تفرض الأحداث أدواراً مفاجئاً على شخصيات قد لا تبدو قبلها جاهزة للعب تلك الأدوار. وعندما تفرض «لعبة الأمم» والحسابات الاستراتيجية وتراكمات الماضي الثقيلة نفسها على الشعوب، فتجرف الحدود وتسحب اعترافها بالهويات، وتعيد صياغة المصطلحات، ترى بعض هذه الشخصيات في بؤرة الأحداث رغماً عنها.
وفي الحرب الأوكرانية التي اندلعت أخيراً، وقرر معها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إعادة كتابة تاريخ روسيا و«تصويب» ما يعتبره خطأ فظيعاً ارتكبته القوى الغربية بحقها، برزت فجأة وجوهٌ شابة في أوكرانيا، في مقدمها الرئيس فولودومير زيلينسكي. غير زيلينسكي، الممثل الكوميدي المولود عام 1978، لا يختزل بشخصه الحركة الاستقلالية الأوكرانية التوّاقة إلى الابتعاد عن ظل «الجار» الروسي العملاق... والالتحاق بالثقافة السياسية والاجتماعية الغربية، بينهم وزير الخارجية الشاب دميترو كوليبا.
دميترو كوليبا، الذي طارت شهرته عالمياً خلال الأشهر القليلة الفائتة، سياسي ودبلوماسي وخبير اتصالات أوكراني، يشغل حالياً منصب وزير خارجية أوكرانيا، وهو أيضاً عضو في مجلس الدفاع والأمن الوطني في البلاد. والواقع أن كوليبا يعد أحد أصغر كبار الساسة الأوكرانيين سناً، وسبق له أن شغل منصب نائب رئيس الحكومة للشؤون الأوروبية والتكامل الأوروبي - الأطلسي، وكذلك المندوب الدائم لأوكرانيا في «مجلس أوروبا» بين عامي 2016 و2019.
النشأة والعائلة
ولد دميترو كوليبا للزوجين إيفان ويفهينيا كوليبا في مدينة سومي بشرق أوكرانيا يوم 19 أبريل (نيسان) 1981، لعائلة راقية تنتمي إلى الطبقة الوسطى، ويعود أصل الأب إيفان (المولود عام 1953) إلى مدينة بولتافا الشهيرة بمعركتها الكبرى في التاريخ. لقد كان إيفان نائباً سابقاً لوزير الخارجية بين عامي 2003 و2004. كما أنه تولى أيضاً منصب سفير أوكرانيا لدى كل من مصر (بين 1997 و2000) والجمهورية التشيكية (بين 2004 و2009) وكازاخستان (بين 2009 و2018)، وهو السفير حالياً في أرمينيا منذ 2019.
وبالتالي، في جو بيتي مسيّس وواعٍ ثقافياً كهذا كان من الطبيعي أن يتأثر دميترو باهتمامات أبيه، وبالفعل مال إلى السياسة والثقافة والشأن العام. ومن ثم تلقى تعليمه الجامعي في جامعة تاراس شيفتشنكو الوطنية - المعروفة محلياً وعالمياً بجامعة كييف، في العاصمة كييف - حيث حصل من هذه الجامعة المرموقة على درجة «كانديدات العلوم» – المعادلة للدكتوراه – في القانون الدولي عام 2003.
من جهة ثانية، فإن زوجة دميترو، واسمها يفهينيا أيضاً، تشاطر زوجها اهتماماته وتعد راهناً من أبرز الناشطات السياسيات والاجتماعيات في البلاد، رغم أنها والدة لولدين؛ ييهور (من مواليد 2006) وليوبوف (2011). احتلت يفهينيا صدارة قائمة حزب «خادم الشعب» الحاكم لانتخابات المجلس المحلي في العاصمة كييف عام 2020. وبعد الانتخابات التي أجريت يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول)، انتخبت نائبة في المجلس، وأمينة للجنة الشؤون البيئية فيه.
مسيرة كوليبا السياسية
بعد تخرّج دميترو من الجامعة في كييف، سار على خطا أبيه، فالتحق بالعمل الدبلوماسي ضمن سلك وزارة الخارجية. غير أنه غادر فيما بعد موقعه في الوظيفة الحكومية نتيجة اختلافه علناً مع سياسات رئيس الجمهورية السابق فيكتور يانوكوفيتش المدعوم من روسيا والمؤيد لها، وعلى الإثر ترأس مؤسسة «يوآرت» للدبلوماسية الثقافية، وهي منظمة دولية لا ربحية تنشط في مجالات التواصل والتعاون، بما في ذلك تنظيم الحوارات والمؤتمرات الثقافية والفنية.
بين 2013 و2014، نشط كوليبا في مظاهرات «ميدان الاستقلال»، أو انتفاضة «الميدان الأوروبي» (يورو ميدان)، التي اندلعت في ساحة «ميدان الاستقلال» بوسط العاصمة الأوكرانية كييف، ليل 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، وواكبتها انتفاضة شعبية واسعة ضد القرار المفاجئ الذي اتخذته حكومة الرئيس يانوكوفيتش – القريب من موسكو – بالامتناع عن توقيع اتفاقي الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وتوجّه يانوكوفيتش لتعزيز الصلات مع روسيا و«الاتحاد الاقتصادي الأور آسيوي».
وهنا يُذكر أن البرلمان الأوكراني كان قد أقرّ اتفاقية الشراكة بغالبية ساحقة، لكن موسكو مارست ضغوطاً شديداً على كييف من أجل رفضها. وبعدها اتسع نطاق الانتفاضة والاحتجاجات التي طالبت علناً باستقالة يانوكوفيتش وحكومة رئيس وزرائه ميكولا آزاروف. وهاجم المنتفضون الأوكرانيون بقوة ما كانوا يعتبرونه حالات فساد حكومي، وتزايد نفوذ الأوليغارشيين (حيتان المصالح والنفوذ المقربين من الحكم)، وإساءة استخدام السلطة، وانتهاك حقوق الإنسان في البلاد. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن «منظمة الشفافية الدولية» كانت قد اعتبرت يانوكوفيتش أحد أبرز نماذج الفساد في العالم.
وفي أعقاب استخدام العنف في تفريق المتظاهرين يوم 30 نوفمبر، اشتد غضب المنتفضين، واختارت انتفاضة «الميدان» عام 2014 إعلان «ثورة الكرامة». ومع تصعيد روسيا تدخّلها، قرّر دميترو كوليبا العودة إلى السلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية حاملاً معه خبرته في مجال الاتصالات الاستراتيجية.
وحقاً، لدى عودة كوليبا إلى وزارة الخارجية انخرط في إدخال مفاهيم مثل «الدبلوماسية الرقمية»، والاتصالات الاستراتيجية والدبلوماسية الثقافية في آليات عمل الوزارة.
وفي العام 2016، كوفئت جهود كوليبا بتعيينه مندوب أوكرانيا الدائم في «مجلس أوروبا». واستمرت مسيرته الوظيفية صعوداً عندما عيّن بين أغسطس (آب) 2019 ومارس (آذار) 2020 نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الأوروبية. ومنذ 4 مارس 2020 تولّى منصب وزير الخارجية.
العد التنازلي للغزو
للتذكير، بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، التي كانت بجانب روسيا وبيلاروسيا (روسيا البيضاء)، الجمهوريات السلافية الثلاث، من أصل 16 جمهورية سوفياتية، تشكل منها الاتحاد السوفياتي السابق، يوم 24 فبراير (شباط) الماضي. غير أن ثمة «تحضيرات» سبقت الغزو الفعلي، تمثلت بعملية تحشيد عسكري روسي بدأت منذ مطلع 2021. بموازاة مطالبات من موسكو بـ«إجراءات أمنية» و«حظر قانوني ملزم» لانضمام أوكرانيا إلى أسرة حلف شمال الأطلسي «ناتو».
ولقد جاء أول تقرير عن التحشيد من العاصمة الأميركي تحدث عن تحركات غير عادية للقوات الروسية قرب الحدود الأوكرانية يوم 10 نوفمبر 2021. وبحلول 28 من الشهر نفسه أعلنت السلطات الأوكرانية عن وجود حشود روسية، قدرتها بنحو 92 ألف مجند على الحدود.
ثم يوم 7 ديسمبر (كانون الأول) 2021، هدد الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين «بعقوبات شديدة اقتصادية وغير اقتصادية» إذا هاجمت القوات الروسية أوكرانيا. ويوم 17 ديسمبر (كانون الأول) ردّ بوتين طالباً أن يحدّ «ناتو» من نشاطاته في أوروبا الشرقية، ومنها الإحجام عن ضمّ أوكرانيا لأسرة الحلف، ولقد رفض هذا الطلب.
ولكن مع دخول عام 2022، وتحديداً يوم 17 يناير (كانون الثاني)، بدأ توافد القوات الروسية إلى جمهورية بيلاروسيا (الحليف الموثوق لموسكو) على التخوم الشمالية لأوكرانيا، وكان السبب المعلن إجراء تمارين ومناورات عسكرية. وبعد يومين فقط، قدمت الولايات المتحدة إعانة مالية قيمتها 200 مليون دولار، ولاحقاً قال الرئيس بايدن، خلال مؤتمر صحافي، بلهجة تهديدية ملتبسة، إن العالم سيرى أن واشنطن ستحمّل موسكو مسؤولية أي غزو إذا غزت أوكرانيا. ولم يلبث منتقدو بايدن أن كلاماً كهذه يسهل الغزو ولا يردعه.
على الإثر، يوم 24 يناير وضع «ناتو» قواته في حالة تأهب. وفي اليوم التالي، بدأت القوات الروسية تمارين ومناورات بمشاركة 6 آلاف مجند و60 طائرة حربية قرب حدود أوكرانيا وشبه جزيرة القرم. ثم يوم 10 فبراير انطلقت المناورات العسكرية المشتركة الروسية – البيلاروسية، وخلال 7 أيام (يوم 17 فبراير) تصاعد القتال في الإقليمين الانفصاليين (دونيتسك ولوغانسك) في شرق أوكرانيا. وبعد 3 أيام (21 فبراير) أعلن الكرملين اعتراف روسيا استقلال الإقليمين الانفصاليين، ما أدى إلى فرض دول «ناتو» أول دفعة من العقوبات الاقتصادية على روسيا.
ويوم 24 فبراير، بدأ الغزو الروسي فعلياً مع إعلان الرئيس بوتين عن إطلاق القوات الروسية «عملية عسكرية خاصة» في شرق أوكرانيا. وخلال دقائق من إعلان بوتين سجلت انفجارات داخل العاصمة الأوكرانية كييف ومدينتي خاركيف وأوديسا ومناطق حوض الدونباس (حوض نهر الدون بشرق أوكرانيا). كذلك تحدثت مصادر رسمية أوكرانية عن دخول قوات روسية إلى مدينتي أوديسا وماريوبول بجنوب الجمهورية، وإقدام هذه القوات على قصف المطارات والمقرات والمستودعات العسكرية في كييف وخاركيف ودنيبرو بالصواريخ البالسيتية والتسيارية (الكروز).
مؤلفاته... وتصريحاته
عودة إلى دميترو كوليبا، فإن كان الرئيس فولودومير زيلينسكي قد أصاب شهرة واسعة في أوكرانيا في المجال الفني، وبالأخص في مسلسل «خادم الشعب» الكوميدي الشهير، الذي تابعه الملايين على امتداد 3 مواسم (بين 2015 و2018)، فإن وزير خارجيته الشاب ألّف عام 2019 كتاباً تصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، تحت عنوان «حرب من أجل الحقيقة... كيف تربح في عالم الأضاليل والحقائق والمكونات الاجتماعية» (The War for Reality. How to Win in the World of Fakes، Truths and Communities) تناول فيه عالم التواصل والإعلام الجديد والكفاءة الإعلامية ومواجهة التقارير المضللة والأخبار الكاذبة.
ومثلما نجح زيلينسكي في تحويل شخصية المدرّس «فاسيلي جولوبورودكو» الانتقادية والساخرة بقوة من النخب السياسية الفاسدة في أوكرانيا، ودفعته شعبية هذه الشخصية إلى الترشح لمنصب الرئاسة ومن ثم الفوز به... فها هي الحرب الأوكرانية توفّر لدميترو كوليبا المنصة المثالية لمخاطبة العالم، وقيادة استراتيجية بلاده الإعلامية ضد القدرات والخبرات الروسية الضخمة في مضمار «البروباغاندا» السياسية.
وأكثر من هذا، أسهمت شخصية كوليبا الشابة الجذابة، ومواهبه في مجالي العلاقات العامة والدبلوماسية الدولية، في فوزه بلقب «أفضل سفير أوكراني لعام 2017» في تقييم «معهد السياسة الدولية».