«مآب»... يدمج الفن مع الفلسفة في الرياض

عمل فهد النصار «جوارح»
عمل فهد النصار «جوارح»
TT

«مآب»... يدمج الفن مع الفلسفة في الرياض

عمل فهد النصار «جوارح»
عمل فهد النصار «جوارح»

المآب في اللغة هو المرجِع، إلا أنه رجوع يحمل دلالات عدة في المعرض الفني الذي افتُتح مساء أول من أمس، في «نايلا غاليري» بالرياض، حيث وُظفت الكلمة فنياً للتعبير عن العودة إلى الذات وتحريرها من قيود المادية. معرض «مآب» يجمع 5 فنانين قدموا أعمالاً عن معنى وجود الإنسان وتصورات عودته لذاته بعيداً عن ملهيات الحياة.
وخلافاً لركود الحراك الفني في رمضان، يستمد هذا المعرض قيمته من روحانية هذا الشهر، خصوصاً أن النصوص القرآنية ربطت بين المآب الحسن وعاقبة الصالحين، في رحلة فنية تحاول الاستلهام من هذه المعاني الروحانية العميقة، جمعت الفنانين: ميساء شلدان، وإيمان العصيمي، وعالية المرديني، ورقية آل سعود، وفهد النصار.

لوحة رقية آل سعود تجسد نظرية فرويد

تتحدث لـ«الشرق الأوسط» الفنانة إيمان العصيمي قائلة: «شهر رمضان في العالم كله هو فرصة يقف فيها الإنسان لمراجعة نفسه، فهو أشبه بنقطة عودة، ونلحظ كذلك أن وعي البشرية ارتفع بعد جائحة (كورونا) بضرورة العودة إلى الذات، ونحن في ثقافتنا الإسلامية نجد هذا الشهر فرصة لذلك».
وبالسؤال عمّا يشغل توجهها الفني، تجيب العصيمي: «يشغلني مفهوم الهوية والوجود، واستُخدم عنصر الجنين في مراحل كثيرة، أحياناً يبدو واضحاً وأحياناً بشكل مجرد». وعن تفضيلها للون الأصفر تقول: «الأصفر ليس لوناً أستعين به في لوحاتي وحسب، إنه يشكل طيفاً للتعافي والتشافي، هو العودة حيث ينعكس طبّه في أعمالي كمرآة تعكسني في كل مرة».
جوارح فهد نصار
المصور فهد النصار يشارك في «مآب» بعمل من عدة أجزاء، اختار له مسمى «جوارح»، حيث يرى أن جوارح الإنسان هي نقطة التقائه وتواصله مع الآخرين، وهي المدخل والمخرج للعالمين الداخلي والخارجي. معتبراً أن التحكم بهذه الجوارح وتجديدها ومراجعة أفعالها يقدم الإنسان بنسخته الأفضل.
ويوضح النصار لـ«الشرق الأوسط» أنه يهتم بأعمال المنظور، التي تأتي فكرتها ببساطة من النظر للأشياء بشكل مختلف، شارحاً ذلك بقوله: «اعتدنا -مثلاً- على رؤية النخيل الذي امتلأت أعيننا منه، لكن عندما نأتي للمنظور، كيف نُخرجه؟ هنا نرى النخل بشكل مختلف تماماً، كأنه يرقص بعضه مع بعض مثلاً، وربما نرى النخل من زاوية أخرى كأنه طيور محلّقة، أو شيء آخر مختلف».
وبسؤال النصار عن الأفكار التي تلمع في رأسه في أثناء رحلته الطويلة في عالم التصوير، يقول: «أنا حريص على تفاصيل الإنسان، أفكر بها وأنتجها، أياً كانت، بغضّ النظر عن جنسه أو عمره وغير ذلك، فما يهمني هو وجود الإنسان في هذه الحياة وما الأشياء التي يتقاطع معها خلال هذا الوجود».
الأبيض ليس نقياً
الفنانة ميساء شلدان تشارك في المعرض عبر عمل مكون من 8 قطع، يحمل عنوان «الأبيض ليس نقياً»، وتتناول فيه وجهة نظرها لما يحدث في المشاعر خلال أي علاقة إنسانية. واللافت في أعمالها تنوع الخامات المستخدمة، حيث تجمع القوة في اختيارها للحديد، والمرونة في الملمس، والانعكاسات البشرية في الصدأ، والمشاعر في الألوان.
تؤكد شلدان لـ«الشرق الأوسط» أن اتجاهها ورؤيتها الفنية تأثرت بعملها كمستشارة تربوية وتعليمية، مما أتاح لها فرصة التقرب من الناس والإحساس بهم. وبالعودة لعملها المشارك، ترجع تسميته لكون الأشخاص حين يطلبون فتح صفحة جديدة بعد خلاف ما، تبقى العلامات والتجربة عالقة وعميقة، وهو ما حاولت التعبير عنه في العمل الذي يحاكي أثر ذلك على العلاقات الإنسانية.
نظرية فرويد
عالم النفس سيغموند فرويد يرى في نظريته أن أغلب المشكلات النفسية أساسها هو تعارض واضطراب بين رغبات أساسية ثلاث في النفس البشرية، عبّرت عنها الفنانة رقية آل سعود في لوحتها المشاركة في معرض «مآب»، فالقط يدل على الغرائز الخالصة والمجردة بداخل الإنسان، التي لا يعلم حتى بوجودها، مثل الرغبة بقتل أحد ما لأنه تسبب بظلمه أو سرقته.
كما تظهر في لوحتها امرأة هي مالكة القط التي يأتي دورها في منع وتقنين تلك الغرائز، استناداً إلى القوانين والمبادئ والقيم المستخلصة من معرفة وخبرة حياتية، على الرغم من صعوبة ذلك. أما المرأة الأخرى والتي ترتدي في اللوحة وشاحاً ملوناً فهي من توفر هذا التوازن لتُرضي جميع الأطراف، ويبقى الإنسان قادراً على الاستمرار في الحياة.
وترى الفنانة هنا أنه كلما ازداد ذلك الجزء المتزن الذي بداخل الإنسان من حيث الحكمة والاطلاع وأبصرت عيناه ألواناً مختلفة، تمكن من تقديم حلولاً أكثر جمالاً وإبداعاً وصلاحاً، وبذلك يتحقق الرضا والسلام الداخلي ويزداد الإنسان تصالحاً وتسامحاً ولطفاً، حسب رؤيتها الفنية.
هروب جميل
الفنانة عالية المارديني، ترى أن الفن هروب جميل من العالم الحقيقي، وتراه يخلص مجتمعاً منفتحاً وأكثر تحكماً وحرية، حيث تشارك في عمل تصفه بالقول: «في عالم السرعة المليء بالضوضاء، يحدث كل شيء بسرعة كبيرة مما يجعلنا بحاجة إلى السلام الداخلي، وبحاجة إلى قوه الصمت والسكون والهدوء، من أجل الرؤية بوضوح». مشيرة إلى أن عملها يقدم كلمة السلام باستخدام أسلوب الأرابيسك الفريد، ووضع طبقات من الأكريليك، لعرض المعنى العميق للسلام الداخلي، كما تراه الفنانة.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».