حروف الخط العربي ولقطات الكاميرا يطلقان معرض «حروف وإضاءات»

بالتعاون مع المتحف الريطاني.. وأغوات المدينة المنورة يخطفون الأبصار

من مجموعة «قطعة من الجنة» للفنانة أروى النعيمي
من مجموعة «قطعة من الجنة» للفنانة أروى النعيمي
TT

حروف الخط العربي ولقطات الكاميرا يطلقان معرض «حروف وإضاءات»

من مجموعة «قطعة من الجنة» للفنانة أروى النعيمي
من مجموعة «قطعة من الجنة» للفنانة أروى النعيمي

مع نهاية احتفالات المدينة المنورة بالعام الذي توجها عاصمة للثقافة الإسلامية، لم يكن هناك ختام أجمل ولا أوقع ولا أكثر إجلالا للمدينة من المعرض الذي افتتح أول من أمس، بعنوان «حروف وإضاءات»، الذي يجمع بين فنون الخط العربي وتطورها، والصور الفوتوغرافية التي أرّخت وسجلت تاريخ المدينة المنورة. المعرض تنظمه إمارة منطقة المدينة المنورة بالتعاون مع المتحف البريطاني، بمقر النادي الرياضي بفندق مريديان المدينة المنورة.
في البداية، يجب القول إن المعرض ضخم ويحمل الكثير من الأعمال الفنية والفوتوغرافية والوثائق التاريخية، وكل منها يستحق التوقف أمامه والتمعن فيه بشكل خاص. الجولة الأولى تعطي انطباعا عاما يمكن اختصاره بأنه «جرعة مكثفة من خليط الفن والتاريخ والروحانية»، ولكن بعد تلك الجرعة يحتاج الزائر إن استطاع أن يعود مرة أخرى، للاستمتاع أولا ثم لقراءة الشرح المرافق لكل عمل واستيعاب التاريخ الذي يبطن كل صورة فوتوغرافية التقطت للمدينة المنورة وكل وثيقة تاريخية صورتها، ابتداء من أول صورة التقطت لمدينة الرسول الكريم وحتى الصور الحديثة التي التقطها المصور البرازيلي أمبرتو دي سيلفيرا ولقطات معاصرة بعدسات فنانين سعوديين.
المعرض يقام بالتعاون مع المتحف البريطاني، وهي المرة الأولى للمتحف العريق في السعودية.
الحدث ينقسم إلى جزأين، أو لنقل معرضين، يمكن للزائر البداية عبر الصور الفوتوغرافية «إضاءات» على يمين المدخل أو يمكنه الانطلاق من الحرف العربي على اليسار لينغمس في معرض «حروف» الذي يحمل نماذج متعددة من لوحات الخط العربي، متدرجة من اللوحات التقليدية منتهية بأعمال فنانين عرب وعالميين استخدموا الخط والحرف كأداة ووسيلة للتعبير الفني. منهم فرهاد مشيري من إيران، عبد القادر الريس من دبي، حسن مسعودي من العراق، ناصر السالم من المملكة العربية السعودية، فؤاد كويتشي هوندا من اليابان، الحاج نور الدين موقوانغ جيانغ من الصين، ومن تونس نجا مهداوي، ومن أذربيجان رشاد الاكباروف.
صالح بركات أحد المنسقين لمعرض «حروف» يشير إلى أن الجزء الأول من معرض «حروف» يقدم تحية لمعلمي الإجازة السعوديين: «الخطاطون الكلاسيكيون أمثال ناصر الميمون وعبد الرحمن أمجد، برأيي هم فنانون لم يأخذوا حظهم». ومن تلك الأعمال نمضي إلى قاعة مجاورة تعرض أعمالا فنية حديثة. يستكمل بركات شرحه: «في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بدأ استخدام الخط العربي كفن خارج وظيفته الكلاسيكية وهي كتابة القرآن. فنرى هنا أعمالا لأساتذة مثل شاكر حسن آل سعيد؛ حيث استخدم الخط لخدمة اللوحة الفنية حسب اتجاهاتهم المختلفة». يتوسط القاعة تكوين بديع لشجرة من الأحرف المتدلية المطلية باللون الذهبي والفضي، العمل الذي يحمل عنوان «شجرة الحياة» للفنانة الكويتية فرح بهبهاني يخطف النظر؛ فبمجرد دخول القاعة يصبح العمل هو النقطة المحورية نبدأ به ثم ننتقل إلى باقي الأعمال المعروضة لفنانين عمالقة أمثال أحمد مصطفى الذي نرى من أعماله «جنود بدر المجهولون» من مقتنيات هشام أحمد علي رضا، ثم ننتقل لأعمال الفنانين برويز تنافولي ومحمد إحساي ثم شاكر حسن آل سعيد وضياء عزاوي من العراق. ومن أعمال الفنان التونسي نجا مهداوي أيضا نرى الطبول التونسية التي تحمل تشكيلات بديعة من الحروف قد لا تحمل معنى محددا ولكن الفنان يحمل الحروف معاني جمالية بصرية تحملها إلى أبعد من مدلولات الكلمة. الطبول أيضا ترمز إلى الاحتفالات الدينية في تونس حيث تستخدم الإيقاعات والأغاني بكثرة، ويحمل المنشدون الطبول بتعليقها على الكتفين باستخدام أحزمة جلدية. طبول مهداوي هنا معلقة في الفضاء تحمل الزائر على تخيل وسماع النغمات ووقع العصي عليها، بشكل ما تخلق الطبول حالة احتفالية خاصة تميز عمل المهداوي.
هناك أيضا أكثر من عمل للفنان السعودي الشاب ناصر السالم، تتميز ببساطتها وعمقها في ذات الوقت، منها: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» هي على شكل متاهة تنفرج مع آخر حرف في كلمة «مخرجا»، الجميل في أعمال السالم هو استخدامه لمواد مختلفة، من الخشب إلى لمبات النيون إلى الإضاءة، كل الأدوات طيعة في يده، وهو ما يجعل أعماله متجددة ومدهشة في آن واحد.
يأخذنا بركات إلى عمل الفنانة اللبنانية كارلا سالم، الفنانة تمزج ما بين تقنيات الخط الياباني والخط العربي، عبر عملية طويلة وشاقة قامت بتكوين كلمات عربية مثل «قمر» و«شمس» على جذع شجرة. الناتج النهائي يقدم توليفة متفردة ومختلفة.
من جانبها، تعلق فينيشيا بورتر رئيسة قسم الشرق الأوسط في المتحف البريطاني والمنسقة المشاركة للجزء الأول من المعرض (حروف): «الفكرة هنا أن نركز على فن الخط، أردنا الابتعاد بالمعرض عن معرض مماثل أقامه المتحف البريطاني منذ عدة أعوام ولهذا حرصنا على استعارة قطع جديدة ومختلفة».
من الكلاسيكي إلى المجرد، تشير بورتر إلى الأعمال التي تستخدم الخط العربي بشكل مختلف: «هنا نرى فنانين يستخدمون الحرف والكلمة بشكل أكثر تجريدا. وفي قسم ثالث نرى فنانين يكونون الحرف بأساليب غير تقليدية فيتخلون عن القلم والحبر ويلجؤون إلى الضوء والظلال والتجسيد، مثل عمل الفنانة الكويتية فرح بهبهاني التي كونت شجرة من الحروف العربية المتدلية أو الفنان الأذربيجاني رشاد الاكباروف «نور» والذي يستخدم تكوينات متشابكة من الأسلاك المتينة ويسلط عليها الضوء بطريقة معينة لتعكس الإضاءة كلمة «نور» على الحائط المقابل.
تعلق «بشكل ما نرى كيف تأثر الفنانون بفن الخط، وكيف استخدموه لتكوين أعمال فنية جميلة».
من الجوانب الجميلة في المعرض أيضا هي مشاركة جامعي الأعمال الفنية في السعودية بإعارة مقتنياتهم، مثل مؤسسة المنصورية ومقتنين أفراد أمثال سارة علي رضا وفيصل تمر ومحمد حافظ، إلى جانب الفنانة شادية عالم التي أعارت المعرض أحد أعمالها. وإلى جانب المقتنين السعوديين استعار المعرض مقتنيات من لبنان ودبي. كما قدم المتحف البريطاني عددا من الأعمال من حوزته وبعض الأعمال التي قدمت من خلال معرض «من كلمة إلى فن» الذي أقيم في لندن عام 2006.

«إضاءات».. التعبير عن الجلال والجمال بالكاميرا

من معرض الحروف ندلف إلى القاعات المجاورة والتي ضمت مجموعة هائلة من الصور الفوتوغرافية للمدينة المنورة، تنوعت من أقدم الصور التي التقطت للمدينة حتى لقطات بارعة للمدينة لفنانين سعوديين مرموقين منهم أحمد ماطر، عبد الناصر الغارم، أروي النعيمي، عادل قريشي، وفيصل المالكي. الذين استخدموا فن التصوير الفوتوغرافي كوسيلة للتعبير الفني، وتمحورت أعمالهم حول دراسات مصورة للمسجد النبوي الشريف والحجاج وآثار المنطقة ومناظرها الطبيعية بالإضافة إلى صور جوية للمدينة المنورة.
يجب القول إن هناك مفاجأة كامنة في المعرض تنتظر الزائر، وهي مفاجأة قيمة تحمل ندى وعبق تاريخ خاص بالحرم النبوي نستنشقه عبر مجموعة من صور «البورتريه» لآخر الأغوات في الحرم النبوي بعدسة المصور وجامع التحف عادل قريشي. الصور مدهشة بمعنى الكلمة، عبر كل بورتريه نجد أنفسنا أمام قطعة حية من تاريخ الحرم الشريف، الوجوه حاضرة بقوة والنظرات ثاقبة، ولكنها أيضا تخفي الكثير، فالأغوات لا يتحدثون كثيرا عن عملهم في الحرم والروضة الشريفة، يحملون معهم تاريخا لا يعرفه سواهم. وربما تكون هذه الصور هي آخر تسجيل لوجودهم إذ إنهم آخر الأغوات، نعرف أيضا أن أحدهم قد توفي منذ فترة قريبة. لا يمكننا الحديث مع المصور الذي نجح في استقطاب الزوار واختار التواري عن الأضواء، لكننا نكتفي بنتاج عدسته، فقد فتح لنا بابا أمام فصل غامض من تاريخ الحرم الشريف، قد لا نستطيع قراءته بتفاصيله ولكن بالتأكيد أحسسنا به وسنحمله معنا خلال تجولنا في باقي أرجاء المعرض. نلتفت أيضا إلى إطار قريب من صور الأغوات، وهي صورة لصفحة من كتاب «مرآة الحرمين» لإبراهيم باشا من القرن الـ18 وفيها نرى صورة لاثنين من الأغوات في طفولتهم مما يخلق رابطا قويا يعيدنا إلى مجموعة عادل قريشي مرة أخرى، هل نستطيع رؤية تطور الشخصيات عبر الصور القديمة والحديثة؟ هل يشبه أحد هؤلاء الأطفال في الكتاب أيا من الأغوات الكهول في الصور الحديثة؟ لا نعرف. لكن ذلك لن يشغلنا كثيرا، فالصور تحمل جاذبية خاصة لا تبالي بالتحليل، هي حاضرة بقوة أمامنا وهذا ما يهم.
ومن الصور الفوتوغرافية نلتفت لنجد أنفسنا أمام بوابة خشبية ضخمة منقوشة بزخارف جميلة، تبدو كصرح خشبي يطل على الصور القديمة للمدينة وكأنه خرج من إحدى الصور ليقدم للزائر قطعة محسوسة من تاريخ المدينة في القرن الماضي. يقول عنها محمد الإدريسي المشرف على المعرض: «إنها بوابة أحد البيوت العتيقة في المدينة (بوابة بيت عائلة الخريجي) التي نجح أحد الأصدقاء في إنقاذها من الهدم في عام 1972 واحتفظ بها».
من الأعمال النادرة أيضا يشير الإدريسي إلى «لوحة قديمة (1825) بانورامية للمدينة رسمها حاج تركي «رسمت بأسلوب إيطالي متأثر بالرسام العالمي كانيلوتو» إلى جانبها نرى خريطة بدائية للمدينة نرى فيها الأسوار والمزارع المحيطة.
في إحدى القاعات المجاورة تفاجئنا المصورة السعودية أروى النعيمي بمجموعة من الصور التي التقطتها لسقف الروضة الشريفة، تبدو اللقطات لأول وهلة وكأنها رسومات ملونة، وبالاقتراب أكثر نتبين أنها صور فوتوغرافية تطلق عليها الفنانة عنوان «قطعة من الجنة»، نسبة إلى الروضة الشريفة. لا توفيها الكلمات حقها، فهي لقطات بارعة قد لا نراها لدى زيارتنا للحرم ولكن عين المصورة استطاعت التقاطها ببراعة هي ولقطة أخرى للوحة زيتية للمدينة المنورة أعلى الحائط أمام الحجرة النبوية.
في جولتنا نرى صورا أخرى للفنان أحمد ماطر يسجل من خلالها لقطات بديعة وجليلة لقباب الحرم ومئذنة السلطان قايتباي، ولقطة لصلاة العيد. وهناك أيضا مجموعة من الصور من مؤسسة آمين وأتيليه عبد الناصر الغارم، هي لقطات جميلة لأجواء المدينة والحرم الشريف.
يجب القول هنا إن الجانب المصور من المعرض «إضاءات» يكمل المعادلة التي بدأها الحرف في الجزء الأول، ويمكن أيضا تخيله في معرض منفصل يجوب المدن السعودية والعربية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)