حسب الشيخ جعفر... أخذ من آبائه الشعريين ثم اختطّ مساره الخاص

رحيله اقترن بصدور أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء

حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
TT

حسب الشيخ جعفر... أخذ من آبائه الشعريين ثم اختطّ مساره الخاص

حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة

من المفارقة أن يقترن رحيل الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر بصدور أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء في بغداد، وهذا الرحيل المفاجئ سيفتح الأبواب واسعة أمام النقاد لإعادة قراءة وتقييم تجربة هذا الشاعر، التجربة الغنية بعطائها وتنوعها وألقها، ووضعها في مسارها الحقيقي في سِفر الشعر العربي الحديث.
ويمكن اختزال تجربة الشاعر في أنها ثمرة سلسلة من الإخفاقات والإحباطات والفقدانات التي وشمت حياته، منذ أن غادر مدينته القروية الوادعة: ميسان، بأهوارها وبراءتها، واقتحم عالم المدينة المعاصرة، متمثلة ببغداد أولاً، وموسكو ثانياً، فكان مثل بدوي الروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي فزع هو وناقته عند دخول المدينة الحديثة، وربما بمثال أقرب مثل الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، وهو يواجه مدينة القاهرة العملاقة التي صدمته وعدها «مدينة بلا قلب» بعد أن كان قانعاً بما تقدمه له قريته الوادعة في «المنوفية».

ولكي يستعيد الشاعر تماسكه في وجه رياح التغيير التي حاولت أن تجرفه بقوة، راح يتوسل بالرموز والتمائم البدائية مثل الكوز والحندقوق ونخلة الله، ورموز الطفولة والأمومة وغيرها. ولذا لم يكن غريباً أو مفاجئاً أن يستهل الشاعر ديوانه الأول «نخلة الله» بقصيدة عن الكوز، كتبها عام 1964 متوسلاً به أن يستعيد من خلاله لمحاً من الماضي وحرارة خبز أمه: «وأمدُّ حبلاً من رماد يدي يا مطر النسيم إلى يديك لأحس وهجاً في يديك، لمحاً من الماضي، حرارة خبز أمي، وهج بسمتها الحنون». وفي قصيدة «نخلة الله» المكتوبة عام 1964 أيضاً يقيم الشاعر صلاته البدائية، وهو يتوحد ويتماهى مع نخلة الله، تميمته الأليفة: «يا نخلة الله الوحيدة في الرياح في كل ليل تملئين عليَّ غربتي الطويلة بالنواح فأهبّ: جئتكِ... غير أني لا أضمّ يدي وحبي إلا على الظل الطويل، ولا أمسّ سوى التراب وأنا وحيدٌ مثل جذعك، ظل يلفحني الغياب».
وحسب الشيخ جعفر ليس اسماً طارئاً في سِفر الشعر العراقي الحديث. إنه بالأحرى علامة مائزة وفارقة في مسيرة الشعر العراقي الحديث، منذ أن نشر عام 1962 قصيدته الأولى في مجلة «الآداب» البيروتية والتي لفتت إليه الانتباه بوصفه شاعراً ستينياً متميزاً ومجدداً. إلا أن البداية الشعرية الحقيقية الممتلئة للشاعر كانت مع ديوانه الأول «نخلة الله» عام 1969، ثم ديوانه الثاني «الطائر الخشبي» عام 1972، ولاحقاً بثلاثيته الشعرية عبر ديوانه «زيارة السيدة السومرية» عام 1974، ثم برباعية «عبر الحائط في المرآة» عام 1977 والتي توّجته شاعراً متميزاً عن أقرانه. شعراء الستينات، بشكل خاص شعراء «البيان الشعري» فاضل العزاوي وفوزي كريم وسامي مهدي وخالد علي مصطفى، والذين انشغلوا بمشروعهم الحداثي الجديد الذي أعلن عن القطيعة مع حداثة جيل الخمسينات الذي مثّلته تجارب نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، كما انشغلوا بالحفر في تضاريس اللغة الشعرية في ملامسةٍ لخصوصيات وتخوم قصيدة النثر وعرّابيها أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، وها هو الشاعر حسب الشيخ جعفر اليوم يقف شامخاً بأعماله الشعرية الكاملة وقد أنجز عبر سبعة عقود هذا الطود الشعري الباذخ الذي يحق لنا أن نتباهى به اليوم. ولم يقتصر إبداع حسب الشيخ جعفر على الشعر فقط بل أغنى المكتبة العربية بترجمات مهمة لشعراء روس بارزين أمثال ألكسندر بلوك، وسيرغي يسفين، ومايكوفسكي وآنا أخماتوف وغيرهم، كما كتب الرواية والمذكرات والدراسات الأدبية المختلفة.
أن أهم ما يميز الشاعر عن أقرانه شعراء الستينات، أنه لم يتنكر لآبائه الشعريين، شعراء الخمسينات، بل عمد إلى تطوير أنموذجهم الشعري الجديد، فأخذ من نازك الملائكة وهجها الرومانسي، ومن البياتي أقنعته وبساطته والتزامه بقضايا الإنسان، ومن السياب لغته وبنيته المدروسة للقصيدة الحديثة، وهو لم يقتنع بذلك فقط، بل سار بهذا المنجز نحو آفاق جديدة تتمثل في تطويره قصيدة التدوير التي كانت لها بدايات متواضعة لدى شعراء الحداثة آنذاك، جعلت الشاعرة نازك الملائكة تقف منها موقفاً متحفظاً في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» الصادر عام 1962. في قضية التدوير استطاع حسب الشيخ جعفر إيجاد صيغة بنيوية شعرية جديدة تتجاوز البنية التقليدية لقصيدة الشعر الحر القائمة على وحدة البيت ومحدودية عدد التفعيلات، نحو بنية مفتوحة تتلاحق فيها التفعيلات وتتجمع على هيئة كتلة شبيهة بكتلة الفقرة paragraph في النثر، والتي ستجد لاحقاً حضوراً في تجارب شعراء قصيدة النثر. في القصيدة المدورة عند حسب الشيخ جعفر نجد هذا التلاحق في الأنفاس. والتراسل المتدفق لخيوط التجربة الشعرية التي لا تريد أن تتوقف عن التدفق، ما لم تصل إلى نهايتها الطبيعية، السيكولوجية والفنية والحياتية معاً، وفي توحد للمكان والزمان معاً.
ويمكن القول إن متن الشاعر الشعري هو بصورة أو بأخرى تجسيد لتجربة روحية ونفسية وفكرية وفنية وعاطفية عاشها الشاعر طيلة حياته. فهو ابن مدينة العمارة بعمقها الريفي وبأهوارها وطقوسها شبه البدائية، وهو أيضاً ابن الحركة الوطنية الديمقراطية العراقية وشاهد على العصر الذهبي من تجربة الاتحاد السوفياتي في أثناء دراسته في موسكو في الستينات، كما هو وريث أمين لتقاليد الحداثة الشعرية الخمسينية ولكل التراث العربي الكلاسيكي والإنساني.
وتظل عقدة الشاعر الأساسية متمثلة في الاصطدام بالمظاهر القيمية السلوكية للمدينة الحديثة، التي هزّته بعمق وصدمته وأخرجته عن توازنه فراح يتوسل بالماضي وتمائمه لكي يحافظ على تماسكه. وأشرت في دراسة نقدية لي عن تجربته المبكرة نشرتُها في «مجلة الآداب اللبنانية» عام1977 ونشرتُها في كتابي «معالم جديدة في أدبنا المعاصر» الصادر عام 1975، إلى أن الشاعر يبدو مثل النحات «فيدياس» الذي يصنع عبر النحت تمثالاً لامرأة جميلة اشتهاها ويتوسل بالآلهة أن تحيل تمثاله الحجري إلى امرأة حقيقية، وفعلاً يتحقق له ما يشاء فيتحول التمثال إلى امرأة جميلة، لكنها سرعان ما تجد لها حبيباً آخر، فتتركه للوعة الفراغ والخيبة. ويبدو أن الشاعر قد اكتشف عبث استرجاع حبيبته الخيالية، والتي حلم بها قبله الشاعر سيرغي يسينين أيضاً وجسدها الشاعر ألكسندر بلوك في البحث عن «السيدة الجميلة»، فكتب قصيدته الوداعية «مرثاة في مقهى» والتي نشرها في ديوانه «نخلة الله» والتي ودّع فيها أحلامه الرومانسية المستحيلة، واختار أن يرمي بجسده، ربما مثل فاوست غوته، إلى الشيطان حيث الفالس والنساء والموسيقى والرقص والشراب.
يمكن القول إن الشاعر حسب الشيخ جعفر قد وصل إلى ذروته الشعرية عبر دواوينه الثلاثة أو الأربعة الأولى، حيث ترك بصماته الواضحة على مسار التجربة الشعرية العربية الحديثة. أما تجاربه اللاحقة فقد مثّلت استثماراً للأرض التي فتحها سابقاً، وقدم فيها نماذج وكشوفات جديدة تُحسب له، وعليه، مرة واحدة.
فديوان «في مثل حنوّ الزوبعة» الصادر عام يكاد يكون حواراً داخلياً مع عشرات الأقنعة والرموز والتمائم البدائية لمدن وشعراء أمثال بوشكين وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وحسين مروان وأمل دنقل، وغير ذلك كثير.
أما في «أعمدة سمرقند» فيكاد يكون معظم قصائد هذا الديوان قصائد تعليمية وتربوية، فهو يعترف بأن هذه القصائد تعتمد في معظمها، فكرةً وحدثاً، على أقاصيص «كليلة ودمنة» وحكايات أيسوب الإغريقي، وعلى الحكايات الشائعة في الآداب الشرقية القديمة، ولذا لم يكن غريباً أن يُهدي هذا الديوان إلى ذكرى الشاعر أحمد شوقي، الذي سبق له أن فعل شيئاً مماثلاً. إذ نجد إعادة صياغة شعرية لحكايات مشهورة مثل «ليلى والذئب» و«مالك الحزين» و«السمكة الذهبية» و«وضاح اليمن» و«أبي العلاء المعري» و«الإخوة كارامازوف» و«دون كيخوت» و«أخوان الصفا» و«أوفيليا» و«السندباد» وغيرها كثير. وهذه القصائد يغلب عليها الجانب التعليمي وتعتمد أساساً على الوصف وعلى بنية الحكاية، وفي تقديري أنها لا تنطوي على شعرية عالية. وربما يذكّر القراء أن نشرها في بعض الصحف العراقية منذ الستينات لرغبته في تجنب كتابة الشعر التعبوي المكرّس لتلميع صورة النظام الديكتاتوري ورمزه آنذاك صدام حسين. وحريٌّ بالنقد أن يحتفي بشكل خاص بفحص تجربة شعرية فريدة ومتميزة للشاعر تتمثل في قصيدته الطويلة أو المطولة «أنا أقرأ البرق احتطاباً» والتي تنساب كقصة ذات وحدة عضوية، دونما عنوانات فرعية أو أي شكل عنقودي لبناء القصيدة.
فهذه القصيدة التي تضم أكثر من ثلاثمائة صفحة، هي بمثابة سيرة ذاتية للشاعر، يستعرض فيها مراحل حياته الشخصية والشعرية، وتنطوي على موقف فلسفي من قضية الحياة والموت، كأنه يذكّرنا بصنيع الشاعر الفرنسي رامبو في «فصل في الجحيم». فحسب الشيخ جعفر يبدأ بكتابة سيرته، منذ بواكير حياته، ويكتب مرثاة لحياته وموته معاً: «ستعود ملتفاً كأي جثة ويضيق بالطفل الحقير ولعل، تحت النخلتين، ثرى يلوذ به الحصير».
ويعلن الشاعر انتماءه إلى أجواء مدينته ميسان وإلى نهري دجلة والفرات: «أنا كنت سفاناً ودجلة والفرات يتفضفضان، ويزجران فَلِمَ اصطناعي القارب الورقي أصفر كالفتات؟»، وهو في ختام قصيدته يذكّرنا بكبرياء أبي العلاء، إذ يقول: «لا ريب أني قائل ما لم يقله أحد سواي تمحو يدي، وتخط مدمنة عصاي». تجربة حسب الشيخ جعفر، التي نحتفي بها اليوم هي رمز لعطاء جيل واعد وشجاع استطاع أن يفرض حضوره الإبداعي والشعري في الحياة الثقافية، وهذا الاحتفاء، هو أيضاً احتفاء بالثقافة العراقية ورموزها المبدعة، والمنتجة.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.