ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

التكنوقراطي المنفتح و«صلة مجلس النواب مع الخارج»

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني
TT

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

يغادر النائب والوزير السابق ياسين جابر، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان اللبناني، ورئيس لجنة تطبيق القوانين فيه، الندوة البرلمانية بإرادته.
الاقتصادي والتكنوقراطي المنفتح يطوي صفحة امتدت لـ27 سنة في العمل الحكومي والنيابي، كرسته «عراباً» لتشريع «القوانين الإصلاحية»، و«صلة الوصل» بين لبنان والخارج، مرة عبر لجان الصداقة الأوروبية والبريطانية واليابانية، ومرة أخرى عبر تجمع نيابي لـ«ترميم» علاقات لبنان مع الكونغرس الأميركي. تجربتان في أبرز ملفين دقيقين على عاتق البرلمان، الملف الخارجي والملف المالي والاقتصادي، ويغادرهما جابر الآن محبطاً لعلمه بأن إرادة الإصلاح ليست فاعلة، وتجنباً لتكرار الانتقادات التي طالته، مع آخرين، في حراك أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
في العام 1995 تلقّى ياسين جابر، رجل الأعمال اللبناني المقيم في لندن اتصالات من لبنان عرضت عليه المشاركة في حكومة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، ورُشّح، بالذات، لأن يحمل فيها حقيبة «الاقتصاد والتجارة». عند تلك النقطة اتخذ جابر قراراً بالعودة إلى بيروت التي هجرها في العام 1979 إلى بريطانيا، وافتتح أعماله فيها.
كانت بيروت في ذلك الوقت تشهد صعوداً مدوّياً على صعيد إعادة الإعمار والإنماء. ولقد أغرى ذلك الصعود، كثيرين من اللبنانيين المهاجرين ليكونوا شركاء في هذه النهضة. وكان جابر واحداً منهم، كيف لا وهو يمثل جزءاً من مجتمع رجال الأعمال اللبنانيين الذين انتقلوا إلى العاصمة البريطانية إبان فترة الحرب، حيث أسهم خلال إقامته فيها بأواخر الثمانينات بتأسيس فرع «جمعية خريجي الجامعة الأميركية في بيروت» في لندن، وترأس الفرع لثلاث سنوات. غير أن معظم أولئك عادوا بعد نهاية الحرب من أجل للمشاركة في مسيرة النهوض السياسي والاقتصادي لبلد عاين الخراب والدمار، و«حاز فرصة» للنهوض بعد العام 1992.
مثّلت تلك الحقيبة التي حملها ياسين جابر في الحكومة، مستهل مسيرته في العمل السياسي، أتبعها بالترشح إلى الانتخابات عن المقعد الشيعي في النبطية (جنوب لبنان) وبات عضواً في كتلة «التنمية والتحرير» التي يرأسها رئيس البرلمان نبيه بري. إلا أن هذا الدخول إلى البرلمان، لم يحجب الهدف الأساسي من دعوته إلى العمل السياسي، وهو المشاركة في حكومتين ترأسهما الحريري وزيراً للاقتصاد. إذ تلاقت دراسته كخريج في إدارة الأعمال من الجامعة الأميركية في بيروت، وخبرته الواسعة في قطاع المال والأعمال في بريطانيا على مدى أكثر من 15 سنة، مع الرؤية السياسية للنهوض بلبنان في تلك الفترة. واستقر على رأس الوزارة حتى خروج الحريري من الحكومة للمرة الأولى في العام 1998 في عهد الرئيس الأسبق إميل لحود. وتحوّل جابر بعد ذلك إلى التفرغ للعمل البرلماني.

مشرّع لقوانين إصلاحية
وعلى الصعيد البرلماني، بدأ ياسين جابر مسيرته في لجنة المال والموازنة النيابية التي بقي فيها لمدة 24 سنة. ومنذ ذلك الوقت، يقول جابر «كنتُ جزءاً من النشاط التشريعي الهادف للعبور إلى الإصلاح المالي والاقتصادي». يصفه عارفوه بأنه «مهندس القوانين الإصلاحية» التي بدأت تتبلور بعد مؤتمر «باريس1»، حيث أصرّ المجتمع الدولي على إقرار القوانين الإصلاحية، وتنفيذها، وليس أولها إقرار «الهيئات الناظمة» لقطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني ولاحقاً النفط، كما أقر البرلمان في تلك الفترة قوانين إصلاحية أخرى مثل السوق المفتوحة لإلغاء الوكالات الحصرية.
جابر قال لـ«الشرق الأوسط» متذكراً وشارحاً «في تلك الفترة، كان الوضع صعباً. إذ أقيم مؤتمر (باريس1) لمساعدة لبنان بدفع من الرئيس الحريري، وعلى أثره، طالب المجتمع الدولي لبنان بإقرار القوانين الإصلاحية التي بدأنا بتشريعها في العام 2002. أقررنا حزمة القوانين الإصلاحية المطلوبة، لكن المؤسف أنه بعد عشرين سنة، لم تطبق هذه القوانين». ومن ثم، استتبعت بحزمة جديدة على مدار السنوات، منعها «قانون الأسواق المالية الحديثة» الذي أقرّ في العام 2011، وأتاح للقطاع الخاص العمل بالبورصات بمعزل عن الدولة، وتلاه التمهيد لقانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وصولاً في العام 2021 إلى إقرار «قانون الشراء العام» الذي «لم يكن أحد ليصدق بأنه يمكن أن يُقرّ». ولكن، بالفعل، جرى إقراره في العام الماضي، وكان يفترض أن يبدأ العمل به في يوليو (تموز) الفائت، إلا أنه حتى الآن لم يدخل حيّز التنفيذ. وهنا يُشار إلى أن جابر كان قد تقدم باقتراح القانون إلى المجلس النيابي، وأُعدّ هذا القانون في «معهد باسل فليحان» بالتعاون مع «البنك الدولي» و«الاتحاد الأوروبي» و«الوكالة الفرنسية للتنمية» و«وستمنستر فاوندايشن».

قوانين لم تُنفّذ
هذه المسيرة في التشريع، والجهود في إقرار القوانين التي وضع جابر لبنة قسماً منها، لم تثمر أو تنفذ، شأنها شأن أكثر من 72 قانوناً جرى إقرارها في البرلمان على مدى السنوات السابقة ولم تُنفذ رغم الدفع من قبله، وهو رئيس لجنة تطبيق القوانين.
هذا الواقع يختصره جابر بالقول، إن المؤسف والدافع لليأس في لبنان أنه «حتى اليوم ليس هناك قرار سياسي بالإصلاح». ثم يوضح «في ملف الكهرباء، لم يتخذ أي قرار بالإصلاح، رغم صراخنا منذ ثماني سنوات عبر الإعلام وفي داخل المؤسسات... كذلك حين تم إقرار سلسلة الرتب الرواتب التي عارضناها، بالنظر إلى أنه يستحيل إقرار سلسلة رواتب جديدة في ظل عجز في الموازنة... حذّرنا ورفعنا الصوت، لكن لا رأي لمن لا يُطاع».

الاقتصاد والشؤون الخارجية
نشاط جابر في المجلس النيابي تركز في أهم محورين: الشأن الخارجي، والمحور الاقتصادي – المالي. وتجربة جابر وزيراً للاقتصاد في عقد التسعينات، ولاحقاً وزيراً للأشغال العام والنقل في العام 2004، لم تقتصر على رفده بخبرة تشريعية في إعداد القوانين الإصلاحية. فهذه التجربة، إلى جانب مرافقته لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في أسفاره الخارجية لإنقاذ الوضع اللبناني، مهّدت له لتشكيل مروَحة واسعة من العلاقات الخارجية، وفتحت له أبواب التعرف إلى المجتمع الدولي، استفاد منها في وقت لاحق حين زادت الضغوط الخارجية السياسية على لبنان.
أضف إلى ما سبق، أنه خلال تجربة جابر النيابية، كلفه رئيس مجلس النواب نبيه برّي - الذي هو أيضاً رئيس كتلته البرلمانية - ملفات خارجية كثيرة، بينها «مجموعة الصداقة مع لبنان في مجلسي العموم واللوردات البريطانيين»، كما ترأس «لجنة الصداقة اللبنانية - الأوروبية»، إلى جانب رئاسة «لجنة الصداقة البرلمانية اللبنانية - اليابانية» لنحو عشرين سنة. وهذا بجانب تمثيله البرلمان اللبناني في الجمعية اللبنانية - اليورومتوسطية حتى العام 2011.
بعدها، في فترة الأزمة السورية، توترت العلاقة بين لبنان والكونغرس الأميركي، على ضوء تجاذبات في السياسة الخارجية. وكان الاتجاه الأساسي لدى لبنان شرح الموقف اللبناني وترميم العلاقات مع واشنطن على مختلف المستويات. عندها، وخلال العام 2016، طلب رئيس المجلس النيابي من جابر ومجموعة أخرى من الزملاء تشكيل وفد كُلّف تصحيح تلك العلاقات، وإنشاء تجمع يترأسه جابر نظم رحلات متتالية إلى واشنطن، حيث عقدت لقاءات مع ممثلين في الكونغرس والمؤسسات الدولية... بينها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لشرح الموقف اللبناني وإعادة أحياء العلاقات.
يقول جابر، الذي بات منذ العام 2018، رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، إن اختياره من قِبل برّي لهذه المهام، جاء على خلفية تجربته مع الحريري، وقبلها لوجوده لفترة غير قصيرة في بريطانيا، حيث اكتسب قدرات التواصل مع الخارج، ومهارات الحوار والمباحثات. وفي هذا السياق، يشدد على أنه كان يمثل كتلة «التنمية والتحرير» والمجلس النيابي، وانخرط في هذا النشاط بتكليف ورعاية الرئيس نبيه برّي. ثم يوضح «دخلنا إلى الكونغرس الأميركي وطرحنا وجهة نظر لبنان بالظروف السياسية المحلية والإقليمية، وبالفعل أعطى ذلك الحراك مفعولاً إيجابياً لفترة».

إرادة الخروج... وإرادة سياسية
اليوم، يترك ياسين جابر البرلمان بإرادته. لقد قرر العزوف عن الترشح للانتخابات النيابية المقبلة، من غير أن يترك العمل السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يمارسه منذ سنوات طويلة، عبر مركز ثقافي افتتحه في مدينته النبطية، وغيره من المؤسسات.
أكثر من هذا، لم يخرج من البرلمان بسبب خلافات. بل اتخذ قراره الشخصي، على ضوء شعوره بالحسرة. وهو هنا يسأل بضيق «هل يُعقل أن هناك عشرات القوانين التي حفرناها بالصخر وكافحنا من أجل إقرارها، لم تصدر المراسيم التنفيذية لها، وهذا مع أن بعضها موجود منذ عشرين سنة، مثل إقرار الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء؟».
بعدها، يعود جابر بالذاكرة إلى الوراء، ليتحدث عن تجربة لبنان اليوم. يقول مسترجعاً شريط الأيام والسنين «حين وصلت إلى لندن في العام 1979، كانت بريطانيا تعيش حالة اقتصادية صعبة استلزمت منها توقيع برنامج مع (صندوق النقد الدولي)، مثلنا تماماً في هذا الوقت. يومذاك اتخذ الساسة البريطانيون قراراً بالإصلاح، وأجريت انتخابات عامة فاز فيها حزب المحافظين، وجاءت مارغريت ثاتشر إلى رئاسة الحكومة البريطانية... ونهضت بالبلاد حتى باتت واحدة من أكبر الاقتصاديات في القارة الأوروبية». ويتابع «... هذه التجربة بعثت فينا الأمل في ذلك الوقت، ولا تزال؛ لأنه متى توافرت الإرادة السياسية، سنكون قادرين على التغيير. لكن للأسف، هذه الإرادة غير موجودة. مشكلتنا في غياب الإرادة لا في النظام».

تضحية وحسرة
حسرة جابر اليوم، تنطلق من كونه مارس العمل السياسي 27 سنة، أهمل خلالها أعماله ونشاطاته الخاصة لصالح الشأن العام... ومع هذا، بعد 27 سنة «تعرّضت للانتقادات في 17 أكتوبر 2019، وطالتنا الشتائم مع الآخرين، وهذا أمر يدعو للأسف». ويستطرد فيقول «حين قررنا نحن خريجي الجامعة الأميركية العودة إلى لبنان والانخراط في العمل السياسي، كان يدفعنا الأمل الكبير. من جهتي، ضحيت من أجل الإصلاح والنهوض في البلد، وكنت مشرّعاً أعمل على هذا الصعيد. إلا أن ما يحزنني أننا وصلنا إلى طريق مسدودة، ولم نتمكن من تخليص لبنان من أزماته. لقد كانت أحلامنا كبيرة، لكنها اصطدمت بالكثير من العوامل التي حالت دون ريادة لبنان».
جابر كان قد أكد في بيان عزوفه عن الترشح للانتخابات المقبلة المقرر يوم 15 مايو (أيار) المقبل، أن الخروج من العمل النيابي «لا يعني الخروج من الحياة السياسية والعمل الاجتماعي»، متعهداً الاستمرار في خدمة الناس وخدمة لبنان. وخلال اللقاء مع «الشرق الأوسط» جدد القول، إنه موجود في العمل الاجتماعي والسياسي، خارج الندوة البرلمانية «لأننا جزء من لبنان»، وشدد على أن البلاد رغم الأزمة «ستكون قادرة على تحقيق إنجازات إذا ما توافرت الإرادة؛ فالإصلاح ممكن وغير مستحيل، لكن لا يبدو حتى الآن أن هناك رؤية واضحة للخروج من الأزمة بعد وصولنا إلى الانهيار». واختتم متسائلاً «هل يُعقل أن قانون الكابيتال كونترول لم يُقرّ حتى الآن بعد سنتين ونصف السنة على تفجّر الأزمة؟... بل، ولا يبدو أن هناك إرادة لتحقيق إنجازات... للأسف».

ياسين جابر... بطاقة شخصية
< يتحدّر من عائلة شيعية تعد إحدى أكبر عائلات مدينة النبطية، في جنوب لبنان
< ولد في مدينة لاغوس، العاصمة السابقة لنيجيريا، يوم 15 يناير (كانون الثاني) من عام 1951م
< والده رجل الأعمال المغترب في أفريقيا كامل جابر
< أنهى دراسته الثانوية في مدرسة الإنترناشونال كوليدج (الآي سي) في بيروت
< تخرَج في الجامعة الأميركية ببيروت، حاملاً درجة بكالوريوس آداب في الاقتصاد
< متزوّج من وفاء محمد العلي، وأب لأربعة أولاد هم: كامل وسارة وتمارا ونائل



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.