الشعر العراقي أصبح ممتلئاً بالحصى وبالقليل من الدر واللؤلؤ

بمناسبة يوم الشعر العالمي الذي يصادف اليوم

بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب
TT

الشعر العراقي أصبح ممتلئاً بالحصى وبالقليل من الدر واللؤلؤ

بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب

حين يخصص يومٌ للشعر في هذا العالم، فإن هذا التحديد مناسبة مهمة للاحتفاء والتذكير بأهمية الشعر في حياتنا، ولكن الأهم أنه فرصة مناسبة للمراجعة الحقيقية لواقع الشعر العربي ومستقبله، ونظرة موضوعية للمشاكل والمعوقات التي تقف بوجهه، وبما أن هذا الموضوع واسع وكبير لذا سأتوقف عند تجربة الشعر العربي في العراق، وهي كبيرة جداً بلا شك.
لا شك أن أزمات الثقافة العربية ترتبط دائماً بالأحداث السياسية والاجتماعية التي تعصف بالبلدان، ودائماً الثقافة تتبع هذه التحولات، فلم نحظ بثقافة حقيقية تبادر بفعل سياسي، أو اجتماعي، إنما دائماً نجد الأثر السياسي أكثر ضوءاً من غيره على الثقافة، والشعر أكثر تجليات الثقافة في العراق، لأسباب عديدة يعرفها أكثر المشتغلين في هذه الحقول، وبما أن الشعر حقلنا الأصيل، ووجهنا الثقافي المهم، لذا فإن مراجعته بين مدة وأخرى واجب ثقافي - كما أظن - بوصف العراق نافذة مهمة من نوافذ الحداثة الشعرية العربية، وله إرثٌ عظيمٌ منذ الحضارات الأولى وأول نص قيل في هذا العالم وأول ملحمة كتبت على وجه الأرض وأول شاعرة أنشدت الشعر هنا حتى أيام العباسيين، حيث بشار بن برد وأبو نواس وأبو تمام والبحتري والمتنبي والمعري والشريف الرضي... والأسماء تكثر وتطول في قائمة ذهبية ولدت في العراق وكتبت شعرها هنا.
لذا فالحديث عن الشعر العراقي هو حديث عن إرث عظيم وحاضر مهم استجاب لمتطلبات الحداثة فكان السياب والملائكة والبياتي والبريكان وسركون بولص وعشرات آخرون من خيرة الأسماء الشعرية في العراق، لذلك فالمسؤولية الشعرية هي مسؤولية مضاعفة، ماضياً وحاضراً.
حين نلتفت للراهن الشعري العراقي نجد - حسب ما أظن - مشهداً، للأسف، مختلفاً عن كل المشاهد السابقة. وسأتحدث عن النسبة الأعلى في الشعرية العراقية، وهذا لا يعني عدم وجود تجارب كبيرة ومهمة، إنما وجودها لم يشكل فارقاً مهماً، ولم يؤثر في بقية المشهد الشعري العراقي الذي اختلط فيه الجيد بالرديء، وأصبح ممتلئاً بالحصى الكثير، وبالقليل من الدر واللؤلؤ، فالمشهد الشعري الموجود حالياً ليست له علاقة بالشعر العراقي الحداثي الذي انبثق نهاية الأربعينيات، واستمر حتى أجيال ما بعد الستينيات. الشعر العراقي ذو المرجعيات الفكرية والمعرفية والجمالية، الذي شكل عصباً مهماً ومغذياً من مغذيات الحياة المعاصرة، كيف تراجع ذلك الشعر؟ وما هي أبرز أزماته؟ وهل فعلاً يعيش أزمة كبيرة؟ وحين يتأثر الشعر العراقي، ويعيش أزمة ما، هل يعني هذا أن الشعر العربي في أزمة كبيرة أيضاً؟ أم إننا معزولون عن بعضنا البعض؟ ونعيش في جزرٍ متباعدة، وتجمعنا اللغة فقط؟
الأزمة التي بدأت أشعر بها منذ أكثر من عشرة أعوام في الشعر العراقي المعاصر تتجلى في مظاهر متعددة، أولها في المهرجانات التي تُقام، وفي المجاميع الشعرية التي تطبع وليس لها سوق، وفي الصفحات الثقافية الفقيرة في الصحف والمجلات، وفي التجمعات والمنتديات الكثيرة، من حيث عدد الشعراء، ولكنها الفقيرة من حيث النوعية، الشعراء كثرٌ جداً في هذا البلد، ولكن الشعر عملتهم النادرة جداً جداً، كذلك غياب الحركات الأدبية والمدارس الشعرية التي تحرك الراكد في الشعرية العراقية، وحين نتناول هذه الجزئيات سنرى أن العراق من أكثر البلدان العربية شغفاً بإقامة المهرجانات والملتقيات الشعرية، ولكنها للأسف مهرجانات يغلب على معظمها الطابع الاجتماعي وليس الثقافي، فمنذ سنين طويلة لم تستطع الشعرية العراقية في مهرجاناتها أن تُضيف رقماً جديداً للجمهور الذي يستمع للشعر، فالشعراء أنفسهم، والجمهور أيضاً هو نفسه من الشعراء، إذ لم تستطع ماكينة الثقافة بكل دفاعاتها الكبيرة أن تُعيد الثقة بين الشاعر والجمهور، وأن يأتي الناس غير المتخصصين ليستمعوا إلى الشعر، وهذا ما لم يحدث إلا نادراً، حيث يأتي الناس في افتتاح بعض كبريات المهرجانات، ولكنهم لن يحضروا بقية الجلسات، فيما يحظى الشعر الشعبي بجمهور عريض في أي محافظة من محافظات العراق، وإن الشباب العراقي يحفظ الشعر الشعبي، ويحضر الفعاليات بشكل واسع، وكذلك بقية الفنون كالغناء والموسيقى والمسرح، حيث يأتي الجمهور لهذه الفعاليات، ويقطع التذاكر، ويدفع المال لكي يحضر، وهو مؤشر كبير لتراجع جمهور الشعر في العراق، وربما سببه الشعراء أنفسهم، حيث غيب الموت معظم أبناء الجيل المؤسس للحداثة الشعرية، وانزوى من انزوى منهم، وشعر الآخرون بلا جدوى كل شيء، فيما انقطع الجيل الجديد عن فكرة الحداثة، فأنتجوا نصوصاً أقل ما يُقال عنها أنها تكرار لتجارب سيئة في الشعرية العراقية، وإلا ما معنى أن يقرأ شاعرٌ في عام 2022 قصيدة هجاء بالآخرين، يسب ويشتم بالناس لأنهم يختلفون عنه، أو أنهم انتقدوه في يوم من الأيام، ومن ثم يمتدح ذاته بطريقة تدعو للضحك، لأنه لا يمت إلى هذا العصر بصلة إطلاقاً، ويقول في قصيدته إنه أعظم الشعراء، وما قيمة المنصات الإبداعية التي تحتفي بمثل هذا الشعر الذي انقرض منذ سنين طويلة، ولكنه هنا في العراق له رواده من الشعراء، شباباً وكهولاً للأسف، حتى إنهم وصلوا إلى مرحلة لا يميزون فيها بين الشعر وضده، فكل شيء موزون لديهم يحسبونه شعراً، ثم ما قيمة الموزون الذي يُكتب بطرقٍ تقليدية ساذجة، حيث الشاعر يشبه الديوك التي تنفش ريشها وتصيح فيما هي تقف على تل من النفايات.
الشعر العراقي يعيش أزمة كبيرة كما أزعم، أغلب شعرائه الآن لا يفرقون بين الشعر وعدمه كما قلنا، الموضوعات تطغى على البناء الفني دائماً، فعدد الشعراء الندابين يكثر يوماً بعد آخر، وفي كل مناسبة دينية أو اجتماعية أو سياسية تجد حضوراً للشعراء، وكأنما القصيدة واجب اجتماعي يجب على الشاعر تقديمه في كل مناسبة من هذه المناسبات، وهي طريقة للأسف جرجرت الشعر إلى زوايا مظلمة، وحوّلت الشاعر إلى ندابة تدور في مجالس العزاء وتكرر البكائيات نفسها في كل مجلس.
الشعر العراقي الآن يعاني أزمة الأسئلة، فهو شعرٌ ممتلئ بالإجابات، شعرٌ يقيني في معظمه، لا أسئلة فيه، ولا قلق معرفياً أو وجودياً أو فنياً، كله يصف الحياة من الخارج، ولا يشترك فيها، شعرُ قشورٍ وليس شعراً غائصاً في الروح والعقل، طغيان الشعبويات على الكثير من الشعر العراقي الآن، حيث ثقافة الشعراء التي لا تتعدى قراءة البوستات اليومية في «فيسبوك»، دون أنْ تتغذى تلك الثقافة بالجديد من المعرفة والأدب العالمي، لهذا فالشاعر يلجأ إلى بئر ذاته يمتح منه إلى أنْ يجف سريعاً، فتخرج في النهاية قصائد ممتلئة بحواف تلك البئر، من طينٍ يابسٍ وماءٍ راكدٍ، وهذا ما يحدث - للأسف - لدى عدد من الشعراء العراقيين الذين بدأوا جيدين شعرياً، ولكنهم ركدوا وانسد نهر إبداعهم دون أنْ يكون له مصب يخرج منه، أو نبعٌ يتزود بالجديد، فركد الماء وماتت النباتات داخله.
وربما كانت المهرجانات والمسابقات الشعرية والجوائز التي تُفصل على قصائدَ معينة وأغراضٍ محددة قد حولت عدداً من هؤلاء الشعراء إلى ببغاوات تردد وتكتب ما يُطلب منها، بوصف الشاعر الآن نجاراً وعدتُه النجارية هي اللغة، فتخرج النصوص باردة ومصنوعة صناعة لا روح فيها.
ربما شكل غياب النقد العراقي أزمة أخرى من أزمات الشعر هنا، فقد ابتعد عن متابعة ما يحصل من تدهور شعري وعدم تأشير ذلك التدهور بوضوح دون لف أو دوران، فقد بقي النقد الأدبي يعجن بالمصطلحات النقدية التي لا يفهم منها شيءٌ إطلاقاً، فلم نر ناقداً إلى الآن يتحدث عن مشكلات وأزمات الشعر العراقي المعاصر، فيما نجد عدداً من النقاد ما زال منشغلاً بالرواد وما بعدهم بقليل، فيما انشغل عدد آخر من النقاد بمجاملات يومية لا تشكل ثقلاً يضاف لرصيد المعرفة الإبداعية.
كذلك تقف الأكاديمية العراقية أيضاً سبباً من أسباب تردي الوضع الشعري في العراق، وذلك بسبب تكلس الدرس الأكاديمي، وعدم انفتاحه على المشهد المعاصر، بل إن معظم الأكاديميين الآن يعيشون عزلة كبيرة عن الوسط الثقافي، وبهذا فقد تراجع الدرس النقدي الأكاديمي واختفت ملامح النقد المباشر للتجارب الشعرية.
السوشيال ميديا ومواقع التواصل الاجتماعي ربما كانت من الأسباب التي صدرت الهوامش على أنها متونٌ رئيسة وملهمة، فشعراء من أنصاف الموهوبين حين ينشرون نصوصهم سيحصل البعض منهم على آلاف الإعجابات والتعليقات، بسبب سعة الأصدقاء في صفحته الشخصية، فيما شاعرٌ كبيرٌ مثل حسب الشيخ جعفر حين ينشر نصاً جديداً وهو بحسب ما نرى حدثٌ ثقافيٌّ حين ينشر قصيدة جديدة، ولكنه لم يستطع أنْ يحصل على إعجاب مائة شخص.
هناك مظاهر كثيرة تؤشر لأزمة الشعر في العراق، التقليديون الذين يتناسلون يومياً ويكرر واحدهم الآخر، والغنائيون جداً في الشعر العراقي الذين يعالجون قضايا كبرى يمر بها البلد بسذاجة عالية للأسف، وهذا ينم عن ضعفٍ ثقافي في تكوين هؤلاء الشعراء ومرجعياتهم الفكرية والثقافية. العراق البلد الذي كان من أكثر البلدان العربية ظهوراً للمدارس الشعرية، فمنه تنطلق موجات الحداثة والتجديد، وفي كل جيل تنطلق البيانات الشعرية والحركات المجددة، ولكنه منذ سنين طويلة قاربت العشرين عاماً دب الكسل في مفاصله الشعرية، فلم نسمع عن جيل شعري جديد، أو حركة إبداعية مغايرة، فما الذي يحدث؟ هل تراجع الحياة في العراق في الخدمات والبنى التحتية أسهم بتراجع حياة الشعر لدينا؟ ومن سيضخ الدماء في القصيدة غير أولئك المغامرين الذين نبحث عنهم؟



محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي
TT

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان. وعلى الرغم من أن بعض رواياته لا تتجاوز 60 صفحة، فهو يراهن «على التكثيف والشحنة الجمالية وجذب القارئ ليكون فاعلاً في النص»، كما يقول. من أعماله الروائية والقصصية «المموِّه» و«صرخة مونش» و«أرجوحة فوق زمنين» و«حديقة السهو»، ووصلت روايته «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» في دورتها الحالية، هنا حوار معه حول تجربته الأدبية:

* في «طبول الوادي»، تستعيد خصوصية مجتمعات ريفية في قرى عمانية تكاد تبتلعها الجبال، كيف جعلت من الأصوات وسيلةً لرسم ملامح البشر والمكان في النص؟

- بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» للرواية العربية المنشورة في دورتها الحالية، تعمدت اختيار «وادي السحتن»، المكون من قرى عدة وسط الجبال تمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان. و«المندوس» كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعدُّ في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي»، وعبر تفاصيل الأحداث نعرف لماذا اختار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه ومشيخة القبيلة حتى وإن جاع.

اهتممت بالتفاصيل كمقوم سردي، مثل الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة. أتذكر مثلاً أننا كنا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات. والأصوات هنا قد توحي بكمية الأغاني التي تشتمل عليها الرواية. هناك أيضاً أناشيد بعضها باللغة السواحلية الزنجبارية، ناهيك عن طبول الجوع التي تعرض لها بطل الرواية «سالم»، وقد اختار الحرية مضحياً بكل شيء وخرج من قريته حافي القدمين حاسر الرأس، وفي ذلك دلالة مقصودة.

* ألن يكون صادماً لبعض القراء التعرف على وجه آخر لـ«دول الخليج» من خلال قرى متقشفة يعاني أبناؤها من مستويات متباينة من الفقر والجوع والحرمان؟

- لا يخلو أي مجتمع من مفارقات، ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص. صحيح أن عمان بلد نفطي وعدد سكانه قليل لكنه في النهاية مجتمع متنوع، به طبقات ومستويات، به ثراء فاحش وبه فقر مدقع. ولست في سياق مناقشة الأسباب، إنما يمكن ذكر أمثلة، منذ فترة قريبة مثلاً سمعت عن قريب لي سُرّح من عمله، ولديه أبناء كُثر، التعويض لم يكن يكفيه لإعالة أبنائه، فاضطر إلى السير في الخلاء ليعود من هناك بأشجار يحرقها ليحولها فحماً يبيعه. تحول إلى حطّاب. وهذه الأمور لم نكن نسمع بها إلا في الحكايات.

* في مقابل القرية، تطل المناطق والمدن الأكثر تحضراً، وهى تحتوي، وفق تعبير الراوي، على «الضجيج الذي يُسمع الآن متداخلاً بين العربية والهندية والأفريقية والبلوشية... كيف ترى بعين الروائي هذا «الموزاييك» أو «الفسيفساء» الذي تحمله سلطنة عمان والمجتمع الخليجي عموماً بين طياته؟

- هذا الموزاييك يشكل ثراءً اجتماعياً تنتج عنه تفاعلات يمكن أن يستفيد منها القاص. لو فقط تأملنا تاريخ الأسواق العمانية، لحصلنا على ذخيرة مهمة، ناهيك عن الأغاني، سواء تلك المتعلقة بالأفراح أو حتى الأتراح. المهم هنا هو كيف تعبر عما هو موجود وليس تفصيل ما هو موجود. الكم يعدُّ انحرافاً عن طريق الأدب الذي من سماته البلاغة والاقتصاد. الكاتب الروسي نيقولاي غوغول اختصر في رواية «المعطف» تاريخ الخياطين في روسيا في عمل صغير، كان المعطف هو البطل وليس صاحب المعطف في الحقيقة. لكنه قدم عملاً هائلاً لا يمكن نسيانه. أتذكر حين قرأت «المعطف» أول مرة في التسعينات وكانت منشورةً كاملةً في مجلة «عيون المقالات» بكيتُ بحرقة. ولحظة التأثر الصادقة هذه لا يمكن أن يقدمها لك إلا كاتب عظيم بحجم غوغول.

* جاءت روايتك «المموِّه» قصيرةً إلى حد الصدمة حتى أنها تقع في أقل من 60 صفحة، كيف ترى مسألة «الحجم» وتأثيرها في استقبال وتصنيف الأعمال الأدبية؟

-الحجم عادة ليس مقياساً. رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي رواية قصيرة لكن لا تقل أهمية وذكراً عن رواياته الكبيرة. الأهم في هذا السياق هو التأثير. وسواء كُتب على الغلاف رواية أو «نوفيلا»، يظل هذا الأمر يدور في قلة الحجم. ثمة مواضيع من الأفضل تقديمها قصيرة خصوصاً تلك القصص التي تعتمد على اللعب. وحين أقول قصصاً فإنه حتى الرواية كانت تسمى قصة، فالقصة عنصر أساسي في السرد، سواء كان هذا المسرود قصة قصيرة أو رواية.

* هل أردت أن تحرر فكرة السرد الروائي من «المطولات» التي أثقلته مؤخراً أعمال تتجاوز 400 أو 500 صفحة دون دواعٍ فنية؟

- لم أكن أقصد حين كتبت سوى التعبير بأقل الكلمات وأحياناً ألجأ لمجرد الإشارات. حالياً أعكف على نوفيلا بطلها شاب لا يتكلم، انطلاقاً من مقولة لبريخت مفادها أن الذي لا يتكلم لديه كلام كثير ليقوله، وهذا الكثير يعبّر عنه بمختلف حواسه، لا سيما العين وليس فقط الإشارات. قبل أن أكتب رواية «أوراق الغريب» دخلت في دورة للصم مدتها أسبوعان، وذلك لأنه ضمن شخصيات هذه الرواية امرأة خرساء. ورغم أن دورها ثانوي في الرواية، لكن كان من المهم فهم شعورها وطريقة تعبيرها بدقة وإلا أصاب النص نقص مخجل، ليس في عدد الصفحات، وهذا ليس مهماً كثيراً، لكن في الفهم... كيف تكتب عن حالة أو شخصية قبل أن تفهمها؟ هذا أمر في غاية الأهمية حسب وجهة نظري.

* تذهب رواية «المموه» إلى «المسكوت عنه» من خلال تجارة المخدرات وترويجها عبر الحانات... هل تعمدت ذلك وكيف ترى محاذير تناول مناطق شائكة في الرواية الخليجية؟

- طريقة تناولي للمواضيع السردية حذرة جداً، لكنه ذلك النوع من الحذر الذي لا يفرط بصياغة المادة الحكائية بقدر ما يكون في التعالي على مطابقتها حرفياً بالواقع. أستفيد من معطيات الواقع الموجودة والمباشرة لكن في حدود مدى خدمتها للعمل أدبياً. لو كنت أرغب في كتابة موضوع اجتماعي لما التجأت إلى الرواية. كنت سأكتب بحثاً حسب منهج علمي به تفاصيل ومسميات صريحة، لكن كتابة الأدب تتقصد أولاً إمتاع القارئ عبر اللغة والتخييل، ولا يمنع الكاتب أن يستفيد من كل معطيات الواقع وتنوعه طالما أن ما يكتبه يدور في فلك التخيل. وطالما أنه لم يستخدم كتابته لأغراض أخرى مثل تصفية الحسابات مثلاً.

*هل خلفيتك كاتبَ قصة قصيرة جعلتك تنحو إلى التكثيف والإيجاز وقلة عدد الشخصيات في أعمالك الروائية؟

- البداية كانت مع القصة وربما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأت الكتابة القصصية في سن مبكرة، نحو 19 عاماً، لكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد الثلاثين ثم انتظرت 9 سنوات حتى أصدرت المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذاك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها مجموعة «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى، بالنسبة للرواية فقد اقتحمت ساحتها بشيء من الحذر، بدأت تدريجياً بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن «دار الجمل»، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن «دار الانتشار»، بعد ذلك كتبت «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبياً ومتعددة الأصوات، كتب عنها الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة «نزوى».

* بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى «اللون البني» 1998 لماذا انتظرت 10 سنوات كاملة حتى تصدر المجموعة الثانية؟

ربما كنتُ مسكوناً أكثر بالقراءة. ورغم أن «اللون البني» لقيت نجاحاً وكُتب عنها بصورة مفرحة فإنني كنت أكتب أيضاً. أتذكر أن مجموعتي الثانية «بركة النسيان» كتبت الجزء الأوفر منها في دكان والدي بمدينة مطرح. كان معي دفتر أنكب عليه للكتابة وقت الظهيرة غالباً على عتبة الدكان حين يقضي أبي قيلولته في مسجد قريب. أحدهم قال لي لاحقاً إنه كان حين يعود من عمله بالسيارة لا يراني إلا منكباً وكان يستغرب. بعد أن أنهيت دراستي ساعدت والدي في دكانه كما كنت أساعده أثناء الإجازات الدراسية إلى أن وجدت عملاً في وزارة التعليم العالي. لذلك يمكن ملاحظة الكثير من الدكاكين في تلك المجموعة القصصية.

لا يخلو أي مجتمع من مفارقات ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص

* حصلت على العديد من الجوائز فضلاً عن الوصول للقوائم القصيرة لجوائز أخرى... كيف تنظر لحضور الجوائز في المشهد الأدبي العربي، وهل تشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لك؟

- لم أكتب يوماً لنيل الجوائز، أنا مقتنع أن اللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط، وما عليك سوى العمل. كان أبي (رحمه الله) يقول لي «عليك أن تفتح الدكان صباح أول الناس وتنتظر». وفي هذا دعوة إلى الاستمرارية. بالنسبة للكاتب، عليه أن يقرأ كثيراً وربما أيضاً عليه أن يكتب، أما النشر فيأتي لاحقاً. كذلك الجوائز لا تستجيب بالضرورة لمن يخطط لها.

* أخيراً... ما سر حضور الرواية العمانية بقوة مؤخراً في المشهد الثقافي العربي؟

- ربما بسبب النزوح الجماعي نحو هذا اللون. مرة كتبت مقالاً في موقع «ضفة ثالثة» بعد رحيل عزيزنا القاص والروائي والطبيب عبد العزيز الفارسي، قلت فيه إنه حين كتب أول رواية وصعدت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» في دورتها الأولى حوّل المشهد من كتابة القصة إلى كتابة الرواية في سلطنة عمان، فاتجه معظم من كان يكتب قصة إلى هذا الفضاء الجديد والمغري. هناك من ظل يراوح مزاولاته بين القصة والرواية وعبد العزيز كان واحداً منهم. وبذلك استطاع الكاتب العماني عموماً أن يساهم وينافس في مسابقات ذات طابع تنافسي عربي، كما حدث مع جوخة الحارثي وبشرى خلفان ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وآخرين في مجالات إبداعية مختلفة.