تحدّيات استثنائية لإعادة بناء نظام الرعاية الصحيّة في لبنان

الدكتور محمّد حسن الصّايغ، ألاء مرعي، الدكتور ديفيد م. بيكرز
الدكتور محمّد حسن الصّايغ، ألاء مرعي، الدكتور ديفيد م. بيكرز
TT

تحدّيات استثنائية لإعادة بناء نظام الرعاية الصحيّة في لبنان

الدكتور محمّد حسن الصّايغ، ألاء مرعي، الدكتور ديفيد م. بيكرز
الدكتور محمّد حسن الصّايغ، ألاء مرعي، الدكتور ديفيد م. بيكرز

على مدى العامين الماضيين، تبدّل حال نظام الرعاية الصحيّة في لبنان، الذي كان يُعرف سابقاً باسم «مستشفى الشرق الأوسط»، عما كان عليه في السابق. عبر التاريخ، كان لبنان مركزاً للمراكز الطبية الأكاديمية والوجهة الرائدة للسياحة العلاجيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولكن هذه المكانة القياديّة تهالكت بسبب الانهيار الاقتصادي في لبنان وانهيار العملة اللبنانية في أواخر عام 2019 وبداية عام 2020، إلى جانب الضغط العالمي لوباء «كوفيد 19». نتيجة لهذه العوامل المؤسفة، غادر الأطباء والممرضون وغيرهم من المتخصّصين في الرعاية الصحيّة المؤهلين تأهيلاً عالياً البلاد إلى مراكز طبية أخرى في منطقة الخليج وأوروبا والولايات المتحدة. في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، نزل اللبنانيون إلى الشوارع للاحتجاج على عقود من الفساد المستشري الذي بلغ ذروته إلى حالة ميؤوس منها في جميع قطاعات الاقتصاد تقريباً ولكن بشكل أكبر في الرعاية الصحيّة. رافق الفشل الاقتصادي شللاً سياسياً وقلّل الاعتماد على العملة اللبنانية من قدرتها الشرائية بشكل كبير. واقترن ذلك بفرض النّظام المصرفي اللبناني قيوداً مشددة (مراقبة رأس المال) على سحب أو تحويل العملات الأجنبية، مما جعل جميع العناصر الأساسية للسير الطبيعي للاقتصاد تؤثّر على جميع القطاعات وخاصة قطاع الرعاية الصحيّة الذي يعتمد على استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية من خارج الدولة. بالإضافة إلى ذلك، تدمّر نظام الرعاية الصحيّة بسبب النقص المتكرر في الوقود والارتفاع الشديد في الأسعار وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة بشكل يومي، حيث إن الغالبية العظمى من اللبنانيين يحصلون على الكهرباء لأقل من ساعتين في اليوم. تزيد هذه الضغوطات من إجبار المستشفيات على تقنين الخدمات المقدّمة لمرضاها وإيقاع نظام الرعاية الصحيّة في حالة من الفوضى.
في 4 أغسطس (آب) 2020، تسبب ما يقارب 3000 طن من نترات الأمونيوم المخزّنة بشكل غير قانوني في انفجار هائل في مرفأ بيروت أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة آلاف آخرين. بعد ذلك، استقالت الحكومة اللبنانية مجتمعة تاركة الدولة اللبنانية في حالة من الفوضى العارمة. في ذلك الوقت، كان لبنان يستضيف أكبر عدد من اللاجئين الأجانب في العالم من حيث نصيب الفرد، بما في ذلك ما يزيد على مليون سوري هربوا من جرّاء الحرب الأهلية بحثاً عن ملاذ آمن لعائلاتهم. خلقت هذه العوامل مجتمعة أزمة قوّضت نظام الرعاية الصحيّة اللبناني وحجبت عن المستشفيات ومقدمي الرعاية الصحيّة الموارد اللازمة لتقديم جودة الرعاية التي كانت سمة مميزة في المنطقة. تشير التقديرات إلى أن الانخفاض الكبير في قيمة العملة اللبنانية أدّى إلى انخفاض بنسبة تصل إلى 80 في المائة من الدخل السابق للأطباء والعاملين الآخرين في مجال الرعاية الصحيّة.1 وقد وجّه تسلسل الأحداث هذا ضربة ساحقة للعديد من العاملين اللبنانيين السابقين في مجال الرعاية الصحيّة، مما أجبرهم على البحث عن فرص بديلة في أماكن أخرى. وفي سبتمبر (أيلول) 2021، أشار تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن حوالي 40 في المائة من الأطباء المهرة و30 في المائة من الممرضين المسجلين قد غادروا لبنان منذ أكتوبر 2019. 2 ولقد أشار رئيس نقابة الأطباء اللبنانيين مؤخراً إلى أن النزوح المستمر للأطباء لا يعرض تقديم خدمات الرعاية الصحيّة للخطر فحسب، بل يهدد أيضاً تعليم الأطباء المستقبليين. في الواقع، سلّط مقال نُشر مؤخراً في الـ«واشنطن بوست» الضوء على الهجرة الجماعية لاختصاصيي الرعاية الصحيّة من لبنان.3
في العام 2009، وبدعمٍ قوي من مجلس أمناء الجامعة الأميركية في بيروت، أطلقنا برنامجاً بعنوان: رؤية المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت لعام 2020، وتمكّنا من تجنيد أكثر من 200 طبيب وعالم وطني سابق في المركز الطبي معظمهم من أميركا الشمالية بين عامي 2009 و2019. ولكن، أكثر من نصف هؤلاء المجندين غادروا لبنان الآن وذلك فقط في مؤسسة واحدة. لسوء الحظ، يحدث هذا في وقتٍ نحن فيه بأمس الحاجة إلى هؤلاء المحترفين أكثر من أي وقت مضى. وقد تسببت هجرة العقول في نَدرة حرجة في العاملين في الخدمات الأساسية والعناية المركزة والطوارئ في الوقت الذي كانت فيه جائحة «كوفيد 19» متفشية في لبنان.
كان لهذه الأزمات متعددة الطبقات تأثير سلبي مدمّر على السكان اللبنانيين، كما أدى فقدان القوة الشرائية للعملة اللبنانية إلى جعل الرعاية الصحيّة غير متاحة للعديد من الأشخاص الذين لم يعودوا قادرين على الحصول على حتى أبسط احتياجاتهم الصحيّة. وقد أصبح العديد من المرضى يواجهون قراراً صعباً بإنهاء علاجاتهم بسبب القيود المالية. إن هذا الأمر لا يضر فقط بقضايا الرعاية الصحيّة الحالية، بل يؤدي أيضاً إلى تفاقم صحتهم النفسية ورفاهيتهم. وفي حال دخل العالم في ركود عالمي في عام 2022، فإن مصير كل هذه التحديات سيبقى غير مؤكد بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الحالية المتفاقمة في لبنان.
أكد رئيس بعثة منظمة أطباء بلا حدود في لبنان أن هناك ثلاثة عوامل اقتصادية على الأقل يمكن أن تؤدّي إلى وفيات بين السكان يمكن الوقاية منها تماماً: 1) عدم توفر الكهرباء و2) نقص الإمدادات الكافية و3) نقص في الموظفين. 4 إن القيود المتمثلة في نقص و- أو عدم توفر العديد من الأدوية الأساسية، وخاصة الأدوية المضادة للسرطان، يمكن أن تؤدي إلى تآكل صحة ورفاهية الشعب اللبناني. على سبيل المثال، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، أعلنت وزارة الصحة عن الإلغاء الجزئي لدعم شراء بعض الأدوية مما أدى إلى نقص كبير في إمدادات الأدوية الأساسية. وقد أصبحت بعض الأدوية الآن تكلف أكثر من الحد الأدنى للأجور الشهرية لكثير من الناس.
كما ساهمت الأزمة الاقتصادية في تزعزع العلاقة التقليدية بين الطبيب والمريض. توقفت المستشفيات الخاصة عن قبول المرضى الذين لا يدفعون، بما في ذلك أولئك الذين يغطيهم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. أما المرضى الذين لديهم تأمين خاص، فقد أصبح يُطلب منهم أيضاً دفع الفروق النثرية بين الليرة اللبنانية وسعر صرف الدولار الأميركي الذي تحدده المستشفى وتوافق عليه شركات التأمين. إن هذه الإجراءات تؤدي إلى عبء مالي ضخم على اللبنانيين، نعتقد أنه غير مستدام، مما يؤدي إلى زيادة معدلات الاعتلال والوفيات بسبب عدم قدرتهم على دفع تكاليف الرعاية الصحيّة. في الواقع، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 50 في المائة من اللبنانيين يعيشون الآن في الفقر. وهذا بدوره له تأثير سلبي على صحة الأطفال. ففي السنوات الأخيرة، كانت هناك زيادة كبيرة في عدد الأطفال اللبنانيين الذين يعانون من سوء التغذية الحاد خلال هذه الأزمة الصحيّة والاقتصادية. وقد أبلغت العيادات الخاصة عن انخفاض بنسبة 50 في المائة تقريباً في توفير التطعيم الروتيني للأطفال. مع ارتفاع تكلفة الأدوية، سيُحرم هؤلاء الأطفال من الوصول إلى خدمات الرعاية الصحيّة الأولية لتلقي العلاج اللازم.
كما أثّرت الأزمة على الوضع الأكاديمي لأنظمة الرعاية الصحيّة في لبنان. 5 أظهرت الدراسات الحديثة أنه من بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، احتل لبنان المرتبة الثالثة من حيث عدد المنشورات المتعلقة بأبحاث الطب الحيوي والرعاية الصحيّة للفرد. فقد كانت البحوث الصحيّة والتجارب السريرية في لبنان محدودة جداً.
لقد ناشد البنك الدولي «واضعي السياسات» في لبنان عبثاً أن يتبنوا بشكل عاجل خطة إنعاش اقتصادي ومالي شاملة ضرورية لتنفيذ الإصلاحات التي طال انتظارها. صرح البنك الدولي بأن دماراً شاملاً قد يحلّ بالشبكات الاجتماعية والاقتصادية، مع تهديد خطير للأصول البشرية. 6 تشكل حالة عدم اليقين السياسي في لبنان اليوم تهديداً خطيراً للصحة والرفاهية الحالية والمستقبلية للبلد. في الواقع، إذا كان لبنان سيتعافى من حالة الفوضى الحالية، فمن الضروري تنفيذ إصلاحات اقتصادية وسياسية رئيسية لضمان إتاحة خدمات الرعاية الصحيّة على نطاق أوسع للسكان. يجب تطوير السياسات لاستعادة جودة كليات الطب والتمريض والمستشفيات التعليمية لاستعادة تفوق لبنان كمحور طبي رائد في المنطقة. يجب أن تتضمن المفاوضات الحالية بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي رؤية وخطة واضحتين فيما يتعلق بتعافي قطاع الرعاية الصحيّة قريباً وقبل أن يتعذر إصلاح الضرر - خوفاً من أن يكون الأوان قد فات!



خطوات يمنية لمحاسبة مسؤولين متهمين بالفساد

الحكومة اليمنية تراهن على قطاعي النفط والاتصالات لتحسين الإيرادات (إعلام محلي)
الحكومة اليمنية تراهن على قطاعي النفط والاتصالات لتحسين الإيرادات (إعلام محلي)
TT

خطوات يمنية لمحاسبة مسؤولين متهمين بالفساد

الحكومة اليمنية تراهن على قطاعي النفط والاتصالات لتحسين الإيرادات (إعلام محلي)
الحكومة اليمنية تراهن على قطاعي النفط والاتصالات لتحسين الإيرادات (إعلام محلي)

في خطوة إضافية نحو مكافحة الفساد ومنع التجاوزات المالية، أحال رئيس الوزراء اليمني، الدكتور أحمد عوض بن مبارك، رئيس إحدى المؤسسات النفطية إلى النيابة للتحقيق معه، بعد أيام من إحالة مسؤولين في مصافي عدن إلى المحاكمة بتهمة الفساد.

تأتي الخطوة متزامنة مع توجيه وزارة المالية خطاباً إلى جميع الجهات الحكومية على المستوى المركزي والسلطات المحلية، أبلغتها فيه بالامتناع عن إجراء أي عقود للشراء أو التزامات مالية جديدة إلا بعد الحصول على موافقة مسبقة من الوزارة.

الخزينة اليمنية خسرت نحو 3 مليارات دولار نتيجة توقف تصدير النفط (إعلام محلي)

وقال بن مبارك في حسابه على «إكس» إنه أحال ملفاً جديداً في قضايا الفساد إلى النائب العام، ضمن إجراءات مستمرة، انطلاقاً من التزام الحكومة المطلق بنهج مكافحة الفساد وإعلاء الشفافية والمساءلة بوصفه موقفاً وليس مجرد شعار.

وأكد أن الحكومة والأجهزة القضائية والرقابية ماضون في هذا الاتجاه دون تهاون، مشدداً على أنه لا حماية لمن يثبت تورطه في نهب المال العام أو الفساد المالي والإداري، مهما كان موقعه الوظيفي.

في السياق نفسه، أوضح مصدر حكومي مسؤول أن مخالفات جديدة في قضايا فساد وجرائم تمس المال العام تمت إحالتها إلى النائب العام للتحقيق واتخاذ ما يلزم، من خلال خطاب وجّه إلى النيابة العامة، يتضمن المخالفات التي ارتكبها المدير التنفيذي لشركة الاستثمارات النفطية، وعدم التزامه بالحفاظ على الممتلكات العامة والتصرف بشكل فردي في مباحثات تتعلق بنقل وتشغيل أحد القطاعات النفطية.

وتضمن الخطاب -وفق المصدر- ملفاً متكاملاً بالمخالفات التي ارتكبها المسؤول النفطي، وهي الوقائع التي على ضوئها تمت إحالته للتحقيق. لكنه لم يذكر تفاصيل هذه المخالفات كما كانت عليه الحال في إحالة مسؤولين في مصافي عدن إلى المحاكمة بتهمة التسبب في إهدار 180 مليون دولار.

وجدّد المصدر التزام الحكومة المُطلق بالمحافظة على المال العام، ومحاربة جميع أنواع الفساد، باعتبار ذلك أولوية قصوى. وأشار إلى أن القضاء هو الحكم والفيصل في هذه القضايا، حتى لا يظن أحد أنه بمنأى عن المساءلة والمحاسبة، أو أنه فوق القانون.

تدابير مالية

في سياق متصل بمكافحة الفساد والتجاوزات والحد من الإنفاق، عمّمت وزارة المالية اليمنية على جميع الجهات الحكومية عدم الدخول في أي التزامات مالية جديدة إلا بعد موافقتها على المستويات المحلية والمركزية.

تعميم وزارة المالية اليمنية بشأن ترشيد الإنفاق (إعلام حكومي)

وذكر التعميم أنه، وارتباطاً بخصوصية الوضع الاقتصادي الراهن، واستناداً إلى قرار مجلس القيادة الرئاسي رقم 30 لعام 2022، بشأن وضع المعالجات لمواجهة التطورات في الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي، وفي إطار دور وزارة المالية بالموازنة بين النفقات والإيرادات، فإنها تهيب بجميع الجهات المشمولة بالموازنة العامة للدولة والموازنات الملحقة والمستقلة الالتزام بالإجراءات القانونية وعدم الدخول في أي التزامات جديدة أو البدء في إجراءات عملية الشراء إلا بعد أخذ الموافقة المسبقة منها.

وأكد التعميم أن أي جهة تُخالف هذا الإجراء ستكون غير مسؤولة عن الالتزامات المالية المترتبة على ذلك. وقال: «في حال وجود توجيهات عليا بشأن أي التزامات مالية فإنه يجري عرضها على وزارة المالية قبل البدء في إجراءات الشراء أو التعاقد».

دعم صيني للإصلاحات

وناقش نائب محافظ البنك المركزي اليمني، محمد باناجة، مع القائم بالأعمال في سفارة الصين لدى اليمن، تشاو تشنغ، مستجدات الأوضاع المتعلقة بتفاقم الأزمات المالية التي يشهدها اليمن، والتقلبات الحادة في أسعار الصرف التي تُعد نتيجة حتمية للوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد، والذي أثر بشكل مباشر على القطاع المصرفي والمالي.

وأعاد المسؤول اليمني أسباب هذا التدهور إلى اعتداء «ميليشيات الحوثي» على منشآت تصدير النفط، ما أدى إلى توقف التصدير، الذي يُعد أهم مصدر لتمويل خزينة الدولة بالنقد الأجنبي، والذي تسبب في مضاعفة العجز في الموازنة العامة وميزان المدفوعات.

نائب محافظ البنك المركزي اليمني خلال لقائه القائم بالأعمال الصيني (إعلام حكومي)

وخلال اللقاء الذي جرى بمقر البنك المركزي في عدن، أكد نائب المحافظ أن إدارة البنك تعمل جاهدة على تجاوز هذه التحديات، من خلال استخدام أدوات السياسة النقدية المُتاحة. وأشار إلى استجابة البنك بالكامل لكل البنود المتفق عليها مع المبعوث الأممي، بما في ذلك إلغاء جميع الإجراءات المتعلقة بسحب «نظام السويفت» عن البنوك التي لم تنقل مراكز عملياتها إلى عدن.

وأعاد المسؤول اليمني التذكير بأن الحوثيين لم يتخذوا أي خطوات ملموسة، ولم يصدروا بياناً يعبرون فيه عن حسن نياتهم، في حين أكد القائم بأعمال السفارة الصينية دعم الحكومة الصينية للحكومة اليمنية في كل المجالات، ومنها القطاع المصرفي، للإسهام في تنفيذ الإصلاحات.