«الاعتداد الزائد بالنفس»... أهم سمات الشخصية ذات الكفاءة المتدنية

ظاهرة نفسية يدرسها العلماء تجتذب فضول الجمهور

«الاعتداد الزائد بالنفس»... أهم سمات الشخصية ذات الكفاءة المتدنية
TT

«الاعتداد الزائد بالنفس»... أهم سمات الشخصية ذات الكفاءة المتدنية

«الاعتداد الزائد بالنفس»... أهم سمات الشخصية ذات الكفاءة المتدنية

ما سبب الثقة الكبيرة التي يتمتّع بها الأشخاص قليلو الكفاءة؟ ولماذا تجتذب هذه الظاهرة النفسية الفضول لدى أفراد الجمهور على مواقع الإنترنت؟ الجواب: صعود شخصيات على مسرح الأحداث لا تتمتع بالخبرة الكافية إلا أنها شديدة الاعتداد بقدراتها.
لعلّكم حضرتم هذا المشهد في العمل أثناء الاختلاط بالأصدقاء أو في عشاء أحد الأعياد مع العائلة الكبيرة: شخص يملك معرفة متواضعة جداً في موضوع يدّعي أنّه يعلم الكثير عنه، ويتبجّح حتى بأنّه خبيرٌ فيه.
اعتداد وقلة كفاءة
أطلق على هذه الظاهرة اسم «تأثير دانينغ - كروغر» Dunning - Kruger effect... وهي ليست مرضاً ولا متلازمة ولا اضطراباً نفسياً، بل إنها حتّى موجودة لدى الجميع بنسب متفاوتة منذ ظهور الإدراك البشري، إلّا أنّ دراستها وتوثيقها في علم النفس الاجتماعي لم يبدآ إلّا حديثاً.
جمع العالمان ديفيد دانينغ وجاستن كروغر في ورقة بحثية نشراها عام 1999 في دورية «برسوناليتي أند سوشل سايكولوجي» بيانات لأقوال فلاسفة عدّة منذ سقراط، وأبرزها أنّ «الحكمة الحقيقية الوحيدة هي: معرفة أنّك لا تعرف شيئاً». وفي عام 1871. عزّز تشارلز داروين هذه الحكمة بقوله إنّ «الجهل غالباً ما يعزّز الثقة أكثر من المعرفة».
باختصار، يعتقد الأشخاص غير الكفوئين أنّهم يعرفون أكثر مما يعرفون حقاً ويميلون إلى التباهي أكثر بهذا الأمر.
لاختبار نظرية داروين تلك، أخضع الباحثون بعض الأشخاص لاختبارات في مواضيع مختلفة كالقواعد اللغوية والتفكير المنطقي والفكاهة. وبعد كلّ اختبار، طلبوا من المشاركين تقييم أدائهم وتحديد عدد المشاركين الذين يعتقدون أنّهم تفوّقوا عليهم.
تفاجأ دانينغ وكروغر بالنتائج رغم أنّها جاءت لتؤكّد نظريته. مرّة بعد مرّة، وعلى اختلاف مواضيع الاختبار، أعطى المشاركون الحاصلون على أدنى الدرجات... أعلى تقييم لكفاءتهم. إذ أظهر البحث أنّ المشاركين الذين لم تتجاوز كفاءة أدائهم نسبة 10 في المائة صنّفوا أنفسهم مع الذين تجاوزت كفاءة أدائهم 70 في المائة... وكان هؤلاء من بين الأقل معرفة بالموضوع الذي يعتقدون أنّهم كثيرو المعرفة فيه بل وحتّى خبراء.
حصل دانينغ وكروغر على النتائج نفسها في 10 مجالات مختلفة تقريباً من بينها الرياضيات وتذوّق النبيذ والشطرنج والمعرفة الطبية بين الجراحين، وسلامة الأسلحة النارية بين الصيّادين.
سجّل الاهتمام بتأثير دانينغ - كروغر تزايداً كبيراً خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة والأشهر التي تلت دخول الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض. فقد وصلت عمليات البحث عن «دانينغ - كروغر» على محرّك «غوغل» إلى ذروتها في مايو (أيار) 2017. بحسب «غوغل ترندز»، وبقيت مرتفعة منذ ذلك الحين. وسجّل الاهتمام بالتأثير نفسه على موسوعة ويكيبيديا رقماً قياسياً منذ أواخر عام 2015.
ولفت دانينغ إلى أنّ النشاط البحثي حول هذا التأثير أصبح اليوم أكبر بكثير مما كان عليه مباشرة بعد نشره، مع العلم أنّ الاهتمام بموضوعٍ بحثي ما يرتفع عادة في السنوات الخمس التي تلي أي دراسة رائدة ومن ثمّ يتلاشى. وأضاف دانينغ أنّ «الأمر على ما يبدو له علاقة بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وأساليب تعامل النّاس المختلفة معه».
صحيح أنّ تصريحات ترمب كانت مليئة بالمغالطات، إلّا أنّه كان يعبّر عنها بثقة هائلة. يقول ترمب إنّه لا يقرأ كثيراً لأنّه يحلّ المشاكل «بقليلٍ من المعرفة التي يمتلك الكثير منها». كما قال خلال إحدى مقابلاته إنّه لا يقرأ تقارير مطوّلة لأنّه «يعرف تماماً على ماذا تحتوي». ويستخدم هذا الرجل «أفضل الكلمات» ويستشهد «بمستويات ذكائه العالية» لرفض الإجماع العلمي حول التغيّر المناخي.
ونقلت أنجيلا فريتز الخبيرة في الإعلام في واشنطن عن ستيفن سلومان، الأستاذ المتخصص بعلم النفس المعرفي في جامعة براون، أنّ «تأثير دانينغ - كروغر يقدّم شرحاً لنوع من الغطرسة».
ظاهرة سيئة

يعتقد سلومان أنّ هذا التأثير أصبح يتمتّع بشعبية خارج عالم البحث العلمي لأنّه يعبّر ببساطة عن ظاهرة قد تكون موجودة في كلّ واحدٍ منّا، لافتاً إلى أنّ النّاس يتوقون لفهم ما يحصل من حولهم.
تخلو تداعيات تأثير دانينغ - كروغر من الأذى في معظم الأحوال. فإذا حصل وشعرتم يوماً بالثقة الكافية للإجابة على أسئلة أي امتحان، ولكن تبيّن لكم لاحقاً بعد التصحيح أنّ إجاباتكم غير صحيحة، هذا يعني أنّكم جرّبتم هذا التأثير، أي هذه الظاهرة، مباشرة.
في المقابل، يمكن لهذا التأثير أن يكون قاتلاً، ففي عام 2017، صدر بحقّ جرّاح الأعصاب السابق كريستوفر دانتش حكم بالسجن مدى الحياة لتشويهه عدداً من المرضى. وكان أحد مساعدي الجرّاح المسجون قد كتب بعد عملية فاشلة في العمود الفقري أجراها دانتش: «لقد كان أداؤه مثيراً للشفقة. كان يعمل بمستوى جرّاح مقيم في السنة الأولى أو الثانية، ولكنّه لم يكن يملك أدنى فكرة عن مدى سوء أدائه».
يقول دانينغ إنّ التأثير يمكن أن يكون خطيراً لدى الأشخاص المؤثرين الذين يتحكّمون بوسائل تؤدي إلى الضرر، إذا لم يوجد من يتحدّث بصراحة عن أخطائهم. ولفت إلى أنّ حوادث سقوط طائرات عدّة كان يمكن تفاديها لو أنّ أعضاء الطاقم تحدّثوا بجرأة مع طيّار يملك ثقة مفرطة بنفسه.
وشرح دانينغ أنّه «يصادف حالات يكون فيها بعض الأشخاص مراعين جداً للأشخاص في موقع المسؤولية»، مشدّداً على ضرورة أن نحيط أنفسنا بأشخاص لا يمانعون إخبارنا عندما نخطئ». ولكن ما الذي قد يحصل عندما يرفض الأشخاص غير الكفوئين الاعتراف بأنّهم يعانون من بعض القصور؟ هل يثق هؤلاء بمعرفتهم لدرجة رفضهم لمجرّد فكرة التحسين؟ كانت دراسة موسّعة أجراها دانينغ قد أظهرت على نحوٍ غير مفاجئ (ولكن مقلق بعض الشيء)، أنّ أصحاب الأداء الأسوأ هم غالباً الأقلّ تقبّلاً للنقد والأقل اهتماماً بفكرة تحسين الذات.


مقالات ذات صلة

رئيس «أبل» للمطورين الشباب في المنطقة: احتضنوا العملية... وابحثوا عن المتعة في الرحلة

تكنولوجيا تيم كوك في صورة جماعية مع طالبات أكاديمية «أبل» في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)

رئيس «أبل» للمطورين الشباب في المنطقة: احتضنوا العملية... وابحثوا عن المتعة في الرحلة

نصح تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة «أبل»، مطوري التطبيقات في المنطقة باحتضان العملية بدلاً من التركيز على النتائج.

مساعد الزياني (دبي)
تكنولوجيا خوارزمية «تيك توك» تُحدث ثورة في تجربة المستخدم مقدمة محتوى مخصصاً بدقة عالية بفضل الذكاء الاصطناعي (أ.ف.ب)

خوارزمية «تيك توك» سر نجاح التطبيق وتحدياته المستقبلية

بينما تواجه «تيك توك» (TikTok) معركة قانونية مع الحكومة الأميركية، يظل العنصر الأبرز الذي ساهم في نجاح التطبيق عالمياً هو خوارزميته العبقرية. هذه الخوارزمية…

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
خاص تم تحسين هذه النماذج لمحاكاة سيناريوهات المناخ مثل توقع مسارات الأعاصير مما يسهم في تعزيز الاستعداد للكوارث (شاترستوك)

خاص «آي بي إم» و«ناسا» تسخّران نماذج الذكاء الاصطناعي لمواجهة التحديات المناخية

«الشرق الأوسط» تزور مختبرات أبحاث «IBM» في زيوريخ وتطلع على أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي لفهم ديناميكيات المناخ والتنبؤ به.

نسيم رمضان (زيوريخ)
خاص يمثل تحول الترميز الطبي في السعودية خطوة حاسمة نحو تحسين كفاءة النظام الصحي ودقته (شاترستوك)

خاص ما دور «الترميز الطبي» في تحقيق «رؤية 2030» لنظام صحي مستدام؟

من معالجة اللغة الطبيعية إلى التطبيب عن بُعد، يشكل «الترميز الطبي» عامل تغيير مهماً نحو قطاع طبي متطور ومستدام في السعودية.

نسيم رمضان (لندن)
خاص من خلال الاستثمارات الاستراتيجية والشراكات وتطوير البنية التحتية ترسم السعودية مساراً نحو أن تصبح قائداً عالمياً في التكنولوجيا (شاترستوك)

خاص كيف يحقق «الاستقلال في الذكاء الاصطناعي» رؤية السعودية للمستقبل؟

يُعد «استقلال الذكاء الاصطناعي» ركيزة أساسية في استراتيجية المملكة مستفيدة من قوتها الاقتصادية والمبادرات المستقبلية لتوطين إنتاج رقائق الذكاء الاصطناعي.

نسيم رمضان (لندن)

«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
TT

«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها

قبل بضع سنوات، وجدت شانون فالور نفسها أمام تمثال «بوابة السحاب (Cloud Gate)»، الضخم المُصمَّم على شكل قطرة زئبقية من تصميم أنيش كابور، في حديقة الألفية في شيكاغو. وبينما كانت تحدق في سطحه اللامع المرآتي، لاحظت شيئاً، كما كتب أليكس باستيرناك (*).

وتتذكر قائلة: «كنت أرى كيف أنه لا يعكس أشكال الأفراد فحسب، بل والحشود الكبيرة، وحتى الهياكل البشرية الأكبر مثل أفق شيكاغو... ولكن أيضاً كانت هذه الهياكل مشوَّهة؛ بعضها مُكبَّر، وبعضها الآخر منكمش أو ملتوٍ».

الفيلسوفة البريطانية شانون فالور

تشويهات التعلم الآلي

بالنسبة لفالور، أستاذة الفلسفة في جامعة أدنبره، كان هذا يذكِّرنا بالتعلم الآلي، «الذي يعكس الأنماط الموجودة في بياناتنا، ولكن بطرق ليست محايدة أو موضوعية أبداً»، كما تقول. أصبحت الاستعارة جزءاً شائعاً من محاضراتها، ومع ظهور نماذج اللغة الكبيرة (والأدوات الكثيرة للذكاء الاصطناعي التي تعمل بها)، اكتسبت مزيداً من القوة.

مرايا الذكاء الاصطناعي مثل البشر

تبدو «مرايا» الذكاء الاصطناعي مثلنا كثيراً؛ لأنها تعكس مدخلاتها وبيانات التدريب، مع كل التحيزات والخصائص التي يستلزمها ذلك. وبينما قد تنقل القياسات الأخرى للذكاء الاصطناعي شعوراً بالذكاء الحي، فإن «المرآة» تعبير أكثر ملاءمة، كما تقول فالور: «الذكاء الاصطناعي ليس واعياً، بل مجرد سطح مسطح خامل، يأسرنا بأوهامه المرحة بالعمق».

غلاف كتاب «مرايا الذكاء الاصطناعي»

النرجسية تبحث عن صورتها

كتابها الأخير «مرآة الذكاء الاصطناعي (The AI Mirror)»، هو نقد حاد وذكي يحطِّم عدداً من الأوهام السائدة التي لدينا حول الآلات «الذكية». يوجه بعض الاهتمام الثمين إلينا نحن البشر. في الحكايات عن لقاءاتنا المبكرة مع برامج الدردشة الآلية، تسمع أصداء نرجس، الصياد في الأساطير اليونانية الذي وقع في حب الوجه الجميل الذي رآه عندما نظر في بركة من الماء، معتقداً بأنه شخص آخر. تقول فالور، مثله، «إن إنسانيتنا مُعرَّضة للتضحية من أجل هذا الانعكاس».

تقول الفيلسوفة إنها ليست ضد الذكاء الاصطناعي، لكي نكون واضحين. وسواء بشكل فردي، أو بصفتها المديرة المشارِكة لمنظمة «BRAID»، غير الربحية في جميع أنحاء المملكة المتحدة المكرسة لدمج التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، قدَّمت فالور المشورة لشركات وادي السيليكون بشأن الذكاء الاصطناعي المسؤول.

نماذج «مسؤولة» ومختبرة

وهي ترى بعض القيمة في «نماذج الذكاء الاصطناعي المستهدفة بشكل ضيق والآمنة والمختبرة جيداً والمبررة أخلاقياً وبيئياً» لمعالجة المشكلات الصحية والبيئية الصعبة. ولكن بينما كانت تراقب صعود الخوارزميات، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى رفاق الذكاء الاصطناعي، تعترف بأن ارتباطها بالتكنولوجيا كان مؤخراً «أشبه بالوجود في علاقة تحوَّلت ببطء إلى علاقة سيئة. أنك لا تملك خيار الانفصال».

فضائل وقيم إنسانية

بالنسبة لفالور، إحدى الطرق للتنقل وإرشاد علاقاتنا المتزايدة عدم اليقين بالتكنولوجيا الرقمية، هي الاستفادة من فضائلنا وقيمنا، مثل العدالة والحكمة العملية. وتشير إلى أن الفضيلة لا تتعلق بمَن نحن، بل بما نفعله، وهذا جزء من «صراع» صنع الذات، بينما نختبر العالم، في علاقة مع أشخاص آخرين. من ناحية أخرى، قد تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي صورة للسلوك أو القيم البشرية، ولكن كما كتبت في كتابها، فإنها «لا تعرف عن التجربة الحية للتفكير والشعور أكثر مما تعرف مرايا غرف نومنا آلامنا وأوجاعنا الداخلية».

الخوارزميات والعنصرية وعدم المساواة

في الوقت نفسه تعمل الخوارزميات المدربة على البيانات التاريخية، بهدوء، على تقييد مستقبلنا بالتفكير نفسه الذي ترك العالم «مليئاً بالعنصرية والفقر، وعدم المساواة، والتمييز، وكارثة المناخ».

«كيف سنتعامل مع تلك المشكلات الناشئة التي ليست لها سابقة؟»، تتساءل فالور، وتشير: «مرايانا الرقمية الجديدة تشير إلى الوراء».

الاعتماد على السمات البشرية المفيدة

مع اعتمادنا بشكل أكبر على الآلات، وتحسينها وفقاً لمعايير معينة مثل الكفاءة والربح، تخشى فالور أننا نخاطر بإضعاف عضلاتنا الأخلاقية أيضاً، وفقدان المسار للقيم التي تجعل الحياة تستحق العناء.

مع اكتشافنا لما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي، سنحتاج إلى التركيز على الاستفادة من السمات البشرية الفريدة أيضاً، مثل التفكير القائم على السياق والحكم الأخلاقي، وعلى تنمية قدراتنا البشرية المتميزة. كما تعلمون. وهي تقول: «لسنا بحاجة إلى هزيمة الذكاء الاصطناعي. نحن بحاجة إلى عدم هزيمة أنفسنا».

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً