محمد عابد الجابري... صحافياً

محمد عابد الجابري
محمد عابد الجابري
TT

محمد عابد الجابري... صحافياً

محمد عابد الجابري
محمد عابد الجابري

إذا كانت الكتابات الصحافية، تشكل مرجعاً مهماً لكل باحث من أجل رصد واستقصاء وقائع التاريخ السياسي لمغرب ما بعد الاستقلال، فإن دور المثقفين كان رئيسياً في هذا المنجز، عبر بوابة الإعلام، إذ كثيراً ما ارتبطت بدايات الصحافة في غالبيتها بالثقافة خلال مرحلة التأسيس للفعل الإعلامي بالمملكة.
واستناداً إلى مسار تاريخ الصحافة المغربية، يلاحظ أن أبرز الصحافيين الذين تركوا بصماتهم الإيجابية في مهنة المتاعب، هم أولئك الذين انتقلوا إلى صاحبة الجلالة من الحقل الثقافي، من أبرزهم محمد بلحسن الوزاني (1910 - 1978)، والمكي الناصري (1906 - 1994)، وعبد الكريم غلاب (1919 - 2017)، وعبد الهادي بوطالب (1923 - 2009)، ومحمد عابد الجابري (1935 - 2010)، ومحمد العربي المساري، (1936 - 2015) وعبد الجبار السحيمي (1938 - 1912)، فضلاً عن آخرين التحقوا فيما بعد بالسلطة الرابعة التي تحولت مع الثورة الرقمية فيما بعد إلى سلطة أولى. وإن كان غالبية هؤلاء «المثقفين الصحافيين» لا يخفون التزامهم السياسي، إلا أنهم كانوا يجمعون على أن العمل الصحافي شأن ثقافي وطني.
وإذا كان من هؤلاء من انخرط في الصحافة وشق طريقه بها، إلى حد أصبح الحديث عن المهنة مقترناً باسمه، أكثر من إسهامه في المجال الثقافي، فإن آخرين توقفوا عن ممارسة الكتابة الصحيفة، وكرسوا جهودهم لعوالم الفكر والإبداع بعد التجربة التي مروا بها بمهنة المتاعب، وفي مقدمة هؤلاء صاحب «نقد العقل العربي» محمد عابد الجابري (1935 - 2010) الذي بدأ في أم الجرائد المغربية «العلم»، التي غادرها بعد «انتفاضة 25 يناير»، ليلتحق بجريدة «التحرير» بعد تأسيسها سنة 1958 التي استمر بها إلى غاية توقفها في سنة 1963.
في هذا الصدد، قليلاً ما جرى الانتباه إلى منجز الجابري في مجال الصحافة، رغم أهمية هذه المرحلة في مساره، التي يقول عنها إنها كانت «بحق تجربة مؤسسة... وأغنى وأغلى شيء في حياتي»، موضحاً أن مروره بالصحافة مكنه من دخول النضال السياسي والصحافي من بابه الواسع، كما جعلته معروفاً من كافة أعضاء حزبه وغيرهم أيضاً، وأصبح موضع ثقة الجميع.
تعلم الكتابة من الصحافة
في معرض حديثه عن كتاباته السياسية في صحيفة «التحرير» قال: «تعلمت كيف أكتب وأنتبه، في الوقت نفسه، إلى القراءات الممكنة لما أكتب»، معترفاً بأنه، بفضل هذا النوع من الممارسة، استطاع أن يكتب أقوى كتابة وأعنفها. لكن دون أن يجد «القراء المختصون في قراءة النوايا سبيلاً إلى اتهامي بشيء، ودون أن يتسبب ما كتبته في حجز أو توقيف». فرغم إمكانياتها المادية المتواضعة، - يوضح الجابري - صارت (التحرير) تمارس الرقابة على الحاكمين صغاراً وكباراً بصورة أكثر اتساعاً، وهو ما جعل من هذه الجريدة سلطة رابعة تمارس دورها الصحافي، وفي نفس اليوم تقوم مقام السلطة الثالثة (التشريعية) والسلطة الثانية (القضائية) على مستوى الرقابة والدفاع عن الحق العام والخاص، كما جاء في كتابه «في غمار السياسة: فكراً أو ممارسة» الصادر في ثلاثة أجزاء.
غير أن الجابري يستدرك قائلاً: «بطبيعة الحال، فقد كان لا بد من أداء ثمن هذه الرقابة النافذة وسط الأجهزة الرسمية. كان الثمن متنوعاً: الحجز العام، المصادرة المحلية، والمحاكمات والذعائر، وممارسة أنواع من التخويف والإرهاب والانتقام»، موضحاً أنه رغم التضييق فإن «جميع المواطنين الشرفاء، كانوا عيوناً...، بصورة عفوية وبدافع الوطنية والغيرة على الحق». وكثيراً ما توقف عند المصادر التي تستقي منه الجريدة التي رغم أنها لم يكن لديها «جهاز استخبارات منظم»، فإن المراسلين والمناضلين والمخبرين وكثير من رجال الإدارة من مختلف المستويات كانوا يزودونها يومياً، بكم هائل من «الأسرار» التي كانت تنشرها في ركن يومي بعنوان «كواليس» تدرج فيه أخباراً سرية في صيغة، تارة على صورة نص صريح، وتارة على شكل إشارة مع نوع من السخرية.
صحافة لنشر الوعي
وأوضح الجابري أن هذه الأخبار «كانت تنقل من مختلف المدن والقرى، التصرفات والتدابير غير القانونية والسرية، وكثيراً من الأحوال الشخصية الخاصة بكبار الموظفين والتي لها علاقة بالمس بالأخلاق أو بالصالح العام»، مبيناً في هذا الصدد أن الموظفين الكبار والصغار في كل نواحي المغرب، كانوا ينتظرون كل صباح ما تقوله «كواليس التحرير» عنهم أو عن أصدقائهم، ونتيجة ذلك، كانت صفحات «التحرير» ليست فقط ميداناً لنشر الوعي عن طريق التعليقات والمقالات والدراسات في الشؤون المحلية والعربية والدولية، بل كانت أيضاً مرآة يرى فيها المواطنون كل صباح إشارات إلى بؤر الفساد وكشف عن فضائح، يضيف الجابري.
ولم يتوقف الجابري الذي كان سكرتير تحرير «التحرير» بعد اعتقال مديرها الفقيه محمد البصري (1925 - 2003) ورئيس تحريرها عبد الرحمن اليوسفي، ومصادرة الجريدة، في 15 ديسمبر (كانون الأول) 1959. بل أصدر إلى جانب رفاقه، في اليوم التالي «الرأي العام» التي كانت جريدة تابعة لحزب الشورى والاستقلال تحت إدارة كل من أحمد بنسودة (1920 - 2008) وعبد الهادي بوطالب، من نفس المطبعة ونفس المكاتب ونفس المحررين والعمال، إذ إن كل ما تغير هو اسم الجريدة واسم مديرها فقط.
وعن هذا التحول من «التحرير» إلى «الرأي العام»، يوضح الجابري بأنه كان برفقة محررين يقومون بمهمتهم في نفس الاتجاه، وبنفس القوة والحماسة ونفس اللهجة، كما كان الشأن على عهد «التحرير»، فكل ما كان من تغيير هو أن «كلمة الرأي العام» حلت محل كلمة «افتتاحية»، كما أن الركن الذي كان يكتبه باسم «صباح النور» غير اسمه بـ«العربي الفصيح»، والتوقيع الذي كان باسم «عصام» تحول إلى «ابن البلد»، وكما كانت هناك في التحرير تعليقات وأركان في الصفحات الداخلية كان مثل ذلك في «الرأي العام».
كانت علاقات الجابري قوية، مع رموز وقيادات سياسية معارضة آنذاك في مقدمتهم عبد الرحمن اليوسفي الذي سيصبح وزيراً أول في تجربة حكومة التناوب التوافقي ما بين 1998 و2002.
ويقول الجابري عن اليوسفي إنه كان «دقيق الملاحظة» خلال توليه مهام رئيس التحرير، موضحاً أن شيخ الاشتراكيين المغاربة كان قد دعا ساخراً هيئة تحرير الصحيفة، إلى تجنب إصدار «التحرير» في أول أبريل (نيسان)، التاريخ الذي كان مقرراً صدورها فيه، وذلك حتى لا توصف من خصومها بأنها مجرد «كذبة أبريل».
وجرى إصدارها في الثاني من أبريل. وبعدما توقفت «الرأي العام» عن الصدور في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1960. استأنفت «التحرير» الصدور، ولم يتغير غير العنوان، واسم المدير، مع إضافة رئيس التحرير، وبقيت كما كانت إلى أن احتجبت بصفة نهائية صيف 1963.
الصحافة والديمقراطية
يلاحظ أن الجابري كثيراً ما ربط حرية الصحافة بالديمقراطية، وهذا ما يتضح من خلال مقال له بعنوان: «حرية الصحافة بالمغرب بين القانون والواقع»، نشرته جريدة «التحرير» في الثالث من أبريل 1962، بمناسبة الذكرى الثالثة لصدورها في الثاني من أبريل 1959 انتقد فيه الفصل 77 من قانون الصحافة لسنة 1958، الذي يخول لوزير الداخلية الحق في حجز كل جريدة يرى فيها ما يعتبره مساً بالأمن العام.
بهذا الزخم الذي راكمه الجابري الذي انتقل من الكتابة بأم الجرائد «العلم» المغربية إلى «التحرير» وبعدها «المحرر»، وإدارة مجلات ثقافية، قبل أن يتفرغ كلية للتدريس الجامعي، والإنتاج الفكري، فإن كتاباته الصحافية، تشكل مادة للتأمل الفكري والدراسة والبحث العلمي، بعدما ذهب الباحثون المغاربة والعرب، إلى الانشغال بالإنتاجات الفكرية للجابري البالغة أزيد من 30 مؤلفاً. وهنا يطرح التساؤل حول مدى الحاجة إلى إعادة قراءة الفكر العربي من خلال تحليله ودراسة المكونات والبنى الثقافية واللغوية، وهو ما يتطلب في نظره إعادة الابتكار والخوض في القضايا الحضارية الكبرى.
* كاتب مغربي



عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.