على مدى سنواتها الـ54، اختبرت أسطورة الغناء الكندية سيلين ماري كلوديت ديون المجد والحب والموت. وذهبت بهذه الثلاثية إلى أقصى درجاتها. فالابنة الصغرى لعائلة تتألف من 14 فرداً، وجدت دائماً رجالاً يشكلون سندها: الأب أولاً، ثم رجل العمر، زوجها الراحل رينيه أنجليل، فأولادها الثلاثة، كبيرهم رينيه تشارلز والتوأمان إدي ونلسون. أرجحتها ثنائية الحياة والفناء، وفعلت الكثير بها. فكانت تأخذ وتعطي، وتسدد ثمناً من سعادتها. النجومية والجوائز ونسبة مبيعات الألبومات القياسية، وأضخم العروض وأكثر الأزياء لفتاً للأنظار، بطلتُها امرأة ملوّعة بالفقد، مثقوبة الأعماق.
لم يكن عيد ميلادها صاخباً هذه السنة. ففي 30 مارس (آذار) 1968 وُلدت في كبيك وفي التاريخ عينه، عام 2022. لمست النجمة العالمية المرهفة الحسّ شيئاً من هشاشة الإنسان في الوجود. يخونها جسدها ويبعدها عن جمهورها. فهذا المُركّب فرض عليها إرجاء جولاتها والاعتذار إلى الأحبة بحزن شديد. للأجساد عادة سيئة هي تغيير أجندة المرء حين يصاب بالمرض. انشغلت المواقع باعتزال سيلين ديون المؤقت للفن، بعد إعلان إصابتها بتقلّصات عضلية تلدغها بشكل متواصل. وتوالت الأخبار عن إلغاء حفلات بعد تحضيرات لأشهر. إنه الإنسان، سيد الهشاشة.
لم تكن الحياة غريبة الأطوار مع نجمة سطعت باكراً فأطلقت تسعة ألبومات فرنسية قبل بلوغ الثامنة عشرة. أي مراجعة للعمر على بُعد ستّ خطوات من الستين؟ يبدو أنّ المقاربة تصحّ وفق حسابات الوهن والقوة. فقد تعلمت الدرس منذ الوجع الأول، وتأكدت من أنّ لا شيء ثابتاً في دورة الوجود. يومٌ للمعجبين يملأون المسارح ويرفعون الأيدي للتصفيق الحار، ويوم للإحساس بحاجة ماسّة إلى الارتماء في الفراش وإطفاء الضوء. ذلك لأنّ للجسد صرخات قد تدوّي بشكل مرعب وتعطّل الأمزجة. وسيلين ديون رقيقة من الداخل، عذبة الحنجرة؛ فحين تعترضها التقلّصات وتشكو العضلات سوء حالها، يشهد داخلها أعتى مواجهة بين عشق الحياة وغلبة الوجع.
أعياد الميلاد فرصة للسؤال عن شريط يسمونه محطات العمر. وسيلين في الرابعة والخمسين، زاخرة بالمحطات. أجملها الحب. كانت في الثانية عشرة حين أرسلت إليها الأقدار رجلاً من أب سوري وأم لبنانية، يدعى رينيه عبد الجليل، فاتخذ له في المهجر كنية أنجليل. يكبرها بنحو 26 عاماً، ومع ذلك أحبته على مدى الحياة. سبق ارتباطه بها، زواجه من اثنتين وإنجابه ثلاثة أبناء. احتضنها بداية في كونه منتجاً موسيقياً وصانع نجوم. بعد سنوات، خفق القلب وأكملا العمر معاً حتى رحيله بين ذراعيها في عام 2016. معلناً نهاية معركة قاسية مع السرطان.
الحب يكلّف المعاناة حين يتدخّل الوداع. تفرغ الدنيا بعد الزحام ويحلّ صمت يحرّك النزيف. فالملياردير الكندي الذي تزوج أصغر أطفال أسرة ديون، هو نفسه الذي آمن بها وأراد لها اللمعان. ومن أجل ألبومها الأول، رهن منزله لتسديد التكاليف. أصبح مدير أعمالها والزوج الذي اعتزلت الحب من بعده.
لو قُدّر لها إطفاء شمعة العيد مع أمنية ثمينة، فعلى الأرجح ستكون الصحة. مَن يملك المال يدرك أنه مجرّد أوراق قد تخفق في ردع المرض حين يقرر التوحّش. ومَن يملك المجد يدرك أنه باطل، ولو بلغ بالمرء القمم. الصحة، فقائمة الأحلام والتوقعات.
منذ العام الماضي ووسائل الإعلام تتناقل خبر معاناتها مشاكل صحية تهدّد حياتها، واستمرار رحلة العلاج في المنزل. وذهب موقع «DayDayNews» أبعد حين نشر معلومات عن كونها طريحة الفراش، لا تقوى على النهوض. يطالها كلام جارح يتعلق بخسارتها كيلوغرامات من وزنها. فيتحدّث فضوليون عن «جسد هزيل لم يعد متناسقاً». الحقيقة أنّ التشنجات العضلية الطويلة الأمد هي السبب، قلبت حياتها.
وفي عيدها، ترفع سيلين ديون شأن الوفاء. يوم تدهورت صحة زوجها في عام 2014. وضّبت الحقائب وانتقلت للعيش في منزلهما بلاس فيغاس. توجّهت بتصريح أكدت فيه الأولويات: «أشاء أن أكرّس ما أملك من طاقة ووقت لشفاء زوجي. أتفرّغ له ولأولادنا». أكثر من عشرين سنة، والمنتج الموسيقي في حياتها، مديرَ أعمال، فزوجها وأب أولادها. كانت في بدايات المراهقة حين التقى بها وسحرته موهبتها، فشكّل حضوره جانباً مضيئاً من مسار عمرها. تصدق حين تقول إنها ارتبطت به منذ صغرها ولا تتخيل وجود رجل آخر في حياتها. جرّها من الطفولة إلى النضج، ورافقها منذ الخطوة الأولى إلى أنفاسه الأخيرة. «والحب الذي أحببتُه له هو حب عمري وهو ما أعيش به كل يوم». مأساتها في فقده.
هذا الفقد بمثابة ضربة على الرأس. ففي الحبيب، يكمن الرفيق والشريك وشعور الأمان. تصبح الحياة قصيدة رثاء حين يغادر الأحبة. بصورة يدين متشابكتين نشرتها في «إنستغرام»، اعترفت له في ذكرى رحيله بأنّ الأيام لا تمرّ من دون استعادة حضوره، وبحاجتها إليه وأولادها. وأكدت بقاءه في القلوب إلى الأبد. بهذه الطيبة، شاركت ضحايا انفجار بيروت مأساتهم ورفعت الصلاة لتضميد الجروح اللبنانية. نجمة «A New Day Has Come» هدية للإنسانية. الشفاء العاجل.
سيلين ديون... 54 عاماً من الحب الباهظ
سيلين ديون... 54 عاماً من الحب الباهظ
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة