كيف تصبح الملابس المهترئة ذات قيمة تجارية؟

تتخلص منها المؤسسات الخيرية.. لكن المصانع الهندية تعيد تدويرها وتبيعها ثانية إلى المستهلك الغربي

يمكن رؤية مجموعات من النساء وهن يصنفن تلك الخرق والقطع في أكوام مختلفة الألوان  -  يتم تقطيع وتمزيق أكوام من المعاطف والسترات الثقيلة والخفيفة والسراويل التي تخلص منها مستهلكون لتتحول إلى كتلة متشابكة من الخيوط
يمكن رؤية مجموعات من النساء وهن يصنفن تلك الخرق والقطع في أكوام مختلفة الألوان - يتم تقطيع وتمزيق أكوام من المعاطف والسترات الثقيلة والخفيفة والسراويل التي تخلص منها مستهلكون لتتحول إلى كتلة متشابكة من الخيوط
TT

كيف تصبح الملابس المهترئة ذات قيمة تجارية؟

يمكن رؤية مجموعات من النساء وهن يصنفن تلك الخرق والقطع في أكوام مختلفة الألوان  -  يتم تقطيع وتمزيق أكوام من المعاطف والسترات الثقيلة والخفيفة والسراويل التي تخلص منها مستهلكون لتتحول إلى كتلة متشابكة من الخيوط
يمكن رؤية مجموعات من النساء وهن يصنفن تلك الخرق والقطع في أكوام مختلفة الألوان - يتم تقطيع وتمزيق أكوام من المعاطف والسترات الثقيلة والخفيفة والسراويل التي تخلص منها مستهلكون لتتحول إلى كتلة متشابكة من الخيوط

ربما بات مشهد وجود ملابس غير مرغوب فيها على أعتاب المؤسسات الخيرية في الغرب شائعا، لكن من يتبرعون بهذه الملابس لن يفكروا كثيرا في الأمر، لذا قد يذهلون عند اكتشافهم أن المطاف ينتهي بها إلى أكبر سوق للملابس المستعملة في الهند.
عند المرور بقلب أكبر سوق لتلك الملابس في آسيا في بانيبات، التي تقع على بعد 90 كلم من العاصمة الهندية دلهي، يمكن للمرء أن يرى حاويات تبين أن هذه الملابس تبرع بها أشخاص من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأوروبا، وألمانيا، وكندا، والشرق الأقصى، وآسيا، وكوريا الجنوبية، وغيرها.
يتم تقطيع وتمزيق أكوام من المعاطف، والسترات الثقيلة والخفيفة، والسراويل التي تخلص منها مستهلكون، لتتحول إلى كتلة متشابكة من الخيوط ليعاد تدويرها واستخدامها في صناعة أغطية وسجاجيد وشراشف، ويعاد شحنها إلى الغرب في مشهد غريب من نوعه.
وقد يظهر من قلب هذا الخليط قطعة قديمة ذات قيمة قد تتوق إلى الحصول عليها متاجر الملابس الخاصة في الغرب على حد قول بارفيندر سينغ مدير مصنع إعادة تصنيع. وأوضح سينغ: «تتم إعادة الملابس القديمة إلى الولايات المتحدة، وتباع بسعر كبير، فلا شيء يضيع هباء». وتبلغ كمية الملابس القديمة، التي تعمل على تدويرها شركة سينغ يوميا، 75 ألف كغم.
وتعد بانيبات مركزا عالميا لتدوير الملابس المستعملة، وتشغل إيطاليا المركز الثاني، وتنتج بانيبات أكثر من 400 ألف كغم من الغزل يوميا.
وتأتي المواد الخام في تلك الصناعة في بانيبات من سوق الملابس المستعملة الدولية. وتمثل الملابس المستعملة من 20 إلى 30 في المائة من هذه الكميات، وهي ملابس لم يعد لها استخدام في المؤسسات الخيرية، أو مؤسسات إعادة التصنيع لسبب أو لآخر.
ويمكن رؤية مجموعات من النساء وهن يصنفن تلك الخرق والقطع المهلهلة في أكوام مختلفة الألوان. وبمجرد تصنيف تلك الخرق بحسب اللون، يتم تمريرها في ماكينات تمزيق، وغسلها ثم إعادة غزلها مع بعض الخيوط الصناعية. ولا يمكن صباغتها، ومن هنا يكتسب تصنيف الأقمشة على أساس اللون أهمية. وكانت آخر خطوة قبل أن يصبح الغزل جاهزا للاستخدام هو برمه باستخدام ماكينة ضخمة حتى يصبح أكثر نعومة وأقوى، فالغزل المتهرئ ضعيف. لذا تتم إضافة الخيوط الصناعية من أجل تدعيمه وتقويته.
وتنتج شركة «دهارام بال ولين إنداستريز»، التي يملكها آل جندالز، 10 آلاف كغم من خيوط الغزل يوميًا من 20 طنا من الملابس المستعملة التي يتم وضعها في مكان مفتوح تحت مظلة من الصفيح إلى أن يتم نقلها إلى ماكينة التمزيق لاستخلاص الألياف الخيطية. ويتم استخدام تلك المواد الخام بعد ذلك من أجل إنتاج أغطية، وقماش للزي المدرسي، والستائر ذات المربعات الحمراء والسوداء التي تنتشر بين أفراد جماعة ماساي في تنزانيا وكينيا.
وقال ميهر سينغ، مدير وحدة الغزل المستعمل، لكاتب المقال وهو يبتسم: «دائما ما نحصل على أسعار مرتفعة حين تكون هناك حاوية قادمة من كوريا. لقد استعدنا كل شيء بداية بالمال ووصولا إلى السلاسل الذهبية من جيوب الملابس الكورية». وأوضح أن الملابس المستعملة الأميركية كانت لطيفة لأنها عادة ما تكون في حالة جيدة. وأضاف أن الإيطاليين مثل الهنود حيث يفتشون في كل جيوبهم جيدا قبل التخلص من الملابس القديمة.
وقد يرى الكثيرون أن الغزل المستعمل قذر ودون المستوى، لكن نظرة واحدة تكفي لاكتشاف التحول، الذي يشبه السحر، الذي يحدث للملابس المتهرئة بحيث تصبح أشياء ذات قيمة تجارية. ويبيع التجار كل ذلك الغزل والأنسجة إلى جنوب آسيا وبعض المناطق في أفريقيا. إضافة إلى ذلك، تمثل منظمات المساعدة الدولية أحد أكبر المشترين، حيث يطلبون ملايين الأغطية التي تستخدم ضمن جهود الإغاثة في المناطق التي تتعرض لكوارث حول العالم.
ويتم تمزيق الملابس المستعملة إلى قطع مربعة الشكل من أجل بيعها كخرق مسح تستخدم في مسح الطلاء، والمواد الكيميائية، وصناعات البناء لمشترين في اليابان وأستراليا. ويتم استخدام مخلفات الأقمشة في حشو الوسائد. حتى مصممو الأزياء الهنود يستعينون بتلك الملابس المعاد تصنيعها في عمل مجموعات الأزياء. لذا كان من الممتع رؤية «الملابس المستعملة» كمصدر إلهام لمجموعات أزياء خريف - شتاء 2015 لثلاثة مصممين على الأقل خلال أسبوع أزياء أمازون في الهند الذي أقيم في نيودلهي. وكان يتصدر اللونان الأبيض والأسود مجموعة ديفيد أبراهام، وراكيش ثاكور، التي تحمل اسم «قديم جديد»، وتم استخدام تطريز كانثا من غرب البنغال وأوديشا في صناعة قطع المجموعة.
كذلك كان هناك قطع «كورتا»، و«سلوار»، والسراويل الضيقة، وبعض السراويل الواسعة من الأسفل، ومجموعة متنوعة من سترات «نهرو»، وقطع تغطي القسم الأعلى من الجسم تمت إعادة تشكيلها، مما أضفى طابعا عصريا وعمليا على المجموعة. واستخدمت دار «ريكليمد»، التي تتخذ من دلهي مقرا لها، قطع الساري القديمة والملابس المستعملة، والأكياس البلاستيكية المتهرئة، مواد خاما لصناعة ملابس وكماليات رائجة يمكن ارتداؤها.
وأنشأ هيمانشو شاني، وميا موريكاوا، متجرا يركز على الأزياء التي تحافظ على قيمتها. وقالت ميا: «القيمة مصطلح نسبي وأعتقد أن (ريكليمد) تعبر عن ذلك بشكل جميل، فهي تجعلك تفكر في المخلفات، وأنماط الاستهلاك، والإمكانيات الكامنة في القطع التي يتم الاستغناء عنها».
وتحصل الدار على الأقمشة التي تستخدمها، وهي أغلبها من الكاكي المصنوع يدويا، والحرير الطبيعي، والقطن، من نساجين في كوتش في ولاية غوجارات بغرب البنغال. واستخدمت «ريكليمد» القطع المتبقية من تلك الأقمشة في عمل قمصان، وفساتين، وصديريات، وغيرها من أشكال الملابس.
وقال هايمانشو الذي تخرج في أكاديمية «دوموس» للتصميم والأزياء في ملاينو: «كل قطعة تصنع من قماش محدود، لذا تعد كل قطعة فريدة بشكل ما». وللحصول على المواد الخام، تزور ميا الأسواق التي تقام يوم الأحد في دلهي القديمة من أجل اختيار قطع ساري قديمة من أجل «ريكليمد». وتقضي ميا وقتا طويلا في فرز وتصنيف أكوام من الملابس المستعملة المعروضة للبيع من أجل اختيار قطع ساري قديمة من القطن والحرير. وعادة ما تصبغ ميا قطع الساري القديمة، وتصنع منها ملابس، وقمصانا. وتصل أسعار القطع التي تقدمها «ريكليمد» إلى 9 آلاف روبية، بينما لا يهتم الكثير من المتسوقين بأصل الملابس التي يشترونها، حيث تمكن خط الإنتاج من جذب عدد من العملاء الذين يسعون إلى التعبير عن موقفهم البيئي والسياسي من خلال ما يرتدونه من ملابس. وقال هيمانشو: «لا نعتقد أن الناس يتشككون في ارتداء ملابس مستعملة. كذلك تتم إعادة صبغ القماش المتهرئ، وتمر الملابس عبر عملية تحول شاملة حتى تصبح في حالة جيدة كالجديدة».
تتراوح عائدات مجال استخدام خيوط الأكريليك، وخيوط الصوف، في صناعة الأغطية في بانيبات وحدها بين 12 و15 مليار روبية بحسب ما أوضح اتحاد صناعة الأصواف والملابس المستعملة في الهند. إضافة إلى ذلك يتمتع الغزل المعاد تصنيعه من القطن والصوف بقيمة تجارية. وتعد صناعة الأبسطة التي تفرش على أرض الحمامات، ويستخدم في صناعتها القطن المعاد تصنيعه، صناعة قيمتها 200 مليار روبية. ويقسم مصدرون مثل نيتيش ميتال بالغزل المعاد تصنيعه. وقال ميتال الذي يصنع سجاجيد توضع على عتبات الأبواب لمتاجر التنزيلات في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وإيطاليا: «إنها صديقة للإنتاج. فضلا عن ذلك، يريد عملائي أسعارا جيدة، ولا يهتمون بالجودة العالية كثيرًا».
تنتج نحو 30 وحدة يوميًا 500 طن من النسيج المعاد تصنيعه من السراويل، والقمصان القطنية، التي تستخدم في صناعة السجاجيد. ويمكن نسج هذا الغزل داخل أغطية وسجاجيد، وكذلك يمكن استخدامه كنوع رخيص من الحشو. وتعمل «غونج»، إحدى المنظمات التي لا تهدف للربح والرائدة في مجال إعادة تصنيع الأقمشة، على أكثر من 20 ألف كيلوغرام من الملابس القديمة شهريا، ويدعم مركز المعالجة في المنظمة فريقا من 80 فردا ينفذ عمليات إصلاح دقيقة، وتصنيف، وتعبئة، ونقل. وتتم مراكمة حتى الأجزاء المتبقية من الملابس، التي تبدو غير قابلة للإصلاح، واستخدامها في عمل شراشف السرير، أو المناشف الصحية للنساء. وتتنوع القطع، التي يمكن إعادة تصنيعها من قطع الملابس الأساسية، مثل السراويل، والبلوزات، والملابس الداخلية، إلى القطع المستخدمة في المنزل مثل الحشيات، والحقائب، والأزرار، وسلاسل المفاتيح، والدفاتر. ويتم منح جميع تلك القطع حياة جديدة، ثم نقلها على شاحنات إلى منظمات مجتمعية تقع في قرى نائية بالهند.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)