عراقيون وعرب يتشاركون في أضخم حملة لدعم النازحين ورعايتهم

يقودها الفنان العراقي نصير شمة وانضم لها فنانون ورجال أعمال وسياسيون وناشطون

نصير شمة وسط  بعض الأطفال المشاركين في الحملة ({الشرق الأوسط})
نصير شمة وسط بعض الأطفال المشاركين في الحملة ({الشرق الأوسط})
TT

عراقيون وعرب يتشاركون في أضخم حملة لدعم النازحين ورعايتهم

نصير شمة وسط  بعض الأطفال المشاركين في الحملة ({الشرق الأوسط})
نصير شمة وسط بعض الأطفال المشاركين في الحملة ({الشرق الأوسط})

على نحو غير مسبوق، وفي تظاهرة مجتمعية وإنسانية كبيرة، حققت حملة «أهلنا» لدعم ورعاية النازحين في العراق نجاحًا متواصلاً منذ انطلاقتها في الأول من مايو (أيار) الحالي في العاصمة بغداد عبر عدد من الفعاليات الفنية والثقافية التي قادها الفنان العراقي نصير شمة الذي أكد في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أنه استطاع أن «يكسب الرهان بنجاح حملته التي أسهم بإنجاحها العراقيون أنفسهم». وأضاف: «وصل مبلغ التبرعات حتى كتابة التقرير إلى أكثر من 350 مليون دينار».
حملة «أهلنا» لدعم ورعاية النازحين أطلقها الفنان العراقي وعازف العود نصير شمة في بغداد وتبنتها شبكة الإعلام العراقي بمساعدة عدد من المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني في العراق، وانضم لها فيما بعد عدد من الشركات الراعية من القطاع الخاص، وتفاعل معها كذلك رئاسات الجمهورية والنواب والوزراء.
عن حملته يقول الفنان نصير شمة خلال تجواله بين مخيمات النازحين في منطقة التاجي ببغداد: «النازحون يعانون أوضاعا معيشية غير إنسانية، والحملة انطلقت لأجل مساعدتهم وتأمين الاحتياجات العاجلة لهم وعددهم يقدر بنحو 2.5 مليون نازح كما نسعى لأجل مساعدتهم بالعودة لديارهم حال انتهاء الحرب على الإرهاب».
وأضاف أن الحملة تهدف إلى حث العراقيين على التكافل الاجتماعي والتعاون بين مختلف الشرائح المجتمعية.
شمة وصف يوم الحملة الثامن بأنه «يوم حب العراقيين»؛ إذ إن الجميع اتحد من أجل قضية نبيلة جدا وهي النازحون. والحملة ستتواصل حتى عودة النازحين، وقد خططنا لها مبدئيا على مدى سنة كاملة، مشيرًا إلى «أن نجاح الحملة حفزنا للتواصل بحملات مماثلة لدعم مليون أرملة عراقية بتوفير فرص العمل والتعليم والمهن التي تفتح لهن مصدر عيش مناسبا بالاتفاق مع شركات كبيرة أبدت موافقتها على المساعدة».
وأوضح شمة أنه يعتز بحالات إنسانية متفردة قدمها الكثيرون لأجل دعم الحملة وإنجاحها.
كما أن الأيام المقبلة ستحمل تنظيم حفل في جنيف في الأول من يونيو (حزيران) المقبل خصص ريعه للنازحين وحفل آخر لمسيحيي العراق من النازحين في الأردن.
وأكد شمة «أن النساء الفائزات بجائزة نوبل للسلام سيوجهن رسائل فيديوية تبث على عدد من الفضائيات العراقية يدعمن من خلالها حمله (أهلنا) لإغاثة النازحين العراقيين».
وشهدت الحملة في يومها الثامن أهم فعالياتها عبر تخصيص يوم مفتوح من البث التلفزيوني المباشر والمشترك تحت رعاية إعلامية من شبكة الإعلام العراقية وعدد كبير من المحطات التلفزيونية والإذاعية لغرض جمع التبرعات بحضور أكثر من 10 فنانين عرب معروفين، لفترة بث مباشر تصل إلى 15 ساعة مع 25 قناة تلفزيونية لحث الناس على التبرع، ومن ثم تواصل نقل حملة التبرع في كل من شارع المتنبي، وفندق بابل، ونادي الصيد، ومخيمات ومواقع النازحين في كل العراق.
شمه أعلن في مؤتمر صحافي أن السبب وراء الاستعجال الحملة هو أن منظمة الأمم المتحدة أعلنت أن ليس لديها ما يكفي من أموال لمساعدة النازحين سوى ما يكفي لشهر واحد فقط، وبالتالي فإن أعدادا كبيرة مهددة بفقدان حياتها نتيجة للظروف القاسية التي يعيشونها في العراء، مبينًا أن «هذه الحملة لن تصرف فيها مبالغ مالية وإنما سيتم توزيع مساعدات عينية على هيئة بيوت متنقلة وكرفانات توزع بين النازحين».
وقد شهد الحفل الخيري الذي أقامه الموسيقار نصير شمة يوم الاثنين الماضي في المسرح الوطني وسط بغداد حضورا جماهيريا كبيرا استمتع على مدار ساعتين ونصف الساعة لعزفه، فضلاً عن مشاركة الفنان الشاب سيمور جلال، وعدد من الموسيقيين العراقيين الذين شكلوا أوركسترا قادها الفنان أدور الملا، وسهر الجمهور حتى ساعات متأخرة من الليل في رسالة واضحة على أن الفن والجمال ومساندة النازحين أقوى رد على الإرهاب.
بدوره أكد محمد سلمان، أحد أعضاء الحملة في رئاسة الوزراء العراقي، أن «جميع الإمكانيات المتاحة ستكون تحت تصرف كل ما يخدم هذه الحملة، مشيدًا بالدور النبيل الذي يقوم به شمة في تخفيف المعاناة عن النازحين، مبينا أن رئاسة الوزراء أبدت استعدادها الكامل لإنجاح الحملة.
ورحب رئيس الجمهورية فؤاد معصوم بجهود نصير شمة في المجالين الفني والإنساني خلال استقباله له في قصر السلام ببغداد يوم الخميس الماضي، بمناسبة إطلاق الحملة، معتبرًا أن حملة «أهلنا» هي مبادرة وطنية والعراق بحاجة إلى مثل هكذا مبادرات ومشاريع تهدف إلى مساعدة ضحايا الإرهاب من المكونات العراقية.
وكان رئيس مجلس النواب سليم الجبوري قد دعا مؤخرًا المجتمع الدولي إلى تحرك عاجل لإغاثة النازحين وتقديم العون لهم.
وقدمت حملة «أهلنا» مقترحًا لاستقطاع ما قيمته دولار واحد من كل موظف شهريًا طوعيًا ولمدة عام كامل ولحين تغطية عودة النازحين إلى بيوتهم، واستقطاع القيمة نفسها طوعيًا من كل معاملة بنكية عبر ماكينات الصرف المنتشرة. وكل الأموال التي ستجمع تخصص من دون أي استقطاعات ومن أي جهة لصالح النازحين، كما سيتم إطلاق خدمة الرسائل النصية بالتعاون مع شركات الاتصالات إلى مستخدمي شركاتهم بالإعلام عن يوم الحملة وحثهم على التبرع، وكذلك التعاون مع الأوقاف لتخصيص خطبة الجمعة التي تسبق الحملة للحديث عن أهمية دعم النازحين.
وكانت حملة «أهلنا» لدعم النازحين قد نظمت في الأول مايو من الحالي ماراثونا شارك فيه عدد من الإعلاميين والأدباء والرياضيين وشخصيات سياسية مختلفة، وانطلق من جسر الجمهورية إلى الجسر المعلق عبر شارع أبو نواس، وتوالت بعدها الفعاليات، من بينها تنظيم بازار كبير على حدائق أكبر المتنزهات في بغداد (الزوراء) خصص ريعها لدعم النازحين.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)