بسعادة لقاء الكبار، تحاور الشاعرة نجاح مساعيد قامة سورية، سلوم حداد. «حياك الله من بلدك الثاني، الإمارات»؛ ترحب بمن تشدد بأنه أستاذ، صعد إلى القمة واستقر هناك. يضيف بحضوره في برنامجها «هلا بك» (تلفزيون دبي)، وقار الفنان الحقيقي. فالرجل ابن الحياة، عجنته وخبزته، وهو اليوم خلاصة تجاربها. عمل نادلاً في البدايات، وبفخر يتحدث عن درب لم تكن مفروشة بالورود، يمشيها بعزيمة العظماء.
تسأله من أين يشاء أن تبدأ بفلش رحلة العمر؟ من الصعوبات مع المحاولات الأولى، أو من ذلك الشاب الحلبي الباحث بتعبه عن لقمة عيشه؟ كانت الفترة بين ستينات القرن الماضي وسبعيناته، حين «أعاب» المجتمع مهنة التمثيل. صارح الحالم والدته برغبته في دراستها والتخصص بمصر. فأجابت بالرفض. أرادته طبيباً، وتركت له خيارين: (مهندس أو محامٍ). ظل الشغف يصطدم بـ«لا» حاسمة، إلى أن رسب في البكالوريا العلمي ثلاث مرات. تصغي نجاح مساعيد إلى بدايات نجم كبير انطلق خطوة خطوة. «أحبُ الأدبي، ولستُ بارعاً في الرياضيات والفيزياء»؛ لكن الأم أصرّت حتى فقدت الأمل وتركت الابن الموهوب يلتقط إشارات الحياة.
يتنهد عالياً وهو يطرح نقاش احترام المهن. تؤلمه نظرات اجتماعية ظالمة حيال بعضها. فهو ممثل، وذلك فخره. والمهنة ليست خاصرة رخوة للاستخفاف بها والتقليل من شأنها. يدافع عنها بإصراره على الفن الراقي. لذلك يجيب على سؤال محاورته بأن السيناريو الجيد يمنحه إحساساً بالنشوة. ظل لساعات يقرأ نص «الزير سالم» ويذرف الدمع. لا ينسى تأثره بما حمله من قيم ملحمية. قرأه دفعة واحدة قبل أن يعلم بأنه «الزير».
بضيافة نجاح مساعيد وأمام كاميرا المخرج أكرم فاروق، إنسان عتيق في العلاقة مع الزمن. لأكثر من مرة، تُعرب محاورته عن سعادتها بوجوده في برنامجها الرمضاني، وتأمل أن تكون الحلقة بمستوى قامته. يناديها «الأخت نجاح»، ولا ينسى شكر الجنود المجهولين في الكواليس. تساعده فقرات البرنامج على الشعور بأنه في منزله، يقلّب أوراقاً من دفاتر ذكرياته. تستعين مساعيد بأبيات الشعر والأقاويل الخالدة لاستعادة المحطات، فتروق سلوم حداد هذه الأجواء ويُعطي من خبرة الأيام شيئاً مما يملك.
من بين زوّادة التجارب، عمله في نسخ اللوحات لرسامين كفان غوخ وسواه. ببقايا الرسام المترسّب في أعماقه، يلون سلوم حداد الحلقة ويعتني بها كلوحة. تزيده مساعيد برقيّها وشاعريتها إلهاماً، فيتكلم كما لو أنه في عشاء مع صديقة. ولأنهما في دبي، تعيده إلى مسلسل «حارة الملح» والسفرة الأولى خارج سوريا في الثمانينات، حين كانت الإمارات في مرحلة ما قبل الوحدة، ولم يكن العمران الضخم على حاله. واليوم هي نموذج في السباق مع المستقبل.
أكثر من مائتي مسلسل، وسلوم حداد لا يساوم على المبادئ. بالنسبة إليه، لكل إنسان سيرة ذاتية، والقرار له إن كانت مشرّفة أم مدعاة للخجل. ولأن المجتمع أذواق وخيارات، تبنّى لنفسه رسالة الدراما الهادفة وتحمّل مسؤولية التأثير في ثقافة جيل. يقول: «إننا عانينا ما يكفي من التفاهة، ولا نهوض للفن بانحدار المستويات».
تحت الدوش وبعد يوم تصوير طويل، يعيد سلوم حداد تقييم أدائه. يرى نفسه «ممثلاً رديئاً»، ويفكّر بأنه لو صوّب مشهداً لكانت النتيجة أفضل. تتألم محاورته لفرط قسوته على نفسه، وتسأله إن كان فناناً يصعب إرضاؤه. يجيب بالتأكيد، مع درس لقنته إياه الحياة: «جلد الذات يجعلنا مختلفين».
الأهم أن يضع المرء رأسه على مخدته، فلا ينهشه عذاب الضمير. وسلوم حداد بنى اسماً مُذهّباً، منذ أن أثبت حضوراً بأدوار ثانية وثالثة، من ثَم تسلّمه البطولة بعدما استحقها. مشى طويلاً على طريق «شارع بغداد» في دمشق، وهو يذرف دموع الفرح. كان ذلك حين منحه المخرج علاء الدين كوكش الفرصة الأولى لأداء دور البطولة في مسلسل «حصاد السنين». يرمق سنواته اليوم بنظرة رضا. لقد علّمته أن الألم ملح الحياة، ومن رحم الأحزان تولد الأفراح. فحتى الأم تمرّ بمخاض لتضع طفلها. وأروع النِعم أن السماء أهدته ولدين هما في مراكز متقدمة، لم يتدخل في رسم أقدارهما كما فعلت والدته.
حميمة فقرات البرنامج، ودافئة بالشعر والكتب وفنجان القهوة. تستعيد نجاح مساعيد أبياتاً من قصائد، فتعدّل بها مزاج النجم، هو المؤدي دورَي أبي الطيب المتنبي ونزار قباني. لكنه بعد انتهاء المسلسل، يحاول إفراغ «حمل» الشخصية، لإفساح المجال لولادة جمال آخر يضاف إلى مسيرته. هكذا هي الحياة، غَرفٌ تلو الغَرف، وولادات متتالية على حساب الحق في الفناء.
تتلو له «أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي»، لمحمود درويش، وهو يرتشف قهوته. يترحّم على الوالدة، فقد علّمته أن خيارات الأهل تجاه أولادهم لا تصيب دائماً، لذلك ترك لولديه حرية مواجهة الأيام. ولم يفته وضع زوجته في مكانها العالي: «ربّت الولدين، وتحمّلت نزواتي وغيابي الطويل عن المنزل. حصّنت أسرتي وأعجز عن إيفائها حقها». هديته الأولى لها كانت طوقاً كُتب عليه «Together Forever»، وهذا عهده إلى الأبد.
لقاء شاعري مع نجاح مساعيد في «هلا بك»
لقاء شاعري مع نجاح مساعيد في «هلا بك»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة