مسرحية «كوكتيل منزلي» تفاعل بين الشخصيات يبلغ الجنون

ملصق العرض  -   فريق المسرحية
ملصق العرض - فريق المسرحية
TT

مسرحية «كوكتيل منزلي» تفاعل بين الشخصيات يبلغ الجنون

ملصق العرض  -   فريق المسرحية
ملصق العرض - فريق المسرحية

«الممثل مهما تعددت توجهاته، يعود إلى المسرح. إنّها العودة التي لا بد منها» بالنسبة لبرونو طبّال، الذي رأيناه مغنياً وممثلاً، وها هو يرجع إلى الخشبة مخرجاً لمسرحية تبدأ عروضها الأربعاء المقبل، في السادس من أبريل (نيسان)، ولأربع ليالٍ متواليات، في «مسرح مونتني» التابع لـ«المركز الثقافي الفرنسي» في بيروت.
«كوكتيل ميزون» بالفرنسية أو «كوكتيل منزلي»، على عكس ما يوحي به اسمها، مسرحية لا تدور أحداثها في بيت، بل في ملهى ليلي، تتفاعل داخله خمس شخصيات. النادل الذي ينتحل شخصيات عدة عبر تطبيق للمواعدة على الإنترنت، يتسبب في خلافات بين رواد الملهى. هم لا يعرفون بعضهم. من المفترض أنّ لا شيء يربطهم، لكن الأحداث تتطور، ونرى صلات بين الشخصيات، وتداخلات، وتفاعلاً يبلغ حد الجنون. كوميديا سوداء، يختلط فيها الواقعي بالمتخيل. يشاهد المتفرج ما يمكن أن يشبه أحواله، حيث تصبح العبثية جزءاً من اليوميات. إنّها مزيج أو كوكتيل، كما يقول العنوان، تختلط فيه المشاعر والقصص والأمزجة، والمآلات. يشارك في التمثيل إلى جانب مخرج المسرحية برونو طبّال كلٌ من سينتيا كرم، وماريا الدويهي، وجوزيف آصاف وباتريك الشمالي.
يروي برونو طبّال لـ«الشرق الأوسط»، أنّ الفكرة تعود لعام 2019، حين التقى صديقه الكاتب وليد اليازجي، وأخبره أنّه وضع نصاً فرنسياً، لعمل مسرحي، واتفقا يومها، على العمل معاً، وأن يقدماها خلال شهر الفرنكوفونية، الذي يحتفى به كل سنة في لبنان. أي أنّ المسرحية كان يفترض أن تقدم في شهر مارس (آذار) من عام 2020، لكن وباء كورونا، حال دون ذلك، كما حال دون أشياء كثيرة أخرى. وتتالت الأحداث، وتأجل العمل، إلى أن أحيا الصديقان الفكرة في ديسمبر (كانون الأول)، من العام الماضي، وبدآ العمل من جديد، مع بداية العام الحالي.
«منذ ثلاثة أشهر، بدأ العمل المكثف». يقول طبّال «صحيح أنّ المسرحية ستقدم باللغة الفرنسية، لكن بصرف النظر عن لغتها، بمقدور المتفرج أن يتابعها بسهولة. فهي مُلبننة إلى حد بعيد، الشخصيات لبنانية، كما أنّ الحوارات تختلط فيها مفردات بالإنجليزية والعربية مع الفرنسية، على الطريقة اللبنانية أيضاً».
ديكور جريء، مختلف عما يمكن أن يتخيله المتفرج لملهى ليلي، تابلوهات موسيقية، مرح وحزن، فريق عمل منسجم. سينتيا كرم التي عرفها الجمهور مع برونو طبّال، منذ كانا معاً، وأطلا في برنامج «ستار أكاديمي»، وعملا سوية من يومها. ماريا الدويهي، تعود إلى المسرح بحماس كبير بعد انقطاع طال أمده. باتريك شمالي الممثل الوحيد غير المحترف في العمل، يصفه المخرج بأنه «غايه في الهضامة حين يتحدث الفرنسية». أمّا جوزيف آصاف، فقد كان متوجساً من التمثيل بالفرنسية، لكنه كما يقول طبّال «يشّكل قيمة مضافة للعمل، وأنا سعيد للغاية أنّه وافق على المشاركة معنا. والفضل لسينتيا كرم التي كانت صاحبة الفكرة». الليالي الأربع المحددة لعرض المسرحية، قابلة للتمديد، خاصة أنّ الحجوزات ممتازة، منذ بدأ الإعلان عن العمل. يقول طبّال، إنّ «الإقبال مشجع جداً، رغم أنّ جمهور الفرنسية صغير. وعلى أي حال، فإنّ المسارح تشهد إقبالاً مفرحاً هذه الأيام. وبما أنّ المسرح الذي نعرض فيه، سيغلق بمجرد انتهائنا من تقديم عروضنا، بسبب ورشة إصلاحات؛ لذلك فنحن في حالة بحث عن مسرح يستقبلنا، لكنها كلها محجوزة، ونحاول تدبّر أمرنا».
فريق عمل المسرحية قد ينطلق بعد بيروت، لتقديم «كوكتيل منزلي»، في دول عربية. وثمة نص آخر لكاتب العمل وليد اليازجي، لكن بالعربية هذه المرة، سيقدمه أيضاً بالشراكة مع برونو طبّال، الذي يقول عنه، إنّه «مختلف جداً وسيسرّ المتفرجين».
عرف الجمهور برونو طبّال عن كثب حين أطلّ في برنامج «ستار أكاديمي» وتابعه يومياً، ولم ينقطع عن الغناء من حينها، والتمثيل، لكن إطلالته مخرجاً مسرحياً هذه المرة، تبدو مفاجئة لجمهوره. يشرح لنا بالقول، إنّ علاقته بالمسرح تعود إلى أيام المدرسة، «قدمت مسرحية كاملة من تأليفي وإخراجي وتمثيلي، حضرها الأهالي والتلامذة، وشعرت بنجاح وفخر وأحسست أنّني أنجزت شيئاً، وعلمت من حينها، أنّ هذا هو طريقي». عمل طبَّال في الإعلانات والتمثيل. و«جاء ستار أكاديمي والغناء ليأخذني إلى مكان آخر، لم يكن غريباً عني، لأنّني كنت في المدرسة قد شكلت فرقتي الموسيقية وأغني كما أمثل». أنا لا أنكر أنّ المسرح له رهبة ورهج، لا شيء يعوضهما لا السينما، ولا التلفزيون. إنه المكان الذي يمثل سحراً طعماً ولا أطيب بالنسبة للمثل، بسبب التفاعل المباشر مع الجمهور».
يعكف برونو طبّال حالياً على وضع كتاب باللغة الفرنسية عن طفولته، بعد أن أصدر سابقاً كتاباً بالإنجليزية عن تجربته في برنامج «ستار أكاديمي»، وكيف عاش الفترة التي تلته. كما يستعد لإصدار «فيديو كليب» جديد نهاية الشهر الحالي، وديو مع سينتيا كرم بداية الصيف. يقول «أحب أن أعمل بمزاج واستقلالية تامة. بطبيعتي أحب التجريب، ولا أخشى خوض تجارب جديدة، بل لا أحب التوقف عن الاكتشاف، والتجريب، ولا أخشى الفشل؛ لأنّه لا بدّ للإنسان أن يمتلك الشجاعة. ما يعني هو أن أحاول، وأن أضع كل جهدي في العمل الذي انكبّ على تنفيذه، كما أفعل هذه الأيام؛ إذ إنّني مستغرق كلياً في تدريبات المسرحية».


مقالات ذات صلة

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
يوميات الشرق برنامج «حركة ونغم» يهدف لتمكين الموهوبين في مجال الرقص المسرحي (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

«حركة ونغم» يعود بالتعاون مع «كركلا» لتطوير الرقص المسرحي بجدة

أطلقت هيئة المسرح والفنون الأدائية برنامج «حركة ونغم» بنسخته الثانية بالتعاون مع معهد «كركلا» الشهير في المسرح الغنائي الراقص في مدينة جدة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق أشرف عبد الباقي خلال عرض مسرحيته «البنك سرقوه» ضمن مهرجان العلمين (فيسبوك)

«سوكسيه»... مشروع مسرحي مصري في حضرة نجيب الريحاني

يستهد المشروع دعم الفرق المستقلّة والمواهب الشابة من خلال إعادة تقديم عروضهم التي حقّقت نجاحاً في السابق، ليُشاهدها قطاع أكبر من الجمهور على مسرح نجيب الريحاني.

انتصار دردير (القاهرة )
الاقتصاد أمسية اقتصاد المسرح شهدت مشاركة واسعة لمهتمين بقطاع المسرح في السعودية (الشرق الأوسط)

الأنشطة الثقافية والترفيهية بالسعودية تسهم بنسبة 5 % من ناتجها غير النفطي

تشير التقديرات إلى أن الأنشطة الثقافية والفنية، بما فيها المسرح والفنون الأدائية، تسهم بنسبة تتراوح بين 3 و5 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي بالسعودية.

أسماء الغابري (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)