في 4 مارس (آذار) عام 2012، رحل جان كلود بولس، أحد مؤسسي تلفزيون لبنان الرسمي. فهو كان أول الوجوه التي رافقت المشاهد، ومن بعدها شغل إدارة البرامج ورئاسة مجلس الإدارة. وبعد مرور 10 سنوات على رحيله بقي «جي سي»، كما يحلو للمقربين منه مناداته، ذكرى محببة لكل من واكب تلك الحقبة من الشاشة اللبنانية. فهو أحدث تغييرات كثيرة في كل مرحلة تولى زمام أمورها، تاركاً خلفه بصمة تلفزيونية لا تُنسى.
اليوم، يعود جان كلود بولس ليعيش عمراً من نوع آخر عبر الفضاء الرقمي. فأولاده جوزيان وناجي وميرنا، قرروا أن يحيوا ذكراه من خلال إطلاق قناة إلكترونية وصفحتي «فيسبوك» و«إنستغرام» خاصتين به. وتحت عنوان «التلفزيون تاريخ وقصص» (La tele quelle histoire) و«جان كلود بولس»، يتابع مشاهد هذه المواقع الإلكترونية قصص نجاحاته. ويكتشف من خلالها أخبار وحكايات ترتبط ارتباطاً مباشراً بجان كلود مقدِّم البرامج ومدير مجلس إدارة أول تلفزيون انطلق في العالم العربي.
وارتكازاً على أرشيف ضخم يحتفظ به أبناؤه في منزلهم، إذ خصصوا له غرفة شاسعة تضم شرائط مسجلة وكتباً ورسائل ومخطوطات ومقابلات مصورة، وُلدت هذه الفكرة. وتقول جوزيان التي كانت رفيقته في مشواره التلفزيوني لسنوات طويلة، إنّها وأشقاؤها فكّروا ملياً كيف في استطاعتهم أن يحتفلوا بالذكرى العاشرة لغياب والدهم. وشكّل واحداً من كتبه «التلفزيون تاريخ وقصص» الشرارة التي ساعدت في تنفيذ هذه الفكرة. وتتابع جوزيان في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حوّلنا أرشيفه إلى (ديجيتال) كي يواكب عصرنا اليوم. وبعد أن نسّقنا قسماً منه، بدأنا في عرضه على التوالي عبر قناة (يوتيوب) وصفحات إلكترونية تحمل اسم والدي».
وتشير جوزيان إلى أنّ هذا الأرشيف الضخم الذي يملكونه يحتوي على تسجيلات وصور ومقابلات، لم يعد متاحاً الحصول عليها حتى من أرشيف تلفزيون لبنان. فبعض هذه اللقطات تتضمن مشاهد نادرة لحوار يجريه والدها مع سامي كلارك الذي رحل منذ أسابيع قليلة. وما يميّز هذا الحديث المصور هو مشاركة الراحلة فريال كريم فيه. «حوار آخر مع الراحل زكي ناصيف لم أستطع أن أحصل عليه. ولكن في المقابل سيستمتع مشاهد قناة (جان كلود بولس) بحوارات مع الراحلة صباح والفنان راغب علامة في بداياته. وهي مأخوذة من أحد برامجه المشهورة في حقبة الثمانينات بعنوان (أحد عالهوا)».
قدم جان كلود بولس برامج منوعات وحوارات فنية كثيرة لا تزال شريحة من الجيل اللبناني الأسبق يتذكرها كـ«ملاعب 82» و«ملاعب 86» و«زوار المسا». كما كان ينتظره اللبنانيون في أواخر السبعينات أيام الأحد ليمضوا معه «يوم طويل» على «تلفزيون لبنان» يبدأ بثّه في التاسعة صباحاً لينتهي في السادسة مساءً. وتتابع جوزيان في سياق حديثها: «لقد شاركته في تقديم عدة برامج تلفزيونية، ما زلت أذكر حتى الساعة انعكاسها الإيجابي على المشاهد ومدى تفاعله معها. فلقد كنّا نقدم فقرات ثقافية وأخباراً، ونستقبل نجوم الفن. حتى إنني أتذكر فقرة تحل فيها إحدى قارئات الفنجان وتُحدث أجواء حماسية في استوديوهات (تلفزيون لبنان). وفي إحدى المرات توقعت لفريال كريم حصول حادث خطير معها. وبعدها بفترة شهرين أُصيبت كريم بنوبة قلبية، وهي على المسرح وفارقت الحياة».
يطول حديث جوزيان بولس عن والدها، وهي ترى أنّ ما قامت به بمعية أشقائها هدفه تعريف الجيل الجديد به. «هذا الجيل لا يعرف والدي ولا الإنجازات التي أحرزها على الصعيد التلفزيوني، ويُخيَّل إليّ أنّه يجهل كذلك تاريخ (تلفزيون لبنان)، والطريق الشاقّ الذي سلكه والدي مع زملاء له كي يعزز مكانته».
صور بالأبيض والأسود من أرشيف جان كلود بولس
وتجد جوزيان أنّه من المؤسف أن يختفي تاريخ بأسره من ذاكرة الجيل الجديد. وبما أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تبدو اليوم المخزن الأمثل لأرشيف بهذه الضخامة، فقد فكّرت وإخوانها أن يقوموا بهذه اللفتة لوالدهم.
وتصف جوزيان والدها بالرجل الجامع لمواهب عديدة لا تُحصى، وبأنّه كان جدياً ومرحاً في الوقت نفسه. «كان يملك روح الفكاهة بنسبة عالية، وفي الوقت نفسه كان يدير عمله بشكل حازم ومنظم». وتضيف: «كانوا يسمونه في تلفزيون لبنان (أب الجميع)، فباب مكتبه مفتوحاً للموظفين من دون استثناء، يستقبلهم من دون تردد ليقف على مشكلاتهم. جان كلود بولس كان أباً حنوناً بالنسبة لنا ووالداً حقيقياً لكل الموظفين، بحيث كان لا يقبل أن يحصل على أجره الشهري قبلهم».
إعلانات تجارية قديمة وصور فوتوغرافية، تجمع جان كلود بولس بنجوم تلفزيون لبنان أيام الأسود والأبيض، إضافةً إلى أخرى مع نجوى قازون، أولى المذيعات على شاشة «تلفزيون لبنان»، وفقرات يستكشفها مشاهد القناة والمواقع الإلكترونية الخاصة بجان كلود بولس.
ومع هذا التكريم لواحد من رجالات «تلفزيون لبنان»، يستذكر المشاهد أعمالاً درامية قديمة وبينها «العاصفة تهب مرتين» و«مذكرات ممرضة» و«رحلة العمر» و«شبح الماضي» وغيرها، وكذلك صوراً لمبنى «تلفزيون لبنان» في «تلة الخياط». كما يتابع حواراً شيقاً مع الممثل جورج شلهوب في بداياته. «ثمة صور منشورة عن يوم وضع حجر الأساس لهذا المبنى في عام 1957 بحضور الرئيسين كميل شمعون وسامي الصلح. فيما نرى في مقتطفات مصورة من مقابلات وحوارات من برامج فنية كـ(أحد عالبحر) وأخرى ترفيهية خاصة بالألعاب بعنوان (ملاعب). وقد يعتري بعضها شوائب في الصوت أو في الصورة، وهو أمر طبيعي لأنّنا حوّلناها من شرائط (في إتش إس) إلى (ديجيتالـ)».
رحلة عبر تاريخ «تلفزيون لبنان» وفي حياة جان كلود بولس، ونجاحات حصدها على مدى سنوات طويلة، توفرها هذه اللفتة التكريمية له في الذكرى العاشرة لرحيله. وتختم جوزيان لـ«الشرق الأوسط»: «هو عمر أتذكره بحنين كبير منذ دخول الشاشة الصغيرة إلى بيتنا آتيةً من عالم الألوان بعد فترة من (الأبيض والأسود)، ومروراً بمشاركتي لـ(جي سي) في تقديم البرامج، وصولاً إلى وجوه حفظتها كغيري من اللبنانيين أمثال الراحل رياض شرارة والمذيعة المتألقة غابي لطيف. فهذه اللفتة لا تنحصر بذكرى والدي فقط، بل أيضاً تخص (تلفزيون لبنان)، الذي رأى النور في السادسة والنصف من مساء 28 مايو (أيار) من عام 1959».