مصر: ترحيب فني بـ«سينما الشعب»

يهدف إلى دعم إنتاج الأفلام وتحقيق «العدالة الثقافية»

يحدد مشروع «سينما الشعب» سعر التذكرة بأربعين جنيهاً مصرياً فقط
يحدد مشروع «سينما الشعب» سعر التذكرة بأربعين جنيهاً مصرياً فقط
TT

مصر: ترحيب فني بـ«سينما الشعب»

يحدد مشروع «سينما الشعب» سعر التذكرة بأربعين جنيهاً مصرياً فقط
يحدد مشروع «سينما الشعب» سعر التذكرة بأربعين جنيهاً مصرياً فقط

رغم أن محافظات الصعيد والوجه البحري في مصر، عرفت السينما في فترة مبكرة من أوائل القرن الماضي، فإن دُور العرض السينمائية فيها دفعت فاتورة العمليات الإرهابية التي شهدتها مصر في ثمانينات القرن الماضي، حيث هُدّدت باستهدافها، مما أدى إلى إغلاقها وهدم أغلبها وإقامة مشروعات تجارية بدلاً منها، وأصبحت هناك محافظات عدة تفتقر وجود دار عرض واحدة حتى الآن. وأطلقت وزارة الثقافة المصرية مشروعاً جديداً تحت عنوان «سينما الشعب» لإعادة عروض الأفلام إلى جمهور جنوب مصر، وكذلك في الوجه البحري.
ويهدف المشروع الذي دشنته وزيرة الثقافة المصرية د. إيناس عبد الدايم، إلى دعم صناعة السينما وتعظيم دورها التنويري للارتقاء في المجتمع، وتحقيق مبدأ العدالة الثقافية، وفتح آفاق جديدة للاستثمار الفني أمام الأعمال السينمائية من مختلف دول العالم.
ويعتمد مشروع «سينما الشعب» على استخدام قاعات السينما، التي تمتلكها وزارة الثقافة في مختلف قصور الثقافة بالمحافظات وتزويدها بأجهزة عرض حديثة، ويُطلق المشروع على مراحل عدّة، تبدأ الأولى منه، في خمسة مواقع بأربع محافظات هي: «سينما قصر ثقافة قنا، وسينما السادات، وشبين الكوم في المنوفية، وقصر ثقافة الأنفوشي في الإسكندرية، ومكتبة البحر الأعظم في الجيزة». وتشمل المرحلة الثانية، أربع محافظات هي: «كفر الشيخ، ومرسى مطروح، والوادي الجديد، وجنوب سيناء»، على أن يُعمم في بقية المحافظات في وقت لاحق.
وحرصاً على جذب مختلف شرائح المجتمع وتحقيق العدالة الثقافية، في ظل ارتفاع أسعار تذاكر السينما بالعاصمة المصرية القاهرة، حيث وصلت أسعار تذاكر قاعات السينما في المولات التجارية، إلى مائتي جنيه (الدولار الأميركي يعادل 18.5 جنيه مصري).

                                                  قصور الثقافة تستعد لاستقبال فيلم «واحد تاني»
ويحدد مشروع «سينما الشعب» سعر التذكرة بأربعين جنيهاً مصرياً فقط، بهدف نشر التنوير والثقافة السينمائية ومواجهة الفكر المتطرف.
ويبدأ العمل في المشروع أول أيام عيد الفطر، بعرض أحدث أفلام النجم أحمد حلمي «واحد تاني» من تأليف هيثم دبور، وإخراج محمد شاكر خضير. وأكد هشام عطوة، رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، أنه اتفق مع شركات توزيع الأفلام الكبرى، على تقديم أحدث عروضها في التوقيت نفسه لطرحها بدور السينما في القاهرة».
ويسبق عروض الأفلام الطويلة في قصور الثقافة، عرض أفلام قصيرة روائية ووثائقية من إنتاج قطاعات وزارة الثقافة، مثل أكاديمية الفنون، والمركز القومي للسينما، وكذلك الأعمال المستقلة المميزة، التي تساهم في نشر الوعي المجتمعي.
فيما أكد الفنان تامر عبد المنعم، رئيس الإدارة السينمائية في هيئة قصور الثقافة، «أنّ مشروع (سينما الشعب) سيعمل على زيادة دور العرض السينمائية، موضحاً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «نحن لا نملك حالياً، سوى 320 دار عرض في مصر، وهو عدد محدود للغاية، مقارنة بعدد السكان، وسيعمل مشرع سينما الشعب، مع التوسع المخطط له، على زيادة عدد الدور».
ويؤكد عبد المنعم قائلاً: «وجدنا ترحيباً من شركات التوزيع الكبرى، التي تعاقدنا معها لعرض أفلامها في قاعات العرض، والتي جُهزت، وسيخضع عرض الأفلام للاختيار، إذ إننا سنختار أفضل الأفلام من حيث مستواها الفني، والرسالة التي تقدمها، ومع سعر التذكرة المخفّض مقارنة بأسعار السوق، فإن المواطن سيتمكن من الذهاب وأسرته لمشاهدة الأفلام الحديثة. وبذلك نعيد جمهور المحافظات إلى السينما لزيادة الوعي والتنوير ومحاربة الأفكار المتطرفة».

                                                          وزارة الثقافة تحاول الاستفادة من قاعات قصور الثقافة
وحظي المشروع بترحيب سينمائيين مصريين، من بينهم المنتج هشام عبد الخالق، الذي أعرب عن ترحيبه بـ«سينما الشعب»، مشيراً إلى أن «إضافة أي دار عرض جديدة تصب في صالح صناعة السينما، وتدفع لازدهارها واستمرارها».
ويضيف عبد الخالق: «إن وزارة الثقافة تملك قصوراً مجهزة في أماكن متميزة بجميع أنحاء مصر، وهي غير مستغلة بالكامل، ولا بد من تجهيز القاعات بأحدث التقنيات، وعلينا نحن المنتجين والموزعين أن ندعم هذا المشروع في عرض أفلامنا، حتى لو كانت التذكرة بأسعار رمزية، فالمهم أن تصل السينما إلى قرى مصر ونجوعها، لأن إيرادات الأفلام تأتي بنسبة 80 في المائة من القاهرة، و10 في المائة من الإسكندرية، و10 في المائة من بقية المحافظات، التي تفتقر أغلبيتها لوجود دور عرض بها، مما دفعني لإقامة مجمع سينمات في طنطا قبل عامين، يضم سبع قاعات عرض».
ويوضح عبد الخالق قائلاً: «إن أي إيرادات يحققها الفيلم في سينما الشعب، ستمثل إضافة للمنتج، لا سيما أن نسخة الفيلم، لم تعد تمثل تكلفة كبيرة، كما أنه يشجع الجمهور ليعاود الذهاب إلى السينما، إذ أن لديه تعطشاً كبيراً لمشاهدة الأفلام الحديثة، الأمر الذي سيشجع مستثمرين لإقامة دور عرض جديدة بمختلف المحافظات».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)