«اللقاء من الصفر» وخلطة الـ30 قصة

مفيد النويصر لـ «الشرق الأوسط» إقناع الضيوف بالمشاركة في البرنامج أصعب مهمة

مفيد النويصر مع فريق عمل برنامج «اللقاء من الصفر»
مفيد النويصر مع فريق عمل برنامج «اللقاء من الصفر»
TT

«اللقاء من الصفر» وخلطة الـ30 قصة

مفيد النويصر مع فريق عمل برنامج «اللقاء من الصفر»
مفيد النويصر مع فريق عمل برنامج «اللقاء من الصفر»

عاد برنامج «اللقاء من الصفر» للإعلامي السعودي مفيد النويصر لشاشة محطة إم بي سي ضمن موسمها الرمضاني، للسنة السابعة على التوالي فاتحاً أمام المشاهد صفحات وصفحات من التاريخ الشخصي لشخصيات سعودية وعربية، تاريخ بعضه معروف للجمهور والكثير منه ظل مخزونا داخل كل ضيف أو مقصوراً على دائرة معارفه ومحبيه. أطلق النويصر أولى حلقات الموسم السابع من برنامجه الناجح بحلقة مع حسان ياسين مستشار الملك سلمان الذي فتح للمشاهدين أبوابا على طفولته التي قضاها في قصر الملك عبد العزيز برفقة أبناء الملك وأحفاده. الحلقة كانت مميزة بكل معنى الكلمة، كانت تاريخا لما نساه التاريخ. عبرها أخبرنا الضيف عن محطات مهمة في حياته وعمله وهي محطات ألقت الضوء على محطات تاريخية هامة مثل غزو العراق للكويت وحرب الخليج وغيرها. ما يحسب للنويصر أنه عرف قامة ضيفه واصطحب الجمهور للتعرف عليها عبر السرد البسيط الذي ألقاه مع فريق عمل البرنامج، ولكن الأهم أنه استضاف شهودا للحديث عن ضيفه، وهم ليس مثل أي شهود فهم أيضاً شخصيات لها تاريخ طويل مع العمل الوطني وهم أقرب أصدقاء لحسان ياسين، فتحدث الأمير تركي الفيصل عن صديقه بدفء واضح تدعمه الذكريات المشتركة وكذلك فعل الوزير ماجد القصبي الذي أكد على أهمية الزيارة الأسبوعية لمجلس صديقه المقرب.
في الحلقات التالية للبرنامج، وما زال أمامنا المزيد حتى نصل لختام الشهر الفضيل، حلت ضيفة على البرنامج سفيرة خادم الحرمين الشريفين لدى النرويج آمال المعلمي تلاها الجراح العالمي هاني نجم والطاهي توفيق القادري أو «طباخ الملوك» كما أطلق عليه البرنامج، كان هناك أيضاً الملحن ناصر الصالح والفنانة وفاء القنبيط ولاعب الكرة سامي الجابر.
قبل أن أستعرض مع النويصر تفاصيل بعض الحلقات التي أذيعت حتى الآن أجدني أسأله: «البرنامج الآن في موسمه السابع وما زال يقدم ضيوفا مميزين وملهمين، كيف تبحث عن ضيوفك؟» يقول ببساطته المعهودة: «أسمع هذا السؤال كل عام، الأمر وراءه عمل شاق، ولكن الشخصيات الملهمة موجودة دائما، فكل سنة تمر تزيد من إنجازات شخصيات مختلفة، لن ينضب معين الشخصيات الملهمة».

الأصفار الأخرى
في كل سنة يخرج علينا النويصر وفريقه بـ30 شخصية ناجحة في مجالها ومؤثرة على المجتمع، ولكن المراقب للبرنامج منذ بدايته يلاحظ تطور استراتيجية العمل، بدأ البرنامج بعنوان «من الصفر»، ليتغير إلى «اللقاء من الصفر»، أسأله: «هل يعني ذلك تغير معايير الاختيار أو اتجاه البرنامج؟» يجيب قائلا: «عندما بدأنا البرنامج كانت الفكرة أن «الصفر» هو البداية المهنية، «بداية البرنامج كانت عبر شخصيات تخطت الصعوبات وأطلقت نجاحاتها عبر الكفاح من الصفر، غير أن مرور الأعوام غيّر من مفهوم الصفر». يستطرد النويصر قائلا: «سنة بعد سنة تغير فهمي أنا شخصيا لما هو معنى «الصفر»، أعتقد أنني نضجت في فهمي لمعناه، كما أنني لاحظت أن كلمة الصفر ارتبطت في عقول الناس بالمال فقط». الاستمرارية تستلزم التطور وهو ما فعله النويصر حيث حوّر مفهوم «الصفر» في برنامجه ليصبح «نقطة البداية»، يشرح لنا أكثر: «الصفر ليس بالضرورة أن يكون قصة تكوين ثروة أو تحدٍّ ضخم، غيرنا عنوان البرنامج ليصبح «اللقاء من الصفر» بمعنى بداية قصة، لأن هناك شخصيات تستحق تسليط الضوء عليها وليس بالضرورة أن يكون مشوار نجاحها قد تضمن قصة التغلب على الفقر وتكوين المال... هناك أصفار ثانية».
يلفتني تعبيره «هناك أصفار ثانية»، وأتذكر أن السفيرة آمال المعلمي قالت في بداية حلقتها «أذكر أني قلت لك عندما طلبت مني الظهور في البرنامج من قبل أنني قلت لك أنا ما عندي صفر... ولكن الحقيقة أننا كلنا عندنا صفر، الصفر ليس بالضرورة أن يكون قلة مال بل قد يكون قلة فرص أو قلة مجالات».
يعود بي النويصر لنقطته ويضرب المثل بحلقة الأمير بدر بن عبد المحسن في الموسم الثالث للبرنامج ويكمل حديثه «عندما استضفنا الأمير بدر بن عبد المحسن، جده الملك المؤسس ووالده أمير مهم، فين الصفر عنده؟ الصفر في أنه لديه قصة، أمتعنا بالشعر والإبداع، هو صنع مدرسة في الشعر، تفرد بإبداعه وعنده قصة حلوة يمكن أن يرويها، روى أشياء لم تعرف عن داخل منزل الملك عبد العزيز وأحب الناس الحلقة..... باختصار، «اللقاء من الصفر» هو قصة حلوة».
يستكمل إجابته عن سؤالي حول معايير اختيار الشخصيات «إذا سألتني عن معايير اختيار الضيوف أقول لك إن اسمها «خلطة الثلاثين». كيف أرضي كل الأذواق؟ لو اقتصرت الحلقات على نمط واحد من القصص كان البرنامج انتهى بعد 3 سنوات من بدايته، أتحدث هنا كوني خبير تلفزيون».
إذن ما هو سر الاستمرارية؟ يقول «لدي خلطة في رأسي، معيار أساسي تتفرع منه معايير أخرى. المعيار الأول هو أني أريد استضافة شخصيات من الجيل الأكبر المخضرم، لدي احترام لهذا الجيل اللي بنى وصنع وقدم للبلد وفي هذه الفئة ممكن نستضيف تاجرا، طبيبا عريقا، سياسيا أو مسؤولا حاليا. أما المعيار الثاني فهو السيدات، وهنا يشير إلى نقطة هامة «السيدات المؤثرات والناجحات لم يظهرن فجأة في السعودية، ربما كان عدد الوجوه العامة أقل، ولكن حرام أن لا يتعرف الناس على شخصية مثل د. ثريا عبيد وقصة حياتها وعملها في الأمم المتحدة ثم عضويتها في مجلس الشورى، أو شخصية من شريحة عمرية مختلفة مثل رانيا نشار الشابة الأربعينية التي تقود إمبراطورية مالية مثل سامبا». يستمر النويصر في تعديد الشرائح المختلفة من شخصيات المجتمع التي يحرص على وجودها في برنامجه ضمن «خلطة الثلاثين»: «نريد إبراز مهن مختلفة لنكون أكثر شمولية، وأخيرا نريد الشباب المتفردين».
يبدأ الفريق العمل بوضع قائمة بالأسماء قد تصل لـ90 اسما يجمعها النويصر وفريقه عبر الاقتراحات أو البحث أو الترشيحات ثم تبدأ مهمة الفلترة ليصل العدد لـ50 اسما وهنا تبدأ المهمة الصعبة: «عندما نصل لحولي 50 اسما تبدأ المهمة الصعبة، وهي كيفية إقناع الناس بالمشاركة في البرنامج، قد أقضي سنوات في محاولات الإقناع».

ضيوف وقصص
يجهز البرنامج العديد من المفاجآت للمشاهدين، أحاول التقاط بعضها منه، ولكنه يقول بدبلوماسية «أنا سعيد بكل ضيف» ثم يتحدث عن بعض الضيوف في الحلقات الأولى: «حلقة أول يوم هي مع حسان ياسين، والده يوسف ياسين مستشار الملك، حسان أصغر من الدولة السعودية بسنتين، نشأ في بيت الملك عبد العزيز، عاش واتربى مع أولاد الملك عبد العزيز، ثم عاش في الولايات المتحدة الأميركية، له أصدقاء في جميع البلدان تملأ صورهم جدران بيته». للحديث عن حسان ياسين لجأ النويصر لأصدقائه للحديث عنه «استضفنا عادل الجبير والأمير تركي الفيصل وماجد القصبي بحكم أنهم أصدقاء قريبون جدا منه، أردت أن أطلق الحلقة بـ«تكنيك» جديد، لجأت لهذه القامات للحديث عنه، ليعرف الناس عبرهم من هو حسان ياسين». يفخر النويصر أيضاً بحلقة السفيرة آمال المعلمي «هي فخر للسعودية وللنساء».
من الشخصيات التي يقدمها البرنامج شخصية «طباخ الملوك» الشيف توفيق القادري من المدينة المنورة، «تروي الحلقة موقف أهله الرافض لرغبته بالعمل في مجال الطهي. اليوم لديه دكتوراه في الطبخ ويعد لكتاب به 200 وصفة لم يعلن عنها بعد». من مجال الطب يقدم جراح القلب السعودي هاني نجم «رئيس مركز كليفلاند لطب وجراحة القلب، والدكتور طارق عبد الجبار من أهم أطباء الأسنان في العالم ووزير الاتصالات محمد السويل وحلقة جماهيرية مع لاعب الكرة سامي الجابر». يداعب مشاهديه بالإشارة لحلقة قادمة عن الموسيقار الراحل طلال مداح يتحدث فيه أبناؤه والزوجة الثانية (مها) وهي مصرية كانت تغني مع الكورال خلفه في الحفلات وأيضاً حلقة مع المغني والملحن عبد الرب إدريس.
أسأله في حديثي عن اللحظات الدرامية في الحلقات، لحظات تأثر واضحة تذرف بها الدموع ولم ينج منها النويصر نفسه، هل تؤثر أسئلتك على الضيوف وتثير فيهم الشجون؟ يقول: «هي غير مصطنعة... أعتقد هي حاجة نفسية، لو أحضرت أي شخص في العالم للتحدث عن تخصصه سيتحدث عنه، أو عندما يتحدث عن حياته الشخصية فمشاعره ستتحرك، خصوصاً لو فيه وفاة أو مواقف صعبة. النحاتة السعودية وفاء القنبيط أبكتني ولم أستطع إكمال التصوير، هذه المواقف ليس عليها «كنترول» ولكن لو طلب مني الضيف عدم إذاعتها سأفعل».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)