دميترو كوليبا... وزير الخارجية الشاب الذي وضعته حرب أوكرانيا تحت الأضواء

ابن أسرة دبلوماسية وليبرالي خبير في العلاقات العامة

دميترو كوليبا... وزير الخارجية الشاب الذي وضعته حرب أوكرانيا تحت الأضواء
TT

دميترو كوليبا... وزير الخارجية الشاب الذي وضعته حرب أوكرانيا تحت الأضواء

دميترو كوليبا... وزير الخارجية الشاب الذي وضعته حرب أوكرانيا تحت الأضواء

تفرض الأحداث أدواراً مفاجئاً على شخصيات قد لا تبدو قبلها جاهزة للعب تلك الأدوار. وعندما تفرض «لعبة الأمم» والحسابات الاستراتيجية وتراكمات الماضي الثقيلة نفسها على الشعوب، فتجرف الحدود وتسحب اعترافها بالهويات، وتعيد صياغة المصطلحات، ترى بعض هذه الشخصيات في بؤرة الأحداث رغماً عنها.
وفي الحرب الأوكرانية التي اندلعت أخيراً، وقرر معها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إعادة كتابة تاريخ روسيا و«تصويب» ما يعتبره خطأ فظيعاً ارتكبته القوى الغربية بحقها، برزت فجأة وجوهٌ شابة في أوكرانيا، في مقدمها الرئيس فولودومير زيلينسكي. غير زيلينسكي، الممثل الكوميدي المولود عام 1978، لا يختزل بشخصه الحركة الاستقلالية الأوكرانية التوّاقة إلى الابتعاد عن ظل «الجار» الروسي العملاق... والالتحاق بالثقافة السياسية والاجتماعية الغربية، بينهم وزير الخارجية الشاب دميترو كوليبا.

دميترو كوليبا، الذي طارت شهرته عالمياً خلال الأشهر القليلة الفائتة، سياسي ودبلوماسي وخبير اتصالات أوكراني، يشغل حالياً منصب وزير خارجية أوكرانيا، وهو أيضاً عضو في مجلس الدفاع والأمن الوطني في البلاد. والواقع أن كوليبا يعد أحد أصغر كبار الساسة الأوكرانيين سناً، وسبق له أن شغل منصب نائب رئيس الحكومة للشؤون الأوروبية والتكامل الأوروبي - الأطلسي، وكذلك المندوب الدائم لأوكرانيا في «مجلس أوروبا» بين عامي 2016 و2019.

النشأة والعائلة
ولد دميترو كوليبا للزوجين إيفان ويفهينيا كوليبا في مدينة سومي بشرق أوكرانيا يوم 19 أبريل (نيسان) 1981، لعائلة راقية تنتمي إلى الطبقة الوسطى، ويعود أصل الأب إيفان (المولود عام 1953) إلى مدينة بولتافا الشهيرة بمعركتها الكبرى في التاريخ. لقد كان إيفان نائباً سابقاً لوزير الخارجية بين عامي 2003 و2004. كما أنه تولى أيضاً منصب سفير أوكرانيا لدى كل من مصر (بين 1997 و2000) والجمهورية التشيكية (بين 2004 و2009) وكازاخستان (بين 2009 و2018)، وهو السفير حالياً في أرمينيا منذ 2019.
وبالتالي، في جو بيتي مسيّس وواعٍ ثقافياً كهذا كان من الطبيعي أن يتأثر دميترو باهتمامات أبيه، وبالفعل مال إلى السياسة والثقافة والشأن العام. ومن ثم تلقى تعليمه الجامعي في جامعة تاراس شيفتشنكو الوطنية - المعروفة محلياً وعالمياً بجامعة كييف، في العاصمة كييف - حيث حصل من هذه الجامعة المرموقة على درجة «كانديدات العلوم» – المعادلة للدكتوراه – في القانون الدولي عام 2003.
من جهة ثانية، فإن زوجة دميترو، واسمها يفهينيا أيضاً، تشاطر زوجها اهتماماته وتعد راهناً من أبرز الناشطات السياسيات والاجتماعيات في البلاد، رغم أنها والدة لولدين؛ ييهور (من مواليد 2006) وليوبوف (2011). احتلت يفهينيا صدارة قائمة حزب «خادم الشعب» الحاكم لانتخابات المجلس المحلي في العاصمة كييف عام 2020. وبعد الانتخابات التي أجريت يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول)، انتخبت نائبة في المجلس، وأمينة للجنة الشؤون البيئية فيه.

مسيرة كوليبا السياسية
بعد تخرّج دميترو من الجامعة في كييف، سار على خطا أبيه، فالتحق بالعمل الدبلوماسي ضمن سلك وزارة الخارجية. غير أنه غادر فيما بعد موقعه في الوظيفة الحكومية نتيجة اختلافه علناً مع سياسات رئيس الجمهورية السابق فيكتور يانوكوفيتش المدعوم من روسيا والمؤيد لها، وعلى الإثر ترأس مؤسسة «يوآرت» للدبلوماسية الثقافية، وهي منظمة دولية لا ربحية تنشط في مجالات التواصل والتعاون، بما في ذلك تنظيم الحوارات والمؤتمرات الثقافية والفنية.
بين 2013 و2014، نشط كوليبا في مظاهرات «ميدان الاستقلال»، أو انتفاضة «الميدان الأوروبي» (يورو ميدان)، التي اندلعت في ساحة «ميدان الاستقلال» بوسط العاصمة الأوكرانية كييف، ليل 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، وواكبتها انتفاضة شعبية واسعة ضد القرار المفاجئ الذي اتخذته حكومة الرئيس يانوكوفيتش – القريب من موسكو – بالامتناع عن توقيع اتفاقي الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وتوجّه يانوكوفيتش لتعزيز الصلات مع روسيا و«الاتحاد الاقتصادي الأور آسيوي».
وهنا يُذكر أن البرلمان الأوكراني كان قد أقرّ اتفاقية الشراكة بغالبية ساحقة، لكن موسكو مارست ضغوطاً شديداً على كييف من أجل رفضها. وبعدها اتسع نطاق الانتفاضة والاحتجاجات التي طالبت علناً باستقالة يانوكوفيتش وحكومة رئيس وزرائه ميكولا آزاروف. وهاجم المنتفضون الأوكرانيون بقوة ما كانوا يعتبرونه حالات فساد حكومي، وتزايد نفوذ الأوليغارشيين (حيتان المصالح والنفوذ المقربين من الحكم)، وإساءة استخدام السلطة، وانتهاك حقوق الإنسان في البلاد. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن «منظمة الشفافية الدولية» كانت قد اعتبرت يانوكوفيتش أحد أبرز نماذج الفساد في العالم.
وفي أعقاب استخدام العنف في تفريق المتظاهرين يوم 30 نوفمبر، اشتد غضب المنتفضين، واختارت انتفاضة «الميدان» عام 2014 إعلان «ثورة الكرامة». ومع تصعيد روسيا تدخّلها، قرّر دميترو كوليبا العودة إلى السلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية حاملاً معه خبرته في مجال الاتصالات الاستراتيجية.
وحقاً، لدى عودة كوليبا إلى وزارة الخارجية انخرط في إدخال مفاهيم مثل «الدبلوماسية الرقمية»، والاتصالات الاستراتيجية والدبلوماسية الثقافية في آليات عمل الوزارة.
وفي العام 2016، كوفئت جهود كوليبا بتعيينه مندوب أوكرانيا الدائم في «مجلس أوروبا». واستمرت مسيرته الوظيفية صعوداً عندما عيّن بين أغسطس (آب) 2019 ومارس (آذار) 2020 نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الأوروبية. ومنذ 4 مارس 2020 تولّى منصب وزير الخارجية.

العد التنازلي للغزو
للتذكير، بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، التي كانت بجانب روسيا وبيلاروسيا (روسيا البيضاء)، الجمهوريات السلافية الثلاث، من أصل 16 جمهورية سوفياتية، تشكل منها الاتحاد السوفياتي السابق، يوم 24 فبراير (شباط) الماضي. غير أن ثمة «تحضيرات» سبقت الغزو الفعلي، تمثلت بعملية تحشيد عسكري روسي بدأت منذ مطلع 2021. بموازاة مطالبات من موسكو بـ«إجراءات أمنية» و«حظر قانوني ملزم» لانضمام أوكرانيا إلى أسرة حلف شمال الأطلسي «ناتو».
ولقد جاء أول تقرير عن التحشيد من العاصمة الأميركي تحدث عن تحركات غير عادية للقوات الروسية قرب الحدود الأوكرانية يوم 10 نوفمبر 2021. وبحلول 28 من الشهر نفسه أعلنت السلطات الأوكرانية عن وجود حشود روسية، قدرتها بنحو 92 ألف مجند على الحدود.
ثم يوم 7 ديسمبر (كانون الأول) 2021، هدد الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين «بعقوبات شديدة اقتصادية وغير اقتصادية» إذا هاجمت القوات الروسية أوكرانيا. ويوم 17 ديسمبر (كانون الأول) ردّ بوتين طالباً أن يحدّ «ناتو» من نشاطاته في أوروبا الشرقية، ومنها الإحجام عن ضمّ أوكرانيا لأسرة الحلف، ولقد رفض هذا الطلب.
ولكن مع دخول عام 2022، وتحديداً يوم 17 يناير (كانون الثاني)، بدأ توافد القوات الروسية إلى جمهورية بيلاروسيا (الحليف الموثوق لموسكو) على التخوم الشمالية لأوكرانيا، وكان السبب المعلن إجراء تمارين ومناورات عسكرية. وبعد يومين فقط، قدمت الولايات المتحدة إعانة مالية قيمتها 200 مليون دولار، ولاحقاً قال الرئيس بايدن، خلال مؤتمر صحافي، بلهجة تهديدية ملتبسة، إن العالم سيرى أن واشنطن ستحمّل موسكو مسؤولية أي غزو إذا غزت أوكرانيا. ولم يلبث منتقدو بايدن أن كلاماً كهذه يسهل الغزو ولا يردعه.
على الإثر، يوم 24 يناير وضع «ناتو» قواته في حالة تأهب. وفي اليوم التالي، بدأت القوات الروسية تمارين ومناورات بمشاركة 6 آلاف مجند و60 طائرة حربية قرب حدود أوكرانيا وشبه جزيرة القرم. ثم يوم 10 فبراير انطلقت المناورات العسكرية المشتركة الروسية – البيلاروسية، وخلال 7 أيام (يوم 17 فبراير) تصاعد القتال في الإقليمين الانفصاليين (دونيتسك ولوغانسك) في شرق أوكرانيا. وبعد 3 أيام (21 فبراير) أعلن الكرملين اعتراف روسيا استقلال الإقليمين الانفصاليين، ما أدى إلى فرض دول «ناتو» أول دفعة من العقوبات الاقتصادية على روسيا.
ويوم 24 فبراير، بدأ الغزو الروسي فعلياً مع إعلان الرئيس بوتين عن إطلاق القوات الروسية «عملية عسكرية خاصة» في شرق أوكرانيا. وخلال دقائق من إعلان بوتين سجلت انفجارات داخل العاصمة الأوكرانية كييف ومدينتي خاركيف وأوديسا ومناطق حوض الدونباس (حوض نهر الدون بشرق أوكرانيا). كذلك تحدثت مصادر رسمية أوكرانية عن دخول قوات روسية إلى مدينتي أوديسا وماريوبول بجنوب الجمهورية، وإقدام هذه القوات على قصف المطارات والمقرات والمستودعات العسكرية في كييف وخاركيف ودنيبرو بالصواريخ البالسيتية والتسيارية (الكروز).

مؤلفاته... وتصريحاته
عودة إلى دميترو كوليبا، فإن كان الرئيس فولودومير زيلينسكي قد أصاب شهرة واسعة في أوكرانيا في المجال الفني، وبالأخص في مسلسل «خادم الشعب» الكوميدي الشهير، الذي تابعه الملايين على امتداد 3 مواسم (بين 2015 و2018)، فإن وزير خارجيته الشاب ألّف عام 2019 كتاباً تصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، تحت عنوان «حرب من أجل الحقيقة... كيف تربح في عالم الأضاليل والحقائق والمكونات الاجتماعية» (The War for Reality. How to Win in the World of Fakes، Truths and Communities) تناول فيه عالم التواصل والإعلام الجديد والكفاءة الإعلامية ومواجهة التقارير المضللة والأخبار الكاذبة.
ومثلما نجح زيلينسكي في تحويل شخصية المدرّس «فاسيلي جولوبورودكو» الانتقادية والساخرة بقوة من النخب السياسية الفاسدة في أوكرانيا، ودفعته شعبية هذه الشخصية إلى الترشح لمنصب الرئاسة ومن ثم الفوز به... فها هي الحرب الأوكرانية توفّر لدميترو كوليبا المنصة المثالية لمخاطبة العالم، وقيادة استراتيجية بلاده الإعلامية ضد القدرات والخبرات الروسية الضخمة في مضمار «البروباغاندا» السياسية.
وأكثر من هذا، أسهمت شخصية كوليبا الشابة الجذابة، ومواهبه في مجالي العلاقات العامة والدبلوماسية الدولية، في فوزه بلقب «أفضل سفير أوكراني لعام 2017» في تقييم «معهد السياسة الدولية».


مقالات ذات صلة

مسيّرات أوكرانية تهاجم منشأة لتخزين الوقود في وسط روسيا

أوروبا جنود أوكرانيون يستعدون لتحميل قذيفة في مدفع هاوتزر ذاتي الحركة عيار 122 ملم في دونيتسك أول من أمس (إ.ب.أ)

مسيّرات أوكرانية تهاجم منشأة لتخزين الوقود في وسط روسيا

هاجمت طائرات مسيرة أوكرانية منشأة للبنية التحتية لتخزين الوقود في منطقة أوريول بوسط روسيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (قناته عبر «تلغرام»)

زيلينسكي يدعو إلى  تحرك غربي ضد روسيا بعد الهجمات الأخيرة

دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الغرب إلى التحرك في أعقاب هجوم صاروخي جديد وهجوم بالمسيرات شنتهما روسيا على بلاده

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف (د.ب.أ)

الكرملين: التصريح الأخير لترمب بشأن أوكرانيا «يتماشى تماماً» مع الموقف الروسي

نوّه الكرملين الجمعة بالتصريح الأخير لدونالد ترمب الذي اعترض فيه على استخدام أوكرانيا صواريخ أميركية لاستهداف مناطق روسية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا القوات الأوكرانية تقصف مواقع روسية على خط المواجهة في منطقة خاركيف (أ.ب)

مسؤول كبير: أوكرانيا ليست مستعدة لإجراء محادثات مع روسيا

كشف أندريه يرماك رئيس مكتب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مقابلة أذيعت في وقت متأخر من مساء أمس (الخميس) إن كييف ليست مستعدة بعد لبدء محادثات مع روسيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا عسكري أوكراني يحتمي أمام مبنى محترق تعرَّض لغارة جوية روسية في أفدييفكا (أ.ب)

قتال عنيف... القوات الروسية تقترب من مدينة رئيسية شرق أوكرانيا

أعلنت القيادة العسكرية في أوكرانيا أن هناك قتالاً «عنيفاً للغاية» يجري في محيط مدينة باكروفسك شرق أوكرانيا، التي تُعدّ نقطة استراتيجية.

«الشرق الأوسط» (كييف)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.