يقول المستشار الألماني الراحل أوتو فون بسمارك: «الغبيّ وحده يتعلّم من أخطائه. والرجل الحكيم يتعلّم من أخطاء غيره».
وما يُميّز بسمارك عن غيره من السياسيّين أنه عرف بدقّة حدود استعمال القوّة، كما عرف تركيبة النظام الأوروبي في ذلك الوقت بحسٍّ سياسي مُرهف. عرف نقاط ضعف النظام، كما نقاط القوّة. وعليه، تسلّل بين نقاط ضعف النظام الأوروبيّ، وتلاعب بالتوازنات في القارة العجوز لتحقيق الأهداف الألمانية العليا. لكن، يقول بعض المؤرّخين إن إنجازات بسمارك في ألمانيا حضّرت أوروبا لحربين عالميتين: الأولى والثانية.
إذن، إنجاز من هنا وردّات فعل من هناك، الأمر الذي يأخذنا إلى فكر الفيلسوف الأميركي كارل بوبر، الذي يقول: «لا حلول في الحياة بشكل مُطلق. يتعلّق الأمر بإدارة المشاكل لا حلّها، إذ إن كلّ حلّ يُستنبط، يخلق بدوره مشكلة جديدة لا بد من حلّها. وهكذا دواليك».
لكلّ حرب أهداف سياسيّة، ولأجلها تُخاض الحروب. أفلا يمكن اتّباع نصيحة صان تسو الذي يُحدّد النصر عبر هزيمة العدو لكن من دون قتاله؟
أين الدروس المًستقاة من تاريخ الحروب؟ وأصلاً، ماذا تعني «الدروس المُستقاة»؟
يقول الخبراء إن الدروس تؤخذ من الحرب بعد إسدال الستارة عليها. وهذه الحرب المنتهية، هي بدورها كانت قد استفادت من الدروس المستقاة من الحروب التي حصلت قبلها. وإذا كانت الدروس تُؤخذ، فلماذا يُعاد تكرار الأخطاء؟ وإذا كان لكل فريق من المحاربين استراتيجيّته التي تأخذ بعين الاعتبار دروس الماضي، فلماذا هناك استراتيجيّة ناجحة وأخرى فاشلة؟ تأخذنا هذه الأسئلة إلى جدليّة مفهوم الدروس المُستقاة. فماذا عنها؟
السيناريو: تُخاض الحرب. يأخذ كلّ فريق الدروس المستقاة، يحلّلها، ويُدخلها في جاهزيّته الفكريّة والتنفيذيّة، وذلك بغض النظر عمّن انتصر أو انهزم.
وهنا تخلق عمليّة إدخال الدروس في الجاهزيّة واقعاً جديداً لدى كلّ الأفرقاء المعنيين بالحرب. وعليه، لا بد من رسم استراتيجيّات جديدة مُحدّثة.
فهل فعلاً إدخال الدروس المستقاة في الجاهزيّة سيؤدي إلى النصر؟ لكن نصر من؟ وفشل من؟ إذ من المفترض أن تُحسّن هذه الدروس الأداء، وتؤدّي إلى إنجازات أفضل.
في بعض الأمثلة:
• في الحرب الكوريّة عام 1950، أخطأ كيم إيل سونغ عندما اجتاح كلّ كوريا وصولاً إلى أقصى الجنوب - مدينة بوسان. وبذلك جعل كيم خطوط مواصلاته طويلة وهشّة ومعرّضة لكل أنوع الهجمات. وردّاً على كيم، قام الجنرال ماك آرثر بتنفيذ إنزال بحري في مدينة إنشون بوسط كوريا ليقطّع كوريا إلى شمال وجنوب، وضرب خطوط مواصلات كيم. لكن خطأ ماك آرثر كان في متابعة الهجوم الأميركي إلى أقصى الشمال الكوري حتى الحدود الصينيّة، مكرّراً خلال فترة وجيزة خطأ كيم، أي أنه لم يأخذ الدروس من أخطاء غيره. وعليه، تدخّلت الصين بقوّة. وأراد ماك آرثر استعمال النووي، فأُطيح به لأنه لم يتأقلم مع مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وأراد خوض الحرب الجديدة بعقليّة الماضي.
• راقب الجيش الروسي أداء الجيش الأميركي في كلّ من العراق وأفغانستان، واستنتج من ذلك أنه لا يمكن للجيش الروسي مقارعة الجيش الأميركيّ في حرب تقليديّة. وشكّلت الحرب على جورجيا عام 2008 نقطة تحوّل في الفكر العسكريّ الروسي بسبب الأداء السيّئ، فقرّر عندها رئيس الأركان الروسي، نيكولا ماكاريف، تحديث الجيش الروسي وبدء ما يُسمّى «الثورة في الشؤون العسكريّة». وتناولت هذه الثورة الأبعاد التالية: التنظيم، التسليح والتدريب. تمّ بعدها تجربة الجيش الروسي مع عقيدته الجديدة في كلّ من القرم، ودونباس وسوريا. وعليه، اعتبرت القيادة الروسية أن هذا الجيش أصبح قادراً على خوض حروب القرن 21. كانت كلّ هذه التجارب تحت قيادة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، وهو أصلاً مهندس وليس عسكريّاً، بالإضافة إلى رئيس الأركان فاليري غيراسيموف وعقيدته القتاليّة الشهيرة حول كيفيّة خوض الجيش الروسي حروب القرن 21. لكن أهمّ ما ورد في عقيدته هو: استعمال الوسائل العسكريّة وغير العسكرّيّة، والحرب الهجينة، والقتال في المناطق الرماديّة، أي بين حالتي الحرب والسلم، والاستعمال الواسع والمستمر لحرب المعلومات ضدّ العدو لخلخلة وضعه الداخلي.
أين نحن من كلّ هذه الدروس المستقاة؟
يُقال في العلم العسكري ما يلي: «تحتاج القوّة العسكريّة إلى واقع وظروف معيّنة ملموسة كي تُعبّر عن ذاتها، كونه لا يمكن قياس هذه القوّة في العالم المُجرد.
وتشكّل أوكرانيا اليوم الواقع الملموس للجيش الروسي. فماذا عن الدروس المستقاة قبل الحرب؟ وهل طابقت الواقع المُتخيّل؟ وماذا عن الدروس التي تُؤخذ حالياً من أرض المعركة، ومما عسكه الواقع؟ باختصار، نحن في مرحلة التجربة والخطأ والتأقلم. فالمسرح جغرافيّ بالطبع، لكن الوقود هو الإنسان. وقد نكون في بداية الطريق.
الدروس المستقاة من حرب أوكرانيا
الدروس المستقاة من حرب أوكرانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة