليمن سينجم عنه «حلحلة أكبر على الصعيدين السياسي والعسكري»، مضيفاً «أرى أن فهم ليندركينغ يجعله صاحب رؤية لليمن، سواء بقى في منصبه أم لم يبق، فهو من أبرز السياسيين الأميركيين القلائل الذين يفهمون اليمن. إدراك المبعوث للأبعاد الاجتماعية والمكونات اليمنية، ولقاءاته مع الجاليات اليمنية في الخارج، كل ذلك يؤكد عمق نظرة الرجل للمجتمع اليمني، وهذا ما ينعكس بشكل لا إرادي على رؤيته ومقاربته للملف اليمني».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.