شيا لابوف ارتدى كيسا فوق رأسه.. وفون ترايير أهمل الصحافة

(«الشرق الأوسط») في مهرجان برلين السينمائي ـ 4: «ألف ليلة وليلة» بثلاثة أبعاد يلوح في الأفق

من «الميدان»
من «الميدان»
TT

شيا لابوف ارتدى كيسا فوق رأسه.. وفون ترايير أهمل الصحافة

من «الميدان»
من «الميدان»

في عصر غابر، كان «نيمفومانياك» لن يعدو أكثر من فيلم «بورنو» متوسط القيمة نظرا لاحتوائه على كثير من المشاهد غير الإباحية. في عصر انقلبت فيه الموازين، لا يستطيع مخرج ما تقديم فيلم إباحي في عرض رسمي بمهرجان دولي، بل تقديم فيلم إباحي في عرض رسمي بمهرجان دولي بمستوى فني ضحل.
«نيمفومانياك» (أو «شهوانية») الذي عرض يوم الأحد وصل محاطا بكثير من الاهتمام. الحاضرون، نحو ألف في كل عرض، كانوا يدركون مسبقا ما الذي سيشاهدونه، لكن ما لم يكن معروفا أو متوقعا أن يكون الفيلم مجرد عذر لإبقاء مخرجه لارس فون ترايير حاضرا في الأذهان. ما الذي حدث لترايير «أوروبا» و«كسر الأمواج» و«وباء»؟
الدقائق الخمس الأولى، تلك التي تمسح فيها الكاميرا جدرانا جرداء كئيبة في زقاق ضيق تحت مطر يهطل مثل أسيد ناتج عن سحاب موبوء، هي كل ما تبقى من ماضي هذا المخرج. بعد ذلك «نيمفومانياك» هو فيلم حول امرأة شهوانية وجدها رجل مثقف اسمه سيليمان (ستيلان سكارسغارد) ملقاة على الأرض فينقلها إلى غرفة في بيته (يتميز بدوره بجدران كئيبة وعارية) وتبدأ هذه بحكاية قصتها منذ أن كانت فتاة صغيرة وكيف أصبحت امرأة شهوانية لا تطيق الابتعاد عن الرجال.
ولا تلبث الصور أن تقترن بالحوار فنشاهدها (تؤديها كفتاة شابة البريطانية ستاسي مارتن) تنتقل من رجل إلى آخر.. ليس لأنه ليست هناك قصة في خلال ذلك، لكن ما هو أكثر وضوحا، ومن دون أي موقف شخصي أخلاقي أو سواه، هو تبرير لمشاهد إباحية تماما على غرار ما فعله عبد اللطيف كشيش في «حياة أديل» الذي عرض في «كان».
«كان» كان طرد المخرج فون ترايير قبل عامين وعده «غير مرغوب به»، ليس لأنه بات يصنع أفلاما ركيكة، بل لأنه قال في مؤتمره الصحافي: «ماذا لو كنت نازيا؟ أعتقد أنني نازي». كلام كبير من شخص كان بدأ مؤتمره ذاك بالقول: «أنا أعظم مخرج حي. أليس كذلك؟». لارس فون ترايير لم يفوت الفرصة هنا للنيل من «كان» على طريقته، فظهر أمام العدسات بقميص «تي شيرت» عليه شعار «كان» وتحته: «شخص غير مرغوب فيه».
قانونيا، لا يحق لأحد استخدام شعار «كان» على أي منتج أو حتى في صحيفة من دون إذن، لذلك قد يتلقى المخرج المتعِب قريبا إشعارا برفع قضية ضده.. لكنه لا يبدو قلقا على الإطلاق، وهو ظهر أمام كاميرات المصورين قبل انعقاد المؤتمر الصحافي بخصوص فيلمه هذا بدقائق. لكن بدل أن يتوجه لقاعة المؤتمر عاد أدراجه إلى الفندق.
في ذلك الحين كان الممثل شيا لابوف (الذي يؤدي دورا بارزا هنا) قد وصل مع باقي ممثلي الفيلم وبينهم كريستيان سلاتر وشارلوت غينسبورغ وستايسي مارتن وأوما ثورمان وستيلان سكارسغارد. وبعد أقل من 10 دقائق استقبل السؤال الأول: «هل كانت لديك خشية من تمثيل مشاهد جنسية؟».
رد قائلا: «عندما يلاحق النورس مركب صيد، فلأنه يعتقد أنه سيلقي بحمولته من السردين في البحر». ثم نهض من مكانه وغادر القاعة وسط ذهول الحاضرين.
عمليا لم يقل شيئا على الإطلاق، فالعبارة مأخوذة عن أخرى قالها لاعب الكرة الفرنسي إريك كانتونا في مؤتمر صحافي عقد سنة 1995. ربما عنيت شيئا هناك، لكنها لم تعن شيئا في المؤتمر الذي بدا فيه لابوف متوترا من البداية.
بعد ساعات، عندما حان العرض المسائي للفيلم (الذي كان عرض ظهرا للصحافة) أحدث لابوف رهجة أخرى: وصل بثياب الاسموكن وفوق رأسه كيسا ورقيا كتب عليه: «أنا لم أعد مشهورا». مر بعدسات المصورين من دون توقف ودخل والكيس (المثقوب أمام عينيه) إلى الصالة حيث جلس في مكانه ليتابع الفيلم.

حاشية عاطفية
«نيمفومانياك» يتخذ شكل حكايات «ألف ليلة وليلة» فشارلوت غينسبورغ تتحدث طوال الليل عن مغامراتها، وكلما بدأت جزءا جديدا منها نقلتنا الكاميرا إلى ذلك الجزء لتصويره. لكن ما تتناوله من مغامراتها الخاصة يفتح نافذة كبيرة أمام أولئك الذين سيحاولون الربط بين الفيلم وتفسيرات فرويد النفسية. فون ترايير يضع بطلته على السرير لتقص على مثقف يهودي (كما كان فرويد) حكايتها. فرويد الجديد يجلس على كرسي متلهفا لسماع الحكاية ومتدخلا عن طريق شرح بعض ما يبدو قد التبس على الراوية من أمور.
ما كان ينقص الفيلم المؤلف من 147 دقيقة (هناك نسخة أقصر للصالات التجارية) هو حاشية عاطفية ما تحمل قضية يمكن اعتبارها بيت القصيد. هذه المرأة ليس لديها أي شيء فعلي في حياتها الخاوية باستثناء حكايات من الجنس الميكانيكي الذي تسترعي اهتمام سامعها الأول سيليمان.
ليس كل الممثلين يظهرون عراة ويمارسون الجنس (يؤدي كريستيان سلاتر دور الأب العطوف الذي يفهم في الشجر ويلاحظ أوراقه المتباينة) وأوما ثورمان في دور زوجة غيور، وهناك بالطبع سكارسغارد في دور المستمع المسن.
بعد نصف ساعة يتبدى بوضوح أن ما يريد المخرج تقديمه ليس مهمّا في الواقع لأن طريقة تقديمه ليست مقرونة بقيمة فنية (ناهيك بأخلاقية).
لكن «ألف ليلة وليلة» حقيقي مختلف ومتمتع بفانتازيا الحكايات العربية في أوج جاذبيتها، وبات من بين المشاريع المطروحة بحماس في سوق الفيلم هنا، «ليالي عربية» هو فيلم جديد من تلك التي تتمتع بميزانية ضخمة بعدما وافقت الحكومة الصينية على الاشتراك في تمويله مع هوليوود. الفيلم الذي سينطلق للتصوير في منتصف هذه السنة من بطولة ليام همسوورث، ذاك الذي يشارك فيه جنيفر لورانس بطولة سلسلة «ألعاب الجوع»، سيصور في بعض سهوب الصين وصحرائها بنظام الأبعاد الثلاثة.

نجاح ألماني
داخل المسابقة توالت العروض، ومن بين الأفضل إلى الآن بضعة أفلام ألمانية بينها فيلم آخر طويل (170 دقيقة) بعنوان «الشقيقتان المحبوبتان» للمخرج العائد بعد انقطاع دومونيك غراف.
دراما تاريخية تدور حول الكاتب فريدريك شيلر وعلاقته المضطربة مع شقيقتين تزوج إحداهما وعشق الأخرى، وذلك من بعد التمهيد لتقديم الشقيقتين المتحابتين منذ الصغر ونشأتهما معا، ثم اضطرار إحداهما الزواج من ثري لإنقاذ العائلة من الإفلاس. عند هذه النقطة من حياتها التقت بالكاتب شيلر الذي حل في قصر العائلة ضيفا وتسلل سريعا إلى قلبي الشقيقتين. فازت به المتزوجة إلى أن ترك القصر واستقر في منزل منفصل ليتزوج من شقيقتها وينجب منها، لكن من دون أن يتوقف عن لقاء الشقيقة، مما يسبب حرجا للجميع وعداوة بين الشقيقتين.
يتحرك الفيلم مثل عربة خيل متعبة تتحرك ببطء، لكن هذه العربة تحمل فوقها بذخا ملحوظا في التصاميم الفنية والتفاصيل التاريخية كاشفة عن مخرج يعير الواقعية اهتمامه الكبير.
فيلم ألماني آخر نال إعجاب النسبة الغالبة من المشاهدين هو «محطات الصليب» للمخرج دييتريش بروغنمان. هذا يدور حول فتاة في الرابعة عشرة من العمر (تؤديها جيدا لي فان آكن) تقف على مفترق طرق في سن حرجة.. من ناحية تنتمي لعائلة كاثوليكية محافظة ومن ناحية أخرى لديها رغباتها العاطفية. الأمر لا ينحصر في تلك الرغبات، بل في أن كل ما تريد الفتاة، واسمها ماريا، القيام به عليه المرور في فلتر التقييم الديني لينال رضاه أو رفضه. بعد حين تشتد عليها الأزمة؛ إذ تفقد بوصلة معرفة الصح من الخطأ.

كسل أميركي
أميركيا، جاء فيلم جورج كلوني «رجال النُصب» مخيبا للآمال. الفيلم الذي يتولى التأكيد على أنه مقتبس من أحداث حقيقية مع اللحظة الأولى للفيلم، يشتغل كما لو كان الموضوع هين جدا. هناك كسل في إخراج هذا الفيلم، وفي الوقت ذاته نقص في أكسجينه. المشاهد تتوالى مكتفية بإيحاءاتها من دون تفعيل حقيقي، ومن دون روح في بعض الأحيان. كلوني الذي أنجز أربعة أفلام سابقة مخرجا، كل واحد منها أفضل من هذا الفيلم، وبعضها أفضل بكثير، ربما قصد أن يقدم فيلما يدور في رحى الحرب (أو ما تبقى منها) من دون أن يكون حربيا. عظيم. لكن هذا وحده ليس ضمانة لعمل جيد.. في أفضل أحواله، هو مجرد اختيار.
في البداية، نرى جورج كلوني يخاطب الرئيس الأميركي وبعض أعوانه طالبا منهم السماح له بتشكيل فرقة من علماء الآثار واللوحات الفنية (ستة أفراد) للسفر إلى أوروبا للبحث عن تلك اللوحات المسروقة من قبل المحتلين النازيين. الموعد مناسب لأن النازيين كانوا بدأوا يولون الأدبار من المساحات الهائلة من أراضي الدول الأوروبية الأخرى التي استولوا عليها في السنوات الثلاث الأولى من الحرب العالمية الثانية. يوافق الرئيس على الطلب، وها هو كلوني، الذي يتمتع بلياقة بدنية جيدة، يؤلف فريقه: هوي بونفيل، مات دامون، بيل موراي، جان دوجاردان، جون غودمان وبوب بالابان ولاحقا ينضم ديمتري ليونيداس إلى الفريق. يصلون إلى النورماندي بعد التحرير، لكن لا يمكن ملاحظة أن هذا النزول هادئ أكثر من اللزوم، كما لو أن المجموعة حطت في سياحة على أحد سواحل هونولولو. يوزع رئيس الفريق (كلوني) المهام مقسما الفريق إلى ثلاثة.. يرينا على الخريطة أين سيتوجه كل فريق وماذا يتوقع له أن يجد.
تتوقع أن يبدأ الفيلم هنا.. السعي لإعادة اكتشاف اللوحات الثمينة لكبار الفنانين لا يمكن أن يكون نزهة سياحية حتى ولو أن الأحداث تقع بعد الأيام الأولى لاندحار القوات النازية عن بعض الأراضي الفرنسية.. نعم، هناك مشهد لجون غودمان وجان دوجاردان يكتشفان فيه أنهما محاطان بمجموعة من الجنود الألمان.. عظيم.. هل ننتظر معركة؟ نعم. هل تقع؟ لا. في مشهد آخر هناك رصاص قناص يطلق باتجاه بوب بالابان وبيل موراي. يدخل موراي المبنى الذي يتحصن فيه القناص. هل من معركة؟ لا. القناص ليس سوى صبي مرتعد. معالجة هذين المشهدين تخفق في إثارة الاهتمام. كلاهما «ضد الذروة» Anti Climax في فيلم هو بدوره ضد الذروة كما لو أن المخرج ضاع فوق خارطة فما عاد يعرف أي نوع من الأفلام هذا الذي بصدد إخراجه. الجزء الأكبر من هذا الفقدان للبوصلة كامن في سيناريو يحكي قصة ولا يجيدها ثم لا يحكي سواها. بعض المشاهد توفر صورا كاريكاتورية لشخصياتها. لا شيء جادا (ناهيك بناجح) يمكن أن ينتج عن بيل موراي وهو يمثل شخصيته المعتادة أو جون غودمان وهو يكاد لا يستطيع النهوض عن الأرض بسبب ثقل وزنه، ولا بوب بالابان الذي يبدو أكبر سنا من أن يشترك في مغامرة كهذه.

والأسوأ الأرجنتيني
الأسوأ منه (ومن أي فيلم آخر) فيلم أرجنتيني عنوانه «تاريخ الخوف» لمخرج جديد اسمه بنجامين نيشتات. فيلم ممل وطويل رغم قصر مدته نسبيا (79 دقيقة)، غير مترابط لا موضوعا ولا تسلسل أحداث ولا حكاية أو شخصيات.. يشبه كثيرا وضع شخص يرتب صورا شخصية في التسلسل الذي يريد فإذا بمشهد لسيارة بوليس تتوقف لمعالجة جرس إنذار في بيت ما يليه مشهد لامرأة تكنس الأرض ويغمى عليها، لننتقل بعد ذلك إلى مشهد لأولاد يرمون ألعابا نارية وسط الكلاب في الحديقة، ثم إلى مشهد إخباري حول تعرض رجال بوليس لسيل من النيران.. أين هو الحدث الرابط بين ما نراه؟ أمر لا يستطيع أحد معرفته وسيكون من الغريب إذا ما كان للمخرج تفسير مقنع. البعض ربما عد ذلك فنّا، لكن الواقع هو أنه ليس أكثر من تكريس لجهل واضح في تحقيق فيلم متكامل.
على ذلك، سنجد أن مؤسسة السينما القطرية وضعت مشروع المخرج المقبل (ما زال بلا عنوان) ضمن 20 مشروعا ستمولها أو ستشارك في تمويلها. ليس معروفا على أي أساس جرى هذا الانتقاء (وماذا عن باقي المشاريع إذا ما كان الاختبار على هذا النحو)، لكن المعروف أن هذا المشروع، وغالبا أي مشروع آخر، لن يبرح شاشات بعض المهرجانات الثانوية بعد ليلة أمس.

«الميدان» بلا ميزان

> عرض مهرجان برلين قبل يومين فيلم جيهان نجيم المرشح للأوسكار في قسم السينما التسجيلية وعنوانه «الميدان». سبق للمخرجة أن حققت فيلم انطلاقتها عن محطة «الجزيرة» بعنوان «غرفة الكونترول» الذي نفذت منه للحديث عن الغزو الأميركي للعراق وكيف أن مكتب المحطة في بغداد كان مستهدفا في حد ذاته. هنا لا حديث عن «الجزيرة» ولا موقفها السلبي حيال الثورة المصرية منذ بدايتها ولا كيف تحمست لوصول عضو الإخوان المسلمين محمد مرسي إلى الحكم، ثم انضمت إلى أولئك المحتجين على قيام الجيش بخلعه من الحكم بموافقة شعبية زادت نسبتها على الـ51 في المائة التي أوصلت مرسي إلى الحكم.
لا يثير هذا الجانب هم المخرجة نجيم، بل تحاول في نحو ساعتين الإلمام بمسيرة الحياة السياسية من وجهة نظر الشارع الموحد في البداية والمنقسم لاحقا. تنطلق من الميدان وتنتهي إليه بعد ثلاث سنوات من الثورة.. تنطلق بالمرور سريعا على بداية الثورة التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس مبارك، وقد يكون السبب في ذلك أنها وجدت العديد من الأفلام الوثائقية سبقتها إلى خوض غمار هذا الموضوع، ولأنها تريد وقتا أطول لمتابعة الأحداث التي لا تتوقف.
بعد مبارك تصور نبض الشارع السعيد بذلك، ثم تبدأ المخرجة مرحلتها الأصعب وهي تقديم (وإبراز) وجهة النظر في الفترة التي تلت ذلك مباشرة والتي مارست فيها السلطة العسكرية الحلول العنيفة ذاتها التي اعتمدها حكم مبارك قبل سقوطه. هذا ما يدلف بها إلى بداية الحس العام بأن حزب الإخوان المسلمين يعملون لجانب العسكر على تفريغ الثورة من مضامينها واستغلال الفترة الحرجة للتمكن من احتلال البرلمان ثم الوصول بمحمد مرسي إلى الرئاسة.
مجال الفيلم الزمني، بعد ذلك، ضيق للتعريف الكامل بدور الإخوان المسلمين في دفع البلاد إلى الهاوية والهيمنة على شرايين الحياة على نحو ديكتاتوري شامل. تختصر المخرجة كل ذلك بتقرير قصير حول كيف تصرف مرسي حال تسلمه كرسي الرئاسة وكيف عادت جموع الشعب، بالملايين منه، لإعلان حكمها السريع ضده مما أدى إلى عزله وإلقاء القبض عليه. لكنها لا تلومه ولا تظهر الضراوة التي حاول بها التمسك بالسلطة وخروج أزلام الحزب لمهاجمة المعارضين له.
في المقابل، وعلى العكس من ذلك، تفرد معظم الوقت لتناول الكيفية التي واجه بها الحكم العسكري، حال خلع الرئيس السابق حسني مبارك، ثوار الميدان المطالبين برحيل الحكومة العسكرية. هذا اللاتوازن يسجل على الفيلم الذي يدعي أنه متوازن، وهذا الادعاء يتخذ شكل الحديث عن الثورات الثلاث متوالية: ضد حكم مبارك (نحو عشر دقائق)، وضد سلطة العسكر، ثم ضد حكم الإخوان (نحو ربع ساعة).
جرى تصوير الفيلم على مراحل. النسخة التي شوهدت في مهرجان «صندانس» في مطلع العام الماضي لم تضم دحر الثوار حكم الرئيس الإخواني، هذا جاء لاحقا. من حيث مستوى العمل، لا ريب أن المخرجة تعرف كيف تخلق للمادة المصورة حضورها الصحيح. بعض المشاهد موزعة على النحو الصحيح تماما لكي تعبر عن المرحلة في مونتاج جيد وواع لطبيعة النظرة البانورامية التي تبغيها المخرجة. في هذا الصدد هو فيلم جيد، وما شوهد من أفلام تسجيلية أخرى من تلك المنافسة على الأوسكار يشي بأن المنافسة ستكون كبيرة.



«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».