الشعر العراقي أصبح ممتلئاً بالحصى وبالقليل من الدر واللؤلؤ

بمناسبة يوم الشعر العالمي الذي يصادف اليوم

بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب
TT

الشعر العراقي أصبح ممتلئاً بالحصى وبالقليل من الدر واللؤلؤ

بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب

حين يخصص يومٌ للشعر في هذا العالم، فإن هذا التحديد مناسبة مهمة للاحتفاء والتذكير بأهمية الشعر في حياتنا، ولكن الأهم أنه فرصة مناسبة للمراجعة الحقيقية لواقع الشعر العربي ومستقبله، ونظرة موضوعية للمشاكل والمعوقات التي تقف بوجهه، وبما أن هذا الموضوع واسع وكبير لذا سأتوقف عند تجربة الشعر العربي في العراق، وهي كبيرة جداً بلا شك.
لا شك أن أزمات الثقافة العربية ترتبط دائماً بالأحداث السياسية والاجتماعية التي تعصف بالبلدان، ودائماً الثقافة تتبع هذه التحولات، فلم نحظ بثقافة حقيقية تبادر بفعل سياسي، أو اجتماعي، إنما دائماً نجد الأثر السياسي أكثر ضوءاً من غيره على الثقافة، والشعر أكثر تجليات الثقافة في العراق، لأسباب عديدة يعرفها أكثر المشتغلين في هذه الحقول، وبما أن الشعر حقلنا الأصيل، ووجهنا الثقافي المهم، لذا فإن مراجعته بين مدة وأخرى واجب ثقافي - كما أظن - بوصف العراق نافذة مهمة من نوافذ الحداثة الشعرية العربية، وله إرثٌ عظيمٌ منذ الحضارات الأولى وأول نص قيل في هذا العالم وأول ملحمة كتبت على وجه الأرض وأول شاعرة أنشدت الشعر هنا حتى أيام العباسيين، حيث بشار بن برد وأبو نواس وأبو تمام والبحتري والمتنبي والمعري والشريف الرضي... والأسماء تكثر وتطول في قائمة ذهبية ولدت في العراق وكتبت شعرها هنا.
لذا فالحديث عن الشعر العراقي هو حديث عن إرث عظيم وحاضر مهم استجاب لمتطلبات الحداثة فكان السياب والملائكة والبياتي والبريكان وسركون بولص وعشرات آخرون من خيرة الأسماء الشعرية في العراق، لذلك فالمسؤولية الشعرية هي مسؤولية مضاعفة، ماضياً وحاضراً.
حين نلتفت للراهن الشعري العراقي نجد - حسب ما أظن - مشهداً، للأسف، مختلفاً عن كل المشاهد السابقة. وسأتحدث عن النسبة الأعلى في الشعرية العراقية، وهذا لا يعني عدم وجود تجارب كبيرة ومهمة، إنما وجودها لم يشكل فارقاً مهماً، ولم يؤثر في بقية المشهد الشعري العراقي الذي اختلط فيه الجيد بالرديء، وأصبح ممتلئاً بالحصى الكثير، وبالقليل من الدر واللؤلؤ، فالمشهد الشعري الموجود حالياً ليست له علاقة بالشعر العراقي الحداثي الذي انبثق نهاية الأربعينيات، واستمر حتى أجيال ما بعد الستينيات. الشعر العراقي ذو المرجعيات الفكرية والمعرفية والجمالية، الذي شكل عصباً مهماً ومغذياً من مغذيات الحياة المعاصرة، كيف تراجع ذلك الشعر؟ وما هي أبرز أزماته؟ وهل فعلاً يعيش أزمة كبيرة؟ وحين يتأثر الشعر العراقي، ويعيش أزمة ما، هل يعني هذا أن الشعر العربي في أزمة كبيرة أيضاً؟ أم إننا معزولون عن بعضنا البعض؟ ونعيش في جزرٍ متباعدة، وتجمعنا اللغة فقط؟
الأزمة التي بدأت أشعر بها منذ أكثر من عشرة أعوام في الشعر العراقي المعاصر تتجلى في مظاهر متعددة، أولها في المهرجانات التي تُقام، وفي المجاميع الشعرية التي تطبع وليس لها سوق، وفي الصفحات الثقافية الفقيرة في الصحف والمجلات، وفي التجمعات والمنتديات الكثيرة، من حيث عدد الشعراء، ولكنها الفقيرة من حيث النوعية، الشعراء كثرٌ جداً في هذا البلد، ولكن الشعر عملتهم النادرة جداً جداً، كذلك غياب الحركات الأدبية والمدارس الشعرية التي تحرك الراكد في الشعرية العراقية، وحين نتناول هذه الجزئيات سنرى أن العراق من أكثر البلدان العربية شغفاً بإقامة المهرجانات والملتقيات الشعرية، ولكنها للأسف مهرجانات يغلب على معظمها الطابع الاجتماعي وليس الثقافي، فمنذ سنين طويلة لم تستطع الشعرية العراقية في مهرجاناتها أن تُضيف رقماً جديداً للجمهور الذي يستمع للشعر، فالشعراء أنفسهم، والجمهور أيضاً هو نفسه من الشعراء، إذ لم تستطع ماكينة الثقافة بكل دفاعاتها الكبيرة أن تُعيد الثقة بين الشاعر والجمهور، وأن يأتي الناس غير المتخصصين ليستمعوا إلى الشعر، وهذا ما لم يحدث إلا نادراً، حيث يأتي الناس في افتتاح بعض كبريات المهرجانات، ولكنهم لن يحضروا بقية الجلسات، فيما يحظى الشعر الشعبي بجمهور عريض في أي محافظة من محافظات العراق، وإن الشباب العراقي يحفظ الشعر الشعبي، ويحضر الفعاليات بشكل واسع، وكذلك بقية الفنون كالغناء والموسيقى والمسرح، حيث يأتي الجمهور لهذه الفعاليات، ويقطع التذاكر، ويدفع المال لكي يحضر، وهو مؤشر كبير لتراجع جمهور الشعر في العراق، وربما سببه الشعراء أنفسهم، حيث غيب الموت معظم أبناء الجيل المؤسس للحداثة الشعرية، وانزوى من انزوى منهم، وشعر الآخرون بلا جدوى كل شيء، فيما انقطع الجيل الجديد عن فكرة الحداثة، فأنتجوا نصوصاً أقل ما يُقال عنها أنها تكرار لتجارب سيئة في الشعرية العراقية، وإلا ما معنى أن يقرأ شاعرٌ في عام 2022 قصيدة هجاء بالآخرين، يسب ويشتم بالناس لأنهم يختلفون عنه، أو أنهم انتقدوه في يوم من الأيام، ومن ثم يمتدح ذاته بطريقة تدعو للضحك، لأنه لا يمت إلى هذا العصر بصلة إطلاقاً، ويقول في قصيدته إنه أعظم الشعراء، وما قيمة المنصات الإبداعية التي تحتفي بمثل هذا الشعر الذي انقرض منذ سنين طويلة، ولكنه هنا في العراق له رواده من الشعراء، شباباً وكهولاً للأسف، حتى إنهم وصلوا إلى مرحلة لا يميزون فيها بين الشعر وضده، فكل شيء موزون لديهم يحسبونه شعراً، ثم ما قيمة الموزون الذي يُكتب بطرقٍ تقليدية ساذجة، حيث الشاعر يشبه الديوك التي تنفش ريشها وتصيح فيما هي تقف على تل من النفايات.
الشعر العراقي يعيش أزمة كبيرة كما أزعم، أغلب شعرائه الآن لا يفرقون بين الشعر وعدمه كما قلنا، الموضوعات تطغى على البناء الفني دائماً، فعدد الشعراء الندابين يكثر يوماً بعد آخر، وفي كل مناسبة دينية أو اجتماعية أو سياسية تجد حضوراً للشعراء، وكأنما القصيدة واجب اجتماعي يجب على الشاعر تقديمه في كل مناسبة من هذه المناسبات، وهي طريقة للأسف جرجرت الشعر إلى زوايا مظلمة، وحوّلت الشاعر إلى ندابة تدور في مجالس العزاء وتكرر البكائيات نفسها في كل مجلس.
الشعر العراقي الآن يعاني أزمة الأسئلة، فهو شعرٌ ممتلئ بالإجابات، شعرٌ يقيني في معظمه، لا أسئلة فيه، ولا قلق معرفياً أو وجودياً أو فنياً، كله يصف الحياة من الخارج، ولا يشترك فيها، شعرُ قشورٍ وليس شعراً غائصاً في الروح والعقل، طغيان الشعبويات على الكثير من الشعر العراقي الآن، حيث ثقافة الشعراء التي لا تتعدى قراءة البوستات اليومية في «فيسبوك»، دون أنْ تتغذى تلك الثقافة بالجديد من المعرفة والأدب العالمي، لهذا فالشاعر يلجأ إلى بئر ذاته يمتح منه إلى أنْ يجف سريعاً، فتخرج في النهاية قصائد ممتلئة بحواف تلك البئر، من طينٍ يابسٍ وماءٍ راكدٍ، وهذا ما يحدث - للأسف - لدى عدد من الشعراء العراقيين الذين بدأوا جيدين شعرياً، ولكنهم ركدوا وانسد نهر إبداعهم دون أنْ يكون له مصب يخرج منه، أو نبعٌ يتزود بالجديد، فركد الماء وماتت النباتات داخله.
وربما كانت المهرجانات والمسابقات الشعرية والجوائز التي تُفصل على قصائدَ معينة وأغراضٍ محددة قد حولت عدداً من هؤلاء الشعراء إلى ببغاوات تردد وتكتب ما يُطلب منها، بوصف الشاعر الآن نجاراً وعدتُه النجارية هي اللغة، فتخرج النصوص باردة ومصنوعة صناعة لا روح فيها.
ربما شكل غياب النقد العراقي أزمة أخرى من أزمات الشعر هنا، فقد ابتعد عن متابعة ما يحصل من تدهور شعري وعدم تأشير ذلك التدهور بوضوح دون لف أو دوران، فقد بقي النقد الأدبي يعجن بالمصطلحات النقدية التي لا يفهم منها شيءٌ إطلاقاً، فلم نر ناقداً إلى الآن يتحدث عن مشكلات وأزمات الشعر العراقي المعاصر، فيما نجد عدداً من النقاد ما زال منشغلاً بالرواد وما بعدهم بقليل، فيما انشغل عدد آخر من النقاد بمجاملات يومية لا تشكل ثقلاً يضاف لرصيد المعرفة الإبداعية.
كذلك تقف الأكاديمية العراقية أيضاً سبباً من أسباب تردي الوضع الشعري في العراق، وذلك بسبب تكلس الدرس الأكاديمي، وعدم انفتاحه على المشهد المعاصر، بل إن معظم الأكاديميين الآن يعيشون عزلة كبيرة عن الوسط الثقافي، وبهذا فقد تراجع الدرس النقدي الأكاديمي واختفت ملامح النقد المباشر للتجارب الشعرية.
السوشيال ميديا ومواقع التواصل الاجتماعي ربما كانت من الأسباب التي صدرت الهوامش على أنها متونٌ رئيسة وملهمة، فشعراء من أنصاف الموهوبين حين ينشرون نصوصهم سيحصل البعض منهم على آلاف الإعجابات والتعليقات، بسبب سعة الأصدقاء في صفحته الشخصية، فيما شاعرٌ كبيرٌ مثل حسب الشيخ جعفر حين ينشر نصاً جديداً وهو بحسب ما نرى حدثٌ ثقافيٌّ حين ينشر قصيدة جديدة، ولكنه لم يستطع أنْ يحصل على إعجاب مائة شخص.
هناك مظاهر كثيرة تؤشر لأزمة الشعر في العراق، التقليديون الذين يتناسلون يومياً ويكرر واحدهم الآخر، والغنائيون جداً في الشعر العراقي الذين يعالجون قضايا كبرى يمر بها البلد بسذاجة عالية للأسف، وهذا ينم عن ضعفٍ ثقافي في تكوين هؤلاء الشعراء ومرجعياتهم الفكرية والثقافية. العراق البلد الذي كان من أكثر البلدان العربية ظهوراً للمدارس الشعرية، فمنه تنطلق موجات الحداثة والتجديد، وفي كل جيل تنطلق البيانات الشعرية والحركات المجددة، ولكنه منذ سنين طويلة قاربت العشرين عاماً دب الكسل في مفاصله الشعرية، فلم نسمع عن جيل شعري جديد، أو حركة إبداعية مغايرة، فما الذي يحدث؟ هل تراجع الحياة في العراق في الخدمات والبنى التحتية أسهم بتراجع حياة الشعر لدينا؟ ومن سيضخ الدماء في القصيدة غير أولئك المغامرين الذين نبحث عنهم؟



كيف تواجه الرواية تحوّلات العالم؟

كيف تواجه الرواية تحوّلات العالم؟
TT

كيف تواجه الرواية تحوّلات العالم؟

كيف تواجه الرواية تحوّلات العالم؟

هل يمكن للرواية أن تصمد في وجه الزحف الرقميّ والتحوّلات السريعة التي تشهدها البشريّة؟ كيف يمكن لفنّ عريق مثل الرواية أن يتعامل مع تقنيات الذكاء الاصطناعيّ والأدوات الرقمية الحديثة التي تُعيد تشكيل طرق الكتابة والتواصل؟ هل ستتحوّل الرواية إلى شكل جديد من السرد التفاعليّ أم أنّها ستبقى وفية لجذورها العميقة في تأمّل الواقع الإنسانيّ؟ ما مصير الأدب الروائيّ في زمن تسيطر فيه السرعة على مختلف نواحي الحياة؟ هل يمكن أن تستمرّ الرواية كأداة للمقاومة ضدّ تسطيح المفاهيم والوجود الإنسانيّ؟

في رواية «فهرنهايت 451» يرسم الأميركيّ راي برادبري، صورة قاتمة لمستقبلٍ تتحوّل فيه الكتب إلى رماد؛ حيث يتنبأ بمصير كارثي ينتظر الكتاب والثقافة المكتوبة. الرواية، التي تحمل عنوان درجة حرارة احتراق الورق، تُظهر عالماً تُحرَق فيه الكتب عمداً وتُمنع القراءة لأنّ السلطات ترى فيها تهديداً للنظام الاجتماعيّ. ويحذّر برادبري من مجتمع يتحوّل إلى آلة استهلاكية تفرغ العقول من الأفكار النقدية، ويجعل من المعرفة عدوّاً يطارَد ويُدمَّر. ويسلّط الضوء على خطر الزحف الرقمي وإمكانية فقدان الإنسان صلته بالكتاب، كوسيلة للتعلّم، وكنافذة تعبر إلى عمق الفكر الإنسانيّ.

ويبدو تحذير برادبري الديستوبيّ المستقبليّ أكثر أهمّية اليوم مع التقدّم التكنولوجيّ الهائل وسيطرة الشاشات الرقمية على حياتنا اليومية. والسؤال الذي يراود بعضنا اليوم حول مستقبل الرواية هو: هل سيأتي يوم نرى فيه الكتب تُباد مرة أخرى، ليس بالنار، بل بالنسيان واللامبالاة التي قد تجلبها التقنية؟

لا يخفى أنّ الحديث عن مستقبل الرواية في العالم يستدعي تأمّلاً في مصيرها بين موجات التحوّل الثقافيّ والتكنولوجيّ السريع الذي يغزو العالم في كلّ لحظة. فالرواية ليست بمنأى عن هذا التغيّر الذي يُعيد تشكيل طرق التواصل والكتابة وحتّى القراءة.

هنالك عدّة سيناريوهات يمكن الحديث عنها أو توقّعها في هذا السياق، أحدها أنّ الرواية تذوب في العالم الرقميّ. وهنا نتصوّر أنّ الأدب الروائيّ، بمفهومه التقليديّ، سيتحوّل إلى شكل جديد من السرد التفاعليّ الرقميّ. ذلك أنّه مع انتشار أدوات الذكاء الاصطناعيّ التي تمكّن المستخدمين من الانغماس في النصوص بطرق غير مسبوقة، يمكن أن يتلاشى شكل الرواية الورقية. في هذا العالم المستقبليّ، قد تصبح الرواية شكلاً من أشكال التفاعل بين القارئ والنصّ في واقع معزّز أو افتراضيّ، حيث تكون كلّ قراءة تجربة جديدة، وكلّ قارئ شريكاً في بناء النصّ من خلال اختياراته وتفاعلاته مع الأحداث والشخصيّات.

لكن هل يمكن أن يغني هذا الشكل التفاعليّ عن الرواية التقليدية؟ يصعب تصوّر أنّ الرواية بكلّ ما تحمله من عمق وتأمّلات فلسفيّة وإنسانيّة قد تتحوّل إلى صيغة «تجربة» تفاعلية؛ لأنّها، في جوهرها، تُمثل خصوصيّة فرديّة لا يمكن تجاوزها من خلال التقنيات والمعادلات الرقميّة. ربما تستطيع الرواية أن تستخدم هذه الأدوات في تقديم نفسها بطرق مبتكرة، لكن تذويبها تماماً في العالم الرقميّ يبدو أمراً مشكوكاً في استمراريته.

السيناريو الثاني الذي يمكن الحديث عنه هو توصيف الرواية كقناة للتعبير عن التحوّلات؛ حيث لا تختفي بشكلها المعهود، بل تشهد تحوّلات عميقة تتماشى مع التغيّرات المجتمعية والرقميّة. ومع تعقّد العالم وتشابك قضاياه، قد نجد الرواية تتحوّل إلى وسيلة لفهم هذا الواقع المعقّد والتأمّل فيه أكثر لاستبطان العالم والغوص في عمق النفس البشريّة التي تبقى قارّة مجهولة ناضحة بالألغاز.

لكن هذه الرواية قد تأخذ أشكالاً جديدة. قد تتقلّص أحجامها لتلائم زمناً يسيطر فيه القلق والتسارع، وربما تجد القارئ يبحث عن قصص أكثر تكثيفاً وعمقاً. وربما يكون التوجّه نحو الروايات التي تتناول مواضيع معاصرة بسرعة أكبر من أي وقت مضى؛ حيث يتحوّل الكاتب إلى شاهد على عصره بشكل مختلف، مستلهماً الواقع المتغيّر باستمرار.

وهناك سيناريو مختلف؛ حيث تبرز الرواية فيه كأداة مقاومة أمام طوفان التكنولوجيا وتسطيح المفاهيم. وهنا يمكن أن نشهد موجة من العودة إلى الكتابة التقليدية، مع تصاعد الأصوات التي تدعو إلى العودة إلى الأصل... إلى الرواية بوصفها فنّاً يحفظ التجربة الإنسانية العميقة من التفكّك والانهيار. في هذا التصوّر، قد تجد الرواية مساحة أوسع للتأمّل والبحث عن المعنى، بعيداً عن ضجيج التكنولوجيا التي تسعى إلى اختزال الحياة في معادلات رقمية.

هذه الرواية قد تظلّ عصيّة على الاستيعاب في عوالم الذكاء الاصطناعيّ؛ لأنّها تعتمد على التأمّل الفلسفيّ والعمق العاطفيّ والخصوصيّة الفرديّة، وهو ما قد تعجز التقنية عن محاكاته بشكل حقيقيّ. هذه الرواية قد تكون نوعاً من الفنّ الذي يصمد أمام المتغيّرات؛ لأنها تُقدّم تجربة إنسانية متفرّدة لا يمكن استبدالها.

يحلو لي أن أعتقد أنّه من المرجّح أن نشهد مزيجاً من التصوّرين الثاني والثالث. الرواية قد لا تذوب بالكامل في العالم الرقميّ؛ لأنّها تمثّل عمقاً يتجاوز ما تقدّمه التكنولوجيا في كثير من الأحيان. لكن في الوقت نفسه، ستظلّ بحاجة إلى التكيّف مع الزمن والتغيرات التي تطرأ عليه. سيكون على الروائيين إيجاد توازن بين الحفاظ على جوهر هذا الفنّ واستخدام الأدوات الجديدة لتعزيز تجارب القراءة وإثرائها.

قد نرى الرواية تتحوّل إلى وسيلة أكثر تفاعلاً، لكنّها ستظلّ تحتفظ بمساحات من العمق والتأمّل، وستبقى قادرة على تقديم تساؤلات حول مصير الإنسان ومعاناته وآماله. والروائي المعاصر يستخدم أدواته الفنية ليكشف عن الأغوار النفسيّة الخفيّة، ويتعقّب تلك التفاصيل الدقيقة غير المفهومة التي تشكّل جوهر الإنسان الحديث. والتقدم الرقمي يسمح للأدباء بتوسيع مفهوم الرحلة الروائية التي تتعمّق أكثر فأكثر، لتصبح أشبه بمحاولة دائمة لفك شفرات التعقيدات الإنسانية التي تجعل الإنسان ما هو عليه، ولتصبح أكثر قدرة على تتبع التحولات النفسية المحتجبة، لكنها تترك آثارها العميقة على مصائر الشخصيات وأفعالها.

ومع استمرار تطوّر التكنولوجيا وتغير أذواق القرّاء وأمزجتهم، يبقى السؤال الأهمّ: هل ستظلّ الرواية، في أشكالها المتعدّدة، قادرة على أن تحافظ على مكانتها كفنّ قادر على ملامسة جوهر التجربة الإنسانية في عالم يتسارع تغييره بشكل غير مسبوق؟

* روائي وناقد سوري.