قصائد أوكرانية: من أين تأتي الحرب يا أمي؟

جندي أوكراني أمام مستودع يحترق في ضواحي كييف بعد قصف روسي (أ.ف.ب)
جندي أوكراني أمام مستودع يحترق في ضواحي كييف بعد قصف روسي (أ.ف.ب)
TT

قصائد أوكرانية: من أين تأتي الحرب يا أمي؟

جندي أوكراني أمام مستودع يحترق في ضواحي كييف بعد قصف روسي (أ.ف.ب)
جندي أوكراني أمام مستودع يحترق في ضواحي كييف بعد قصف روسي (أ.ف.ب)

معظم الشعراء انخرطوا في الأيام الأولى من الغزو في المقاومة وأصبحوا جنوداً في ميدان آخر غير ميدان الكتابة

يتضمن كتاب «قصائد ولوحات أوكرانية من خطوط النار» 13 قصيدة، كتبها عدد من الشعراء والشاعرات الشباب، تحت وقع القصف وأصوات الصواريخ وقنابل الطائرات الروسية وصفارات الإنذار التي انتزعتهم وأطفالهم من حياتهم الهادئة، وألقت بهم في المخابئ وعلى أرصفة محطات القطارات التي تضج بالهاربين من الموت، بحثاً عن مكان آمن بعيداً عن مدنهم التي صارت مرتعاً لحرب طاحنة، لا أحد يعرف متى تنتهي.
القصائد ترجمها عن اللغتين الأوكرانية والروسية المترجم المصري سمير مندي، وصدرت حديثاً عن دار «ميريت» للنشر، بالقاهرة. ويخيم هاجس الخوف والرعب على سطورها اللاهثة التي تنداح بعفوية، كأنها مرثية للروح والجسد، ولوطن صار نهباً للخراب من كل صوب وحدب.
واللافت أن القصائد لا تعبأ إلا بما تعانيه وتعيشه، ولا تعني إلا ما تقوله، وما تريد أن تعبر عنه من مشاعر إنسانية صادمة خرجت دفعة واحدة بلغة وجماليات عفوية بسيطة في مواجهة لحظة مشوهة، تنسج خيوط الدمار في كل شارع ومدينة، وتطفئ أي بقعة ضوء تصرخ في وجه اللامبالاة والفوضى، وعدم الاكتراث بمصير بلد تُسلب منه الحياة وتُغتصب أمام عيون العالم.

غلاف الكتاب
 

شعراء عبأتهم الحرب بالكراهية والسخط، ووضعت أرواحهم في حالة من التشتت، تعتصرهم الحيرة بين حاضرهم المفجع وماضيهم القومي الذي يتعرض لاختبارات قاسية منذ زمنٍ ليس بالقصير، فجاءت أشعارهم ممتزجة بالمرارة والسخرية والصدمة.
في هذه المختارات، تطالعنا قصائد لكل من: أوكسانا هادجي، ودارينا هلادون، وبوريس ميخاليتسينا، وفاسيل ماخنو، وهالينا كروك، وكولا كولينيتش، وإيهور متروف، وأولغا براهينا، وآخرين. ويفتتح الشاعر بوريس خيرسونسكي، قصيدته «الدبابات بدلاً من الزهور»، بسخرية مرة من تسلط روسيا على بلاده، ويصفه بأنه تسلط ذكر على أنثى يراها عاهرة، ويتوعدها بالاغتصاب والتركيع. ثم يضع ذلك في صورة أكبر، يتسلط فيها الإنسان على أخيه الإنسان ويسعى لقتله ومحو آثاره من الوجود. ويقدم خيرسونسكي صورة مفجعة لفظاعة العدوان على بلده من جارته روسيا التي ترتبط معه بعلاقات أخوة تاريخية.
يقول:
«تارة نقوم بغارة جوية
وتارة أخرى نضرب بصاروخ
لقد عرفتِني، أليس كذلك؟
أنا قابيل، أخوكِ الأكبر
أوه.. ليس لديك ملاك حارس ولدينا طائرات
نحن نسحقكم بأرشيفاتنا السرية، بشاشاتنا التلفزيونية».
ومن الشعور بالغدر والخيانة الذي صوره خيرسونسكي، تنقلنا القصائد إلى شعور آخر تكسوه الحيرة، تضعنا فيه الشاعرة كاترينا ميخاليتسينا التي تجد نفسها في ورطة أمام أسئلة ابنها المتلاحقة حول الحرب، وبأي ذنب استحقتها بلاده. ففي قصيدتها «الابن– حصة التعبير» وببساطة وعفوية يفتح الطفل بأسئلته الألم المتقيح في عقل وقلب أمه. فتبدو الأسئلة وكأنها ضربات متتالية في موضع الألم، مغلفة بتعبيرات تصفها الأم بأنها أبعد ما تكون عن لغة طفل صغير: «يسأل: يا أمي من أين تأتي الحرب، ثم دون توقف: هل الحرب كارثة طبيعية؟
أم أننا نستحقها بسبب شيء ما؟».
أما الشاعرة أوكسانا هادجي، فتبدو في قصيدتها «بجسدي أغطيك يا بلدي» عاجزة عن تبرير الحرب على بلدها. فما تدريه وتعلمه وتشعر به فقط هو حبها لبلدها وجزعها عليه. تقول بعبارات تكسوها المرارة والحزن:
«علموني كيف أفخر بالقتلة... أن أكذِّب عيني... أن أكره بلدي... بلدي الرقيق إلى درجة أنني أريد أن أغطي بجسدي كل مبنى... بجسدي أريد أن أغطي كل لوحة من لوحات (بريماتشينكو)... أغطي كل من اضطر لترك منزله... علموني... لو استطعتم!».
بهذه الجمل التي تمتلئ بشحنات من اللوم التي تصبها الشاعرة على رأس من تركوا بلادها للدمار، تتحدث هادجي -وهي فنانة تشكيلية أيضاً- بحزن وحرقة، مشيرة إلى متحف «بريماتشينكو» الذي استهدفته القنابل الروسية، ودمرت كثيراً من مقتنياته، ونهبت بقيته. تبكي هادجي على ضياع تراث بلادها الإنساني تحت المباني، تستدعيه لتحنو عليه، وتتمنى لو تغطيه بجسدها وتفديه من الصواريخ والقنابل.
يقول المترجم سمير مندي لـ«الشرق الأوسط»: «إن معظم الشعراء أصحاب القصائد بعد أن كتبوها في الأيام الأولى من الغزو انخرطوا في المقاومة، حملوا السلاح بين يوم وليلة بديلاً عن القلم، وأصبحوا جنوداً في معركة أخرى وميدان آخر غير ميدان الكتابة والشعر».
القصائد فريدة من نوعها بسبب الأحداث الراهنة التي نُظمت تحت نيرها. وهي أول ترجمة إلى العربية لشعر أوكراني راهن، يكتبه شعراء يعيشون بيننا، لم يتجاوز بعضهم سن الشباب، وتشكل من هذه الناحية فرصة للتعرف على الشعر الأوكراني الراهن، وعلى أهم الأسماء المؤثرة فيه، ليعوض بها مندي حالة عدم الاهتمام بالشعر والأدب الأوكراني بعامة. وقد وضع في نهاية الكتاب تعريفاً بالشعراء الذين ترجم لهم، بهدف تعريف القراء على جيل من الشعراء والشاعرات الأوكرانيات الجدد، وتمكينهم من تذوق القصيدة الأوكرانية الحديثة بنثريتها الصريحة التي لعبت الحرب الأخيرة دوراً في إزجائها، فتسلحت بالمفارقة العميقة والمبتكرة، لتكشف حجم المأساة وفظائع الحروب.
يتضمن الكتاب إضافة للقصائد، 13 لوحة رسمتها الفنانة التشكيلية الأوكرانية كسينيا داتسيوك، في الأيام الأولى لغزو بلادها. وتتميز بلمسات بسيطة وحادة في الوقت نفسه، تصور ملامح الوجه والجسم البشري تحت هول الحرب وبشاعتها، وتمنحنا فرصة نادرة للتعرف على الفن التشكيلي الأوكراني الحديث. وبذلك يقدم الكتاب رؤيتين فنيتين للحظة تاريخية استثنائية جاءت فيها اللوحات ترجمة بصرية موازية لما في المختارات من قصائد.



«أولمبياد 2024»... هل تنجح فرنسا في بناء قوتها الناعمة؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

«أولمبياد 2024»... هل تنجح فرنسا في بناء قوتها الناعمة؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ليست دورة الألعاب الأولمبيّة لعام 2024، التي ستنطلق في باريس في السادس والعشرين من يوليو (تموز) الحالي، بأولى الدّورات التي ستستضيفها العاصمة الفرنسية، بل الثالثة؛ إذ حظيت بشرف تنظيم أول دورة في القرن العشرين (1900)، ولاحقاً دورة عام 1924، ما يجعلها المدينة الأكثر استضافة للألعاب تساوياً مع العاصمة البريطانية لندن.

وعلى الرّغم من كل الضّجيج الذي سعت الدّولة الفرنسيّة إلى إطلاقه حول كيف ستجعل من «باريس 2024» مختلفة عن الدورات السابقة لتعكس موقع الريادة الفرنسية في العالم كما في خطاب توني إستانغيه، رئيس اللجنة المنظمة، العالي النبرة: «نريد أن نعرض أفضل ما في فرنسا. لدينا الكثير لنقدمه، وسنثبت أن هذا البلد لديه كل القوة والإمكانات للتأكد من أن هذه الألعاب ستبقى في الذاكرة إلى الأبد»، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أيضاً سعى إلى أن تكون احتفالاً صاخباً في عهده بينما يدخل النصف الثاني من ولايته الأخيرة، بينما فرنسا تخطو نحو يوم الافتتاح في لجج من أزمات سياسيّة متعددة، ويعتريها قلق من أن يجعل المعارضون من «الألعاب» منصّة لتسجيل مواقفهم ضدّ السلطة؛ لا سيما موقفها المدان من الحرب على غزّة، والأسوأ أن الهيئة المنظمة اختارت، على خلاف المعتاد، أن تجري الأنشطة الأساسية للدورة في قلب المدينة لا على أطرافها (كما في دورتي لندن عام 2012، وريو دي جانيرو في 2016، مثلاً)، مما يهدد بتحديات لوجيستية وأمنية جمّة بدأت إرهاصاتها في الظهور منذ اليوم، فيما الجمهوريّة على موعد مع وزير داخلية جديد سيتسلم مسؤولياته قبل أسبوعين فقط من ليلة الافتتاح، بينما نصف سكان العاصمة باريس يعتقدون أن استضافتها الحدث الرياضي الأهم «فكرة سيئة للغاية».

وكانت باريس قد تعهدت بخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري إلى النصف مقارنة بمستوياتها في دورتي «لندن» و«ريو دي جانيرو»، وتبنت لذلك إجراءات غير مسبوقة؛ إذ لن يسمح مثلاً باستخدام مولدات الديزل لتشغيل عربات البث المباشر، وهناك كميات أقل من اللحوم على قوائم إطعام الرياضيين، وعدد محدود للغاية من أعمال بناء منشآت جديدة، وذلك في استعراض لمؤهلات الدّولة الفرنسية بيئياً، وأيضاً لتحقيق طموح «اللجنة الأولمبية الدولية» في إثبات أن أكبر حدث رياضي في العالم يمكن أن يصبح صديقاً للبيئة. لكن أكاديميين ونشطاء بيئيين شككوا في إمكانية تحقيق ذلك، وسط تساؤلات حول الحجم الإضافي للسفر الجوي الذي تتطلبه دورة بهذا الحجم، والضغط الذي ستضيفه على قدرة قلب المدينة لضمان ديمومة حركة النقل وانسيابها؛ الأمر الذي دفع بـ«منظمة مراقبة الكربون» إلى الزعم أن «خطط العاصمة الفرنسية لخفض الانبعاثات لم تذهب بعيداً بما فيه الكفاية، وستكون دورة الألعاب دون مساهمة فعلية في مواجهة تغير المناخ».

وقد عاندت باريس بشدة دعوات مزدادة لإعادة التفكير في الحدث، وتحويله إلى سلسلة أحداث محلية يمكن توزيعها على مناطق عدة عبر فرنسا وربما جيرانها أيضاً؛ لأنه يفقد حينئذ ميزة العملقة التي تخدم أغراض الاستعراض السياسي وبناء القوة الناعمة. ويتهم البعض الحكومة باستغلال المناسبة العالمية لتمكين مشروع ضخم للمراقبة المكثفة في فرنسا عبر نشر شبكة هائلة من كاميرات الرقابة في بلد ظل حساساً دائماً لناحية الحق في الخصوصية.

فهل خلط الفرنسيون رياضة العالم بسياستهم؟

إن تاريخ الأولمبياد، منذ استعاد العالم مزاج الألعاب الرياضية الإغريقية القديمة في ثوب عصري بداية من عام 1896 (دورة أثينا)، ظلّ دائماً شديد الارتباط بالسياسة وموازين القوى بين الأمم، وعكست مسائل اختيار المدن المضيفة، والدول التي تُدعى فرقها للمشاركة فيها، المزاج السياسي والتحالفات الدّولية في وقتها، وتداخلت مع توجهات الأمم الرائدة والصاعدة لبناء مصادر قوتها الناعمة.

يقول المؤرخون مثلاً إن باريس عندما نظّمت «أولمبياد 1900» كانت تمور بالأفكار التي وجدت قنوات لها للتجسد في مختلف مجالات الفنون والعلوم والصناعة، وتلازم تنظيم دورة الألعاب حينها مع استضافتها المعرض الدّولي الذي كان يستقطب الزائرين من مختلف أرجاء العالم للاطلاع على أحدث الاختراعات والإنجازات الصناعيّة المبهرة، فأصبحت الدورة الرياضية كأنّها مجرد نشاط ترفيهي ملحق بالمعرض. ولا شكّ في أن فرنسا استخدمت نفوذها السياسيّ الطاغي حينئذ لفرض أجندتها على «اللجنة الأولمبيّة الدّولية» ووضع الدورة في خدمة أولويات الدولة الفرنسية اقتصادياً وسياسياً.

وتصف صحافة تلك الفترة ضخامة الحدث؛ الذي استمر لما يزيد على 5 أشهر - من منتصف مايو (أيّار) إلى نهاية أكتوبر (تشرين الأول) - بمشاركة 59 ألف رياضيّ حضروا للمنافسة من مختلف أرجاء العالم، وجمع لحمايتهم وإسنادهم أكثر من 10 آلاف رجل من الإطفائيين والمسعفين والصيادين، وهؤلاء شاركوا في منافسة لصيد الأسماك من نهر السين سعياً لتوفير الأموال التي تدفع لاستيراد الأسماك البحرية من دول مجاورة، ناهيك بعدد هائل من موظفي الحكومة الفرنسية الذين أداروا الأنشطة المرافقة للدورة عبر شبكة ضخمة من لجان فرعية توجهها لجنة تنظيم مركزية تتبع وزير التجارة الفرنسي.

ويقول المؤرخ البريطاني ديفيد أوين في كتابه «القوات الأخرى: الرياضة عند الفرنسيين من وجهة نظر إنجليزية (2024)» عن دورة عام 1900 إن التقرير النهائي الذي صدر عن وزارة التجارة والصناعة الفرنسية - لا عن جهة رياضيّة - أفاض في وصف العربات والآليات التي تنتجها المصانع الفرنسية - سواء للأغراض المدنية والعسكرية - والتي شاركت في أنواع مختلفة من رياضات السباق، إضافة إلى وصفه المكثف نشاطات موازية استعرضت كفاءة تلك العربات وغيرها من الآليات الثقيلة وسيارات النقل ومعدات القتال أمام الجماهير على هامش سباقات الأولمبياد. ويلاحظ كذلك أن أنشطة الرّماية وسباقات المناطيد (وصل أحدها إلى جوار كييف على بعد 1900 كيلومتر من باريس) والمنافسات بين وحدات المدفعية (هذه الأخيرة اقتصرت المشاركة فيها على الفرنسيين) شكلت في مجموعها الجزء الأهم من الفعاليات التي نظمت تحت مظلّة الدّورة بما يخدم توجهات العسكرة للدولة الفرنسية حينها.

وهكذا؛ بين «باريس 1900» و«باريس 2024» تغيرت أولويات الدولة الفرنسية، وتفاوتت الرياضات المشمولة بالأولمبياد، ولكن مبدأ اختلاط السياسة بالرياضة ظل ثابتاً لا يتبدل.