حسب الشيخ جعفر... أخذ من آبائه الشعريين ثم اختطّ مساره الخاص

رحيله اقترن بصدور أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء

حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
TT

حسب الشيخ جعفر... أخذ من آبائه الشعريين ثم اختطّ مساره الخاص

حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة

من المفارقة أن يقترن رحيل الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر بصدور أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء في بغداد، وهذا الرحيل المفاجئ سيفتح الأبواب واسعة أمام النقاد لإعادة قراءة وتقييم تجربة هذا الشاعر، التجربة الغنية بعطائها وتنوعها وألقها، ووضعها في مسارها الحقيقي في سِفر الشعر العربي الحديث.
ويمكن اختزال تجربة الشاعر في أنها ثمرة سلسلة من الإخفاقات والإحباطات والفقدانات التي وشمت حياته، منذ أن غادر مدينته القروية الوادعة: ميسان، بأهوارها وبراءتها، واقتحم عالم المدينة المعاصرة، متمثلة ببغداد أولاً، وموسكو ثانياً، فكان مثل بدوي الروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي فزع هو وناقته عند دخول المدينة الحديثة، وربما بمثال أقرب مثل الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، وهو يواجه مدينة القاهرة العملاقة التي صدمته وعدها «مدينة بلا قلب» بعد أن كان قانعاً بما تقدمه له قريته الوادعة في «المنوفية».

ولكي يستعيد الشاعر تماسكه في وجه رياح التغيير التي حاولت أن تجرفه بقوة، راح يتوسل بالرموز والتمائم البدائية مثل الكوز والحندقوق ونخلة الله، ورموز الطفولة والأمومة وغيرها. ولذا لم يكن غريباً أو مفاجئاً أن يستهل الشاعر ديوانه الأول «نخلة الله» بقصيدة عن الكوز، كتبها عام 1964 متوسلاً به أن يستعيد من خلاله لمحاً من الماضي وحرارة خبز أمه: «وأمدُّ حبلاً من رماد يدي يا مطر النسيم إلى يديك لأحس وهجاً في يديك، لمحاً من الماضي، حرارة خبز أمي، وهج بسمتها الحنون». وفي قصيدة «نخلة الله» المكتوبة عام 1964 أيضاً يقيم الشاعر صلاته البدائية، وهو يتوحد ويتماهى مع نخلة الله، تميمته الأليفة: «يا نخلة الله الوحيدة في الرياح في كل ليل تملئين عليَّ غربتي الطويلة بالنواح فأهبّ: جئتكِ... غير أني لا أضمّ يدي وحبي إلا على الظل الطويل، ولا أمسّ سوى التراب وأنا وحيدٌ مثل جذعك، ظل يلفحني الغياب».
وحسب الشيخ جعفر ليس اسماً طارئاً في سِفر الشعر العراقي الحديث. إنه بالأحرى علامة مائزة وفارقة في مسيرة الشعر العراقي الحديث، منذ أن نشر عام 1962 قصيدته الأولى في مجلة «الآداب» البيروتية والتي لفتت إليه الانتباه بوصفه شاعراً ستينياً متميزاً ومجدداً. إلا أن البداية الشعرية الحقيقية الممتلئة للشاعر كانت مع ديوانه الأول «نخلة الله» عام 1969، ثم ديوانه الثاني «الطائر الخشبي» عام 1972، ولاحقاً بثلاثيته الشعرية عبر ديوانه «زيارة السيدة السومرية» عام 1974، ثم برباعية «عبر الحائط في المرآة» عام 1977 والتي توّجته شاعراً متميزاً عن أقرانه. شعراء الستينات، بشكل خاص شعراء «البيان الشعري» فاضل العزاوي وفوزي كريم وسامي مهدي وخالد علي مصطفى، والذين انشغلوا بمشروعهم الحداثي الجديد الذي أعلن عن القطيعة مع حداثة جيل الخمسينات الذي مثّلته تجارب نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، كما انشغلوا بالحفر في تضاريس اللغة الشعرية في ملامسةٍ لخصوصيات وتخوم قصيدة النثر وعرّابيها أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، وها هو الشاعر حسب الشيخ جعفر اليوم يقف شامخاً بأعماله الشعرية الكاملة وقد أنجز عبر سبعة عقود هذا الطود الشعري الباذخ الذي يحق لنا أن نتباهى به اليوم. ولم يقتصر إبداع حسب الشيخ جعفر على الشعر فقط بل أغنى المكتبة العربية بترجمات مهمة لشعراء روس بارزين أمثال ألكسندر بلوك، وسيرغي يسفين، ومايكوفسكي وآنا أخماتوف وغيرهم، كما كتب الرواية والمذكرات والدراسات الأدبية المختلفة.
أن أهم ما يميز الشاعر عن أقرانه شعراء الستينات، أنه لم يتنكر لآبائه الشعريين، شعراء الخمسينات، بل عمد إلى تطوير أنموذجهم الشعري الجديد، فأخذ من نازك الملائكة وهجها الرومانسي، ومن البياتي أقنعته وبساطته والتزامه بقضايا الإنسان، ومن السياب لغته وبنيته المدروسة للقصيدة الحديثة، وهو لم يقتنع بذلك فقط، بل سار بهذا المنجز نحو آفاق جديدة تتمثل في تطويره قصيدة التدوير التي كانت لها بدايات متواضعة لدى شعراء الحداثة آنذاك، جعلت الشاعرة نازك الملائكة تقف منها موقفاً متحفظاً في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» الصادر عام 1962. في قضية التدوير استطاع حسب الشيخ جعفر إيجاد صيغة بنيوية شعرية جديدة تتجاوز البنية التقليدية لقصيدة الشعر الحر القائمة على وحدة البيت ومحدودية عدد التفعيلات، نحو بنية مفتوحة تتلاحق فيها التفعيلات وتتجمع على هيئة كتلة شبيهة بكتلة الفقرة paragraph في النثر، والتي ستجد لاحقاً حضوراً في تجارب شعراء قصيدة النثر. في القصيدة المدورة عند حسب الشيخ جعفر نجد هذا التلاحق في الأنفاس. والتراسل المتدفق لخيوط التجربة الشعرية التي لا تريد أن تتوقف عن التدفق، ما لم تصل إلى نهايتها الطبيعية، السيكولوجية والفنية والحياتية معاً، وفي توحد للمكان والزمان معاً.
ويمكن القول إن متن الشاعر الشعري هو بصورة أو بأخرى تجسيد لتجربة روحية ونفسية وفكرية وفنية وعاطفية عاشها الشاعر طيلة حياته. فهو ابن مدينة العمارة بعمقها الريفي وبأهوارها وطقوسها شبه البدائية، وهو أيضاً ابن الحركة الوطنية الديمقراطية العراقية وشاهد على العصر الذهبي من تجربة الاتحاد السوفياتي في أثناء دراسته في موسكو في الستينات، كما هو وريث أمين لتقاليد الحداثة الشعرية الخمسينية ولكل التراث العربي الكلاسيكي والإنساني.
وتظل عقدة الشاعر الأساسية متمثلة في الاصطدام بالمظاهر القيمية السلوكية للمدينة الحديثة، التي هزّته بعمق وصدمته وأخرجته عن توازنه فراح يتوسل بالماضي وتمائمه لكي يحافظ على تماسكه. وأشرت في دراسة نقدية لي عن تجربته المبكرة نشرتُها في «مجلة الآداب اللبنانية» عام1977 ونشرتُها في كتابي «معالم جديدة في أدبنا المعاصر» الصادر عام 1975، إلى أن الشاعر يبدو مثل النحات «فيدياس» الذي يصنع عبر النحت تمثالاً لامرأة جميلة اشتهاها ويتوسل بالآلهة أن تحيل تمثاله الحجري إلى امرأة حقيقية، وفعلاً يتحقق له ما يشاء فيتحول التمثال إلى امرأة جميلة، لكنها سرعان ما تجد لها حبيباً آخر، فتتركه للوعة الفراغ والخيبة. ويبدو أن الشاعر قد اكتشف عبث استرجاع حبيبته الخيالية، والتي حلم بها قبله الشاعر سيرغي يسينين أيضاً وجسدها الشاعر ألكسندر بلوك في البحث عن «السيدة الجميلة»، فكتب قصيدته الوداعية «مرثاة في مقهى» والتي نشرها في ديوانه «نخلة الله» والتي ودّع فيها أحلامه الرومانسية المستحيلة، واختار أن يرمي بجسده، ربما مثل فاوست غوته، إلى الشيطان حيث الفالس والنساء والموسيقى والرقص والشراب.
يمكن القول إن الشاعر حسب الشيخ جعفر قد وصل إلى ذروته الشعرية عبر دواوينه الثلاثة أو الأربعة الأولى، حيث ترك بصماته الواضحة على مسار التجربة الشعرية العربية الحديثة. أما تجاربه اللاحقة فقد مثّلت استثماراً للأرض التي فتحها سابقاً، وقدم فيها نماذج وكشوفات جديدة تُحسب له، وعليه، مرة واحدة.
فديوان «في مثل حنوّ الزوبعة» الصادر عام يكاد يكون حواراً داخلياً مع عشرات الأقنعة والرموز والتمائم البدائية لمدن وشعراء أمثال بوشكين وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وحسين مروان وأمل دنقل، وغير ذلك كثير.
أما في «أعمدة سمرقند» فيكاد يكون معظم قصائد هذا الديوان قصائد تعليمية وتربوية، فهو يعترف بأن هذه القصائد تعتمد في معظمها، فكرةً وحدثاً، على أقاصيص «كليلة ودمنة» وحكايات أيسوب الإغريقي، وعلى الحكايات الشائعة في الآداب الشرقية القديمة، ولذا لم يكن غريباً أن يُهدي هذا الديوان إلى ذكرى الشاعر أحمد شوقي، الذي سبق له أن فعل شيئاً مماثلاً. إذ نجد إعادة صياغة شعرية لحكايات مشهورة مثل «ليلى والذئب» و«مالك الحزين» و«السمكة الذهبية» و«وضاح اليمن» و«أبي العلاء المعري» و«الإخوة كارامازوف» و«دون كيخوت» و«أخوان الصفا» و«أوفيليا» و«السندباد» وغيرها كثير. وهذه القصائد يغلب عليها الجانب التعليمي وتعتمد أساساً على الوصف وعلى بنية الحكاية، وفي تقديري أنها لا تنطوي على شعرية عالية. وربما يذكّر القراء أن نشرها في بعض الصحف العراقية منذ الستينات لرغبته في تجنب كتابة الشعر التعبوي المكرّس لتلميع صورة النظام الديكتاتوري ورمزه آنذاك صدام حسين. وحريٌّ بالنقد أن يحتفي بشكل خاص بفحص تجربة شعرية فريدة ومتميزة للشاعر تتمثل في قصيدته الطويلة أو المطولة «أنا أقرأ البرق احتطاباً» والتي تنساب كقصة ذات وحدة عضوية، دونما عنوانات فرعية أو أي شكل عنقودي لبناء القصيدة.
فهذه القصيدة التي تضم أكثر من ثلاثمائة صفحة، هي بمثابة سيرة ذاتية للشاعر، يستعرض فيها مراحل حياته الشخصية والشعرية، وتنطوي على موقف فلسفي من قضية الحياة والموت، كأنه يذكّرنا بصنيع الشاعر الفرنسي رامبو في «فصل في الجحيم». فحسب الشيخ جعفر يبدأ بكتابة سيرته، منذ بواكير حياته، ويكتب مرثاة لحياته وموته معاً: «ستعود ملتفاً كأي جثة ويضيق بالطفل الحقير ولعل، تحت النخلتين، ثرى يلوذ به الحصير».
ويعلن الشاعر انتماءه إلى أجواء مدينته ميسان وإلى نهري دجلة والفرات: «أنا كنت سفاناً ودجلة والفرات يتفضفضان، ويزجران فَلِمَ اصطناعي القارب الورقي أصفر كالفتات؟»، وهو في ختام قصيدته يذكّرنا بكبرياء أبي العلاء، إذ يقول: «لا ريب أني قائل ما لم يقله أحد سواي تمحو يدي، وتخط مدمنة عصاي». تجربة حسب الشيخ جعفر، التي نحتفي بها اليوم هي رمز لعطاء جيل واعد وشجاع استطاع أن يفرض حضوره الإبداعي والشعري في الحياة الثقافية، وهذا الاحتفاء، هو أيضاً احتفاء بالثقافة العراقية ورموزها المبدعة، والمنتجة.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

 

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.