«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات

وسط تخوّف قوى شيعية من تزايد نفوذ تركيا

«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات
TT

«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات

«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات

مصطلح «الانسداد السياسي» هو آخر المصطلحات التي يجري تداولها في الأوساط السياسية العراقية منذ ظهور نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2021. لقد صدمت نتيجة الانتخابات القوى السياسية العراقية الفائز منها والخاسر. ومعظم الفائزين فوجئوا بفوزهم غير المتوقع، كما أن معظم الخاسرين فوجئوا بخسارة لم يكونوا يتوقعونها.
أسباب وعوامل كثيرة تقف خلف ذلك. وفي حين لم يبحث الفائزون عن الكيفية التي حققوا فيها مقاعدهم على رغم أن الأصوات التي حصلوا عليها أقل من أصوات بعض الجهات الخاسرة التي حصلت على أصوات أكثر، لكنها حصدت مقاعد أقل، ظهرت نظرية المؤامرة التي قيل إن قوى إقليمية ودولية شاركت فيها من أجل فوز طرف مقابل خسارة طرف.
كذلك، لم ينفع التحليل الذي كان أقرب إلى المنطق والذي يقول إن قانون الانتخابات الجديد الذي سنّه البرلمان العراقي الماضي ويعتمد الدوائر المتعددة والفوز بأعلى الأصوات هو السبب في التباين بالنتائج. وهكذا، فإن الذين تعاملوا مع القانون بذكاء عن طريق المرشحين حصلوا على مقاعد أعلى بكمية أصوات أقل والعكس بالعكس. لكن هذا الواقع لم يقنع المعترضين الذين افترشوا الشارع لأكثر من شهرين مع تقديمهم الطعون أمام المحكمة الاتحادية.


الرئيس السابق مسعود بارزاني يدلي بصوته عام 2018 ... ومقتدى الصدر بعد إدلائه بصوته في انتخابات أكتوبر 2021 (رويترز)

الاعتراضات على نتائج الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة، والاعتصامات التي تلتها، زحفت على المدد الدستورية والقانونية الخاصة بتشكيل الحكومة، بدءاً من انتخاب رئاسة البرلمان، ثم رئيس جديد للجمهورية، فتشكيل الحكومة عبر مرشح من الكتلة الأكبر.
لقد زحفت المدد والتواريخ بعضها على بعض. وبعدما كان مقرراً حسم كل شيء في أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول) 2021، فإن الأمر الوحيد الذي أمكن حسمه حتى الآن هو انتخاب رئيس البرلمان خلال الجلسة التي عقدت خلال شهر فبراير (شباط) الماضي، وبذا بقيت العقدتان الكبريان وهما منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. وهنا نذكر، أن أبرز الأسباب التي دعت إلى إجراء انتخابات مبكرة وإقالة حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الحراك الجماهيري الذي انطلق خلال أكتوبر عام 2019، وأدى إلى مقتل أكثر من 600 متظاهر وناشط مدني وجرح أكثر من 24 ألفاً. غير أن الحصيلة حتى الآن هي اقتراب الجميع من المدة الدستورية لنهاية الدورة البرلمانية، وهي الشهر المقبل، وبالتالي، انتفت فكرة الانتخابات المبكرة.
ليس هذا فقط، بل في ظل «الانسداد السياسي»، وهو البديل للمصطلح القديم «عنق الزجاجة» الذي كان يمثل حالة الاختناقات السابقة، تذهب المؤشرات إلى القول، إنه حتى ربما خلال الشهرين المقبلين لن يمكن حل «عقدة» رئاسة، الجمهورية ومن ثم تكليف رئيس للوزراء. ومع أن هذا «الانسداد» هو المهيمن على كل شيء، بما في ذلك التحالفات التي نُسجت بعد ظهور نتائج الانتخابات، باتت هذه التحالفات (وبالذات، التحالف الثلاثي وتحالف الإطار التنسيقي) مهددة، بعدما أن كلاً منها لن يستطيع المضي في تحقيق مبتغاه... أهو حكومة أغلبية وطنية... أم حكومة توافقية تتسع للجميع؟

عقدة رئاسة الجمهورية
في سياق ما عُرف بـ«وصفة ما بعد عام 2003»، التي قامت ولا تزال على المحاصصة الطائفية والعرقية، فإن منصب رئيس الجمهورية بات لمكوّن الكردي، بينما حصة المكون الشيعي منصب رئيس الوزراء - وهو السلطة التنفيذية العليا في البلد - في حين يحصل المكوّن السنّي على منصب رئاسة البرلمان.
وخلال الدورات الثلاث الأولى التي بدأت منذ عام 2005 إلى 2014، ناهيك عن الفترة الانتقالية 2003 ـ 2004، كان منصب رئيس الجمهورية يجري تداوله كردياً بين الحزبين الرئيسين في إقليم كردستان، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني (توفي عام 2013). وحينما يأخذ «الاتحاد الوطني» منصب رئيس الجمهورية فإن «الحزب» يأخذ المناصب الرئيسية في الإقليم، وهي رئاسة الإقليم ورئاسة حكومة الإقليم. وبالفعل، استمر هذا «العُرف» الكردي - الكردي، ولم يشكل عائقاً إطلاقاً أمام باقي الاستحقاقات الدستورية حتى عام 2018. ولكن قبلها، عام 2014، بعد وفاة طالباني حصل نوع من التنافس داخل «الاتحاد» نفسه بشأن المنصب بين د برهم صالح (الرئيس الحالي للجمهورية) ودّ فؤاد معصوم الرئيس السابق. ومن ثم، أجريت انتخابات داخل كتلة التحالف الكردستاني - التي كانت تضم الحزبين الكبيرين - ففاز معصوم، وهو دكتوراه فلسفة من جامعة عين شمس بالقاهرة وتولى المنصب لمدة أربع سنوات (2014 ـ 2018).
بعدها، خلال الدورة البرلمانية الرابعة 2018، ظهرت أولى بوادر الخلاف حول منصب رئيس الجمهورية بين الحزبين الكرديين الكبيرين، «الحزب» و«الاتحاد»، الأمر الذي أضطرهما إلى الدخول بمرشحين اثنين هما برهم صالح (الرئيس الحالي) وفؤاد حسين وزير الخارجية الحالي. أما سبب الخلاف، فكان رفض «الحزب» ترشح صالح للمنصب. وبالنتيجة، رغم التعهدات التي أعطاها العديد من قادة الشيعة لزعيم «الحزب»، تمكن صالح من الفوز بالمنصب حائزاً غالبية كبيرة داخل البرلمان. وعلى الأثر، ذهب صالح إلى قصر السلام رئيساً للجمهورية بينما كوفئ فؤاد حسين بمنصب وزير الخارجية.
ولكن، مع الانتخابات الأخيرة تكرّس الخلاف الكردي ـ الكردي واشتد الصراع داخل «البيت الكردي». إذ كان فوز زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر وكتلته (الكتلة الصدرية) بأعلى الأصوات في البرلمان (74 نائباً) بمثابة مفاجأة لخصومه الشيعة من القوى الأخرى. وفي حين بدا أن الصدر بات يصرّ على تشكيل حكومة غالبية وطنية «لا شرقية ولا غربية»، تفاقم الخلاف بينه وبين قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي الذي يضم تحالف «الفتح» بزعامة هادي العامري و«دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، و«العصائب» بزعامة قيس الخزعلي و«قوى الدولة» بزعامة عمار الحكيم وتحالف «النصر» بزعامة د حيدر العبادي. ومن ثم، انعكس هذا الوضع على «البيوت» الأخرى... سلبياً بالنسبة للكرد وإيجابياً بالنسبة للعرب السنة.

غالبية الثلثين المستحيلة
إصرار مقتدى الصدر على التحالف الثلاثي الذي جمعه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني و«تحالف السيادة» بزعامة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان وخميس الخنجر رجل الأعمال عقّد مشكلة اختيار رئيس الجمهورية المختلف عليه كردياً. وكان السبب الأبرز لذلك تعذّر تأمين غالبية الثلثين المطلوبة لتمرير انتخاب رئيس الجمهورية طبقاً لتفسير المحكمة الاتحادية العليا.
وهنا حاول مسعود بارزاني حلحلة الأزمة داخل «البيت الشيعي» من أجل تخطي عقبة الثلثين، لكنه لم ينجح. وطبقاً لما سمعته «الشرق الأوسط» من سياسي عراقي، فإن «مبادرة بارزاني التي حملها إلى زعيم التيار الصدري كل من نيجرفان بارزاني ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي كانت محاولة لكسر الجليد مرتين، مرة بين الصدر والمالكي، ومرة من أجل تفكيك الإطار التنسيقي». وتابع السياسي، أن «المبادرة كانت تتضمّن القبول بالمالكي ومنحه منصب نائب رئيس الجمهورية لكن تصلب الصدر الحاد حيال المالكي أدى إلى موت المبادرة».
مقابل ذلك، فإن تحالف الخصوم («الإطار التنسيقي» و«الاتحاد الوطني»)، ومرشحهم الرئيس الحالي برهم صالح، فإنهم وإن كانوا ليسوا متماسكين لأنهم ليسوا تحالفاً رسمياً، سيواجهون المشكلة نفسها... أي نعذّر ضمان غالبية الثلثين. وعليه، قياساً إلى ما يبدو نزاعاً شيعياً ـ شيعياً وتصلباً كردياً - كردياً، وفي ظل استحالة التوافق بين الطرفين، يظهر إن الأزمة قابلة للاستمرار، ولا سيما، مع ولادة أزمات أخرى منها الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها المختلفة على العراق في ظل «حكومة تصريف أعمال» ليست كاملة الصلاحيات. وهنا، للتوضيح، فإن النزاع ليس بين كل الشيعة وكل الكرد بل بين قسم من الشيعة وقسم من الكرد، والتصلب ليس بين كل الكرد وكل الشيعة بل بين قسم من الكرد رافضين لبعضهم مع قسم من الشيعة لا يقبلون بهم.

البيت السنّي يتوحّد
من جانب آخر، خلال بضعة أشهر حرص الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على لقاء أبرز زعيمين سنيين عراقيين (محمد الحلبوسي وخميس الخنجر) مرتين. وكانت المرتان بعد إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العاشر من أكتوبر 2021.
الحلبوسي والخنجر لم يعاصرا أيام الزعامات السنية الكبيرة التي غادرت مشهد ما بعد 2003، أو توارت عنه لسبب أو لآخر. لم يكن أحد من تلك القيادات من «الآباء المؤسسين» لنظام ما بعد سقوط صدام حسين، بل كان «آباء النظام المؤسسون» من الشيعة والكرد فقط. وحتى عندما تشكّل «مجلس الحكم» عانى هؤلاء الآباء المؤسسين في البحث عن قيادات سنّية يمكن أن تكمل مشهد الحكم الجديد الذي أطلق عليه «مجلس الحكم» برعاية أميركية، وبزعامة مطلقة من الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. ويومذاك، اقتضى بناء النظام الجديد أن يتأسس على قاعدة المكوّنات العرقية والمذهبية (الشيعة والسنة والكرد). ولكن خلال بضع سنوات بدأ التحالف الشيعي - الكردي يتصدع على وقع الخلافات حول تطبيق مواد الدستور، وبالذات، المواد 140 الخاصة بكركوك والمناطق المتنازع عليها و111 الخاصة بالنفط والغاز، فضلاً عن أسلوب تقاسم السلطة وغيرها من الخلافات.
في هذه الأثناء، بدأت أدوار القيادات السنّية، التي برزت في مرحلة ما بعد فترة التأسيس - مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي، فضلاً عن إياد السامرائي زعيم الحزب الإسلامي وأسامة النجيفي رئيس البرلمان الأسبق وصالح المُطلك - تتراجع بصيغ مختلفة. حتى أن خالد الهاشمي لوحق قضائياً ولا يزال خارج العراق محكوماً بالإعدام غيابياً، أما رافع العيساوي فيتابع الآن القضايا العالقة بشأنه... متنقلاً بين مراكز التحقيق والقضاء لإثبات براءته. وعام 2013، انطلقت مظاهرات ضخمة في المحافظات الغربية (السنّية) من العراق طالت نحو سنة قبل قمعها من قبل السلطات آنذاك. ومع أن المتظاهرين قدّموا مطالب بدت مشروعة، اتهمتها السلطات في حينه أن من يقف خلفها هو تنظيم «داعش».
لم يكن قد برز في ذلك الوقت اسم محمد الحلبوسي، ولكن برز اسم خميس الخنجر رجل الأعمال وأحد الشيوخ العشائريين في محافظة الأنبار. وعام 2014 أصبح الحلبوسي نائباً في البرلمان العراقي ورئيساً للجنة المالية البرلمانية. ثم خرج من البرلمان ليغدو محافظاً للأنبار. ثم عام 2018 عاد عضواً في البرلمان وأصبح رئيساً له وهو بعمر الـ37. يومها لم يكن فقط أصغر رئيس برلمان بتاريخ العراق، بل صار أيضاً أحد أبرز اللاعبين في المعادلة السياسية في البلاد.
في هذه الأثناء كان الخنجر مغضوباً عليه شيعياً، قبل أن يتغير المشهد بعد فترة غير طويلة ليظهر في صورة بدت تاريخية في وقتها مع نوري المالكي وهادي العامري وعدد من أبرز قيادات الشيعة. وبدت تلك بمثابة غسيل تاريخ قديم واستئناف تاريخ آخر.
للعلم، لم تكن العلاقة طيبة بين الحلبوسي والخنجر، نتيجة لصراع النفوذ في المحافظات الغربية. لكن بعد انتخابات 2021 تغير المشهد تماماً مع تغيّر النتائج ومعها أدوار اللاعبين الإقليميين والدوليين. كذلك، صار مقتدى الصدر رقماً صعباً، قسم بروزه «البيت الشيعي» إلى قسمين، هما «التيار الصدري» و«الإطار التنسيقي»، فشلت إيران في توحيدهما رغم كل محاولاتها، الأمر الذي بدأ يثير المزيد من الشكوك حول جدية تراجع الدور الإيراني.
عودة إلى الكرد الذين كانت مواقفهم موحدة حيال المركز أو بغداد، فإن المنصب السيادي الأكبر لهم (رئاسة الجمهورية) فكك قوتهم بسبب تناحرهم عليه ما حرمهم من دورهم القديم كـ«بيضة القبان». وفي حين لم يعد بينهم وبين الشيعة «تحالف تاريخي»، بل حل محله الآن نوع من التناحر بسبب خرق الحزب الديمقراطي الكردستاني قاعدة ثبات «البيوت» المكوناتية التي بناها الآباء المؤسسون (الشيعة والكرد)، أدى الوضع الجديد إلى إضعاف «البيت الشيعي» وتفاقم «الخلاف الكردي - الكردي».
وبالتالي، كان لافتاً المشهد في أنقرة الذي جمع الحلبوسي والخنجر - اللذين ظهرا في صورة واحدة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ومدير استخباراته فيدان حقان - بل كان «مريباً: بالنسبة للقوى الشيعية. وهنا يرى الخبراء السياسيون أن تركيا استثمرت تراجع الأولويات الأميركية - الإيرانية حيال الملف العراقي، فتمكنّت من ملء الفراغ عبر توحيد البيت السنّي. وفي المقابل، عبّرت التصريحات التي أطلقتها العديد من القيادات الشيعية بعد «الصورة الرباعية» في أنقرة عن التخوف من تحوّل الشيعة إلى أقلية في الحكومة المقبلة. وهذا يعني من وجهة نظر هذه القيادات أن الشيعة لن يتمكنوا من فرض رغباتهم داخل البرلمان، وأن تركيا ستتمدد نفوذا وقوة بتحالف سنّي كبير وقد يلتحق به قسم من الكرد في مرحلة لاحقة.



الأردن على طريق الانتخابات النيابية المقبلة

صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)
صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)
TT

الأردن على طريق الانتخابات النيابية المقبلة

صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)
صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)

يتوجه الأردنيون في العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل لاختيار مجلسهم النيابي العشرين، الذي خصص من مقاعده 41 مقعداً للأحزاب من أصل 138 مقعداً، في تجربة هي الأولى من نوعها سيشهدها الأردن تحت شعار «تحديث المنظومة السياسية» في المملكة. ويذكر أنه على مدى العامين السابقين دخلت المملكة في حالة جدال نخبوي حاد، حول مدى مساهمة قانون الانتخاب الجديد في تجويد الأداء البرلماني، ولا سيما، بعد تراجع اقتناع الرأي العام بأداء المجالس النيابية التي سجلت نسباً متدنية من الثقة عند الرأي العام بعد استطلاعات رأي تحدث بعضها عن ما نسبته 17 في المائة فقط يثقون بمجلس النواب. وبالتالي، من المرجح أن يصدر العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، خلال الأيام القليلة المقبلة مرسوماً يقضي بحل مجلس النواب التاسع عشر؛ تمهيداً لفتح باب الترشح للانتخابات النيابية، وبهذا القرار يتوقع أن يبدأ الحراك الانتخابي ويزداد سخونة مع قرب موعد يوم الاقتراع، لكن تبقى جملة من المحددات قد تؤثر على تحقيق أهداف التحديث البرلماني المنشود. إذ ستبدأ مرحلة الترشح للانتخابات المقبلة في الثلاثين من الشهر الحالي، وسط حراك حزبي يسعى لإثبات وجوده في السلطة التشريعية، التي هي ركن أساسي في معادلة الحكم، لكن الكلام عن استخدام المال لجذب القواعد الانتخابية فتح باب التخوف من إحباط التجربة الحزبية البرلمانية في نسختها الأولى، فعلى ثلاثة مواسم انتخابية سترتفع نسبة التمثيل الحزبي في البرلمان من 30 في المائة إلى 65 في المائة في انتخابات عام 2032.

سمير الرفاعي

يبلغ متوسط نسب الاقتراع في الانتخابات النيابية الأردنية للمواسم الانتخابية الثلاثة الماضية نحو 32 في المائة. وإذا كانت هذه النسبة متدنية، ففي أفضل الحالات لم تتخطَّ نسب المشاركة حاجز الـ40 في المائة طوال السنوات الـ25 الماضية، أضف إلى ذلك أن الحافز العشائري يُعدّ من أهم روافع المشاركة والإقبال، في وقت تتراجع نسب الاقتراع في العاصمة عمّان ومراكز الثقل السكاني في محافظتي إربد والزرقاء.

وعلى الرغم من الجهود المؤسسية المبذولة لتحفيز المواطنين على المشاركة، يظل المزاج العام شديد التأثر بالسلبية عند مراجعة أداء البرلمانات في السنوات الأخيرة. وكل الضجيج الذي يسمعه الناس في خطابات النواب لم يأتِ بأي قرار يخالف التوجّهات الحكومية، بل عادة ما يجيء التصويت بعكس الموقف الذي يعلنه نائب أو كتلة نيابية.

مشاجرات وفصل نوابمن جهة ثانية، مشاهد المشاجرات والعنف، بالإضافة إلى تسجيل مجلس النواب الحالي عدداً من حالات الفصل وتجميد العضوية لعدد من النواب سوابق لم تحدث في مجالس نيابية سابقة. فلقد قرّر المجلس الحالي فصل نائبين وتجميد عضوية نائبين آخرين، ورُفعت الحصانة على نائب ما زال يَمثُل أمام محكمة أمن الدولة (قضاء عسكري) بتهمة تهريب السلاح إلى إسرائيل، وهذا بلا شك ساهم في العزوف عن متابعة أداء السلطة التشريعية.

وثمة مشاهد كثيرة أخرى ربما أدت أيضاً إلى صرف الناخبين عن المشاركة، منها ممارسات حزبية وُلدت من رحم برنامج التحديث السياسي وسبّبت حالة إحباط لدى الرأي العام، وبخاصة، أن تلك الأحزاب قدّمت نفسها على أنها «أحزاب الدولة»، ولكن مارس بعضها سلوكيات ساهمت في التشويه والتشويش على التجربة الحزبية الجديدة في البلاد. وكان آخرها إحالة أمين عام أحد الأحزاب إلى النائب العام بتهمة طلبه مبلغاً مالياً من مرشح مفترض أن يكون في صدارة قائمته للانتخابات المقبلة.

وطبعاً، يضاف إلى كل ذلك أن الضغوط الاقتصادية المعيشية المُصاحبة لحالة المواطن الأردني ساهمت بـ«حالة من قلة الاكتراث» - وفق مراقبين - بمجمل المشهد السياسي، ومنه الانتخابي على وجه الخصوص؛ بسبب الاقتناع المتجذر بعجز البرلمانات عن حل الأزمة الاقتصادية المتراكمة منذ أزمة جائحة «كوفيد - 19» التي شلّت وأغلقت قطاعات خدمية حيوية وصناعية؛ ما تسبب في تسريح عاملين يقفون اليوم في طوابير البطالة التي يختلف المتخصصون على نسبتها.

تأثير الحرب على غزة

وعلى صعيد موازٍ، هناك أسباب تتعلق بالتخوف الرسمي من نسب المشاركة في الانتخابات. فاستمرار الحرب على قطاع غزة، تركت انسحابات على الشارع الأردني المتصل بالقضية الفلسطينية جغرافياً وديموغرافياً. وهذه الانسحابات أدخلت الرأي العام في حالة من الإحباط بعد غياب آفاق وقف الحرب في المدى المنظور، وبالتلازم مع هذا الإحباط توجد مخاوف رسمية من استفراد الحركة الإسلامية في الأردن بحصة الأسد من أصوات المقترعين، المشحونين بعاطفة الانتصار للمقاومة الإسلامية في غزة. واستطراداً، يبقى لغز ضعف نسب المشاركة في الأوساط الأردنية من أصول فلسطينية، حالة محيرة لمركز القرار، الذي نفّذ دراسة اجتماعية مسكوت عنها لم تصل إلى نتائج حاسمة في تعريف المشكلة على طريق صناعة الحلول.

نخب تقليدية بمواجهة طامحين

في هذه الأثناء ظهرت مساحات من الصراع بين تيارين: التيار الأول، تيار النخب التقليدية الذي يحمل موقفاً سلبياً من القفزات التي جاءت في قانوني الأحزاب والانتخاب، وأساس سلبيته شعوره بـ«تغييبه» عن مراكز القرار كواعظين وناصحين، بعد فترة ازدحمت بإطلاق الأوصاف بحقهم كـ«الحرس القديم» و«النخب المحافظة» و«قوى الشد العكسي» و«قوى الوضع القائم». والتيار الآخر يتمثل بأعضاء من اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، الذين بشّروا بانطلاق مرحلة التحول الديمقراطي بالتزامن مع دخول المملكة مئويتها الثانية... والصراع هنا كان وقوده الرأي العام الذي انقسم بين التيارين المتعارضين، في حالة عزّزت من مشاعر «قلة الاكتراث» بالانتخابات النيابية في نسختها الحالية.

وعلى مدى السنتين الماضيتين أنتجت مرحلة التحديث السياسي - بعد إقرار قانوني الأحزاب والانتخاب، والتعديلات على الدستور - 38 حزباً، بعدما كان عدد الأحزاب 56 حزباً. إلا أن هذا المشهد لم يختصر الكم الحزبي، كما لم يأتِ بالنوع المتفرد. إذ انقسم المشهد على ثلاثة تيارات تقليدية، هي:

- تيار اليسار والقوميين، الذي يعاني أزمة انتشار بسبب التشبث بخطابه التقليدي ويعاني تراجع دعم المؤازرين له.

- التيار الوسطي الذي يحاول إعادة إنتاج نفسه متمسكاً بأدبياته نفسها، ومكتفياً بتغيير قياداته التي جاءت بدعم من مراكز قرار.

- التيار الثالث... وهو اليمين الإسلامي، الذي احتكر تمثيله حزب «جبهة العمل الإسلامي» الذراع الحزبية لجماعة «الإخوان المسلمين» غير المرخصة في الأردن.

تحدٍ رسمي يراهن على نسب مشاركة كبيرة رغم الإحباطات الكثيرة

 المشهد السابق دفع برئيس اللجنة الملكية، رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي، إلى ممارسة النقد الذاتي لتجربة التوافق على مخرجات لجنته. لكنه لم ينتقد التوافق في حد ذاته، بل بعض الممارسات الحزبية التي اختطفت التجربة لتعيدها وتختصرها في شخوص من أسسوا أحزاباً جديدة، تاركين الفكرة في مهب التشكيك والتشويه. وهنا برز عدد من المريدين لإلقاء المسؤولية بعيداً عنهم، وتحميل تخبّط النسخة الأولى من التجربة لمؤسسات وجهات مدنية وأمنية. وأيضاً، هاجم بعض هؤلاء الهيئة المستقلة للانتخاب التي حمّلوها مسؤولية التقصير في دورها ومتابعة شؤون الأحزاب ومدى تطبيقها شروط القانون وأحكامه. لكن «المستقلة للانتخاب» ردّت بإجراءات على الأرض أسفرت عن إحالات للادعاء العام بشبهة استخدام المال في ارتكاب جرائم انتخابية بقصد التأثير على إرادة الناخبين من جهة، وطلب مبالغ مالية من مرشحين من جهة أخرى لحملهم نحو مقاعد مجلس النواب الجديد.

في هذه الأثناء، الطامحون بخوض التجربة الحزبية في الانتخابات المقبلة يعتقدون أن ولادة الحكومة البرلمانية اقتربت، إلا أن الرفاعي في محاضرته الأخيرة أكد أن خريطة التحديث لم تقلّ عن إنتاج حكومات حزبية بالمعنى التقليدي في المدى المنظور، لكن من شأن تراكم الحضور الحزبي أن يوصل إلى حكومات برلمانية تقابلها معارضة حزبية في سباق لكسب تأييد الناخب الأردني ضمن مفاهيم التعددية السياسية وتداول السلطة.

كذلك، بدا سمير الرفاعي وكأنه يُذكّر بأن الجمع بين مقعدي النيابة والوزارة أمر بات منتهياً في ظل حظر الدستور، بموجب التعديلات الأخيرة مطلع عام 2022، الجمع بين الموقعين تكريساً لمبدأ الفصل بين السلطتين، وتأكيداً بأن الثقة البرلمانية بالحكومات ستأتي حتماً بشخصيات حزبية ليست من أعضاء مجلس النواب. وهكذا، حرّك كلام الرفاعي المياه الراكدة، وأيقظ طامحين منبهاً إياهم بضرورة الكف عن الترويج لمفاهيم غير موجودة على خريطة الإصلاح البرلماني التي جاءت في وثيقة التحديث الملكي لمئوية جديدة، تحاكي المستقبل وتغادر الحاضر المشبع بتحديات الثقة والسلبية السائدة - وخصوصاً خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.

خروج أقطاب يمهّد لوجوه جديدةمن جهة أخرى، لم يكن من المتوقع من بعض الأقطاب من النواب إعلانهم باكراً العزوف عن الترشح لهذا الموسم الانتخابي. ولكن هذا ما حدث، بعد إعلان المحامي عبد الكريم الدغمي، البرلماني المخضرم الذي لم يغب عن مجالس النواب منذ عام 1989 وحتى اليوم، وترأس المجلس في دورتين متباعدتين، واعتُبر عرَّاب التشريعات. وبعده تبعه النائب خليل عطية الذي قرر العزوف عن خوض الانتخابات التي داوم على حضورها منذ عام 1997، وتلاه أيمن المجالي، ورئيس مجلس النواب الأسبق عبد المنعم العودات، والنائب الاقتصادي خير أبو صعيليك.

وراهناً، تبدو احتمالات عودة نواب حاليين ضعيفة أمام ما ترسخه الأعراف العشائرية في الانتخابات النيابية من عملية (الدور) في الترشح، والقائمة على منح فرص متساوية لأبناء العشائر في التقدم نحو المناصب القيادية. وهذا غالباً ما يحدث في الدوائر الانتخابية البعيدة عن مراكز المدن الرئيسية الثلاث (عمان، وإربد، والزرقاء)، فدوائر الأطراف تُسجل عادة نسباً عالية في المشاركة، ومنافسة ساخنة في بعض المواسم السابقة.

للعلم، تعدّ العشيرة في الأردن حزباً اجتماعياً نافذاً ومتجذراً، ولها في العملية السياسية مساحة فاعلة. وهي عادة ما تمثّل درجة الحسم في كثير من مستويات المشاركة السياسية، وتعتبر من أهم روافع الأمن والاستقرار، نتيجة الاستجابة للمصلحة العامة، من دون أن تقايض بمواقفها في الملفات المهمة. بيد أن ما ذهبت إليه فكرة «الدائرة العامة المخصصة للأحزاب»، وبحصة متصاعدة في ثلاثة مواسم انتخابية، أسهم في كسر الحدود الإدارية بين الدوائر الانتخابية، وصولاً إلى فكرة الدائرة الوطنية الواحدة، التي قد تساهم في تجاوز التمثيل الأضيق على حساب التمثيل الأوسع... وهكذا، يذهب الناخب لاختيار من يمثّله على اتساع الرقعة الجغرافية الكاملة للمملكة؛ ما يساهم في صهر المجتمع، وتجاوز الفوارق التنموية والديموغرافية.

وللتذكير، تُجرى الانتخابات النيابية المقبلة وفق قانون انتخاب جديد أدخل حزمة من الإجراءات الجديدة، على رأسها إنشاء دائرة عامة على مستوى الوطن بـ41 مقعداً مخصصة للأحزاب، و18 دائرة محلية لها 97 مقعداً. ونص القانون أيضاً على «درجة الحسم» (العتبة) شرطاً للتنافس على المقاعد الحزبية بنسبة 2.5 في المائة والمحلية بنسبة 7 في المائة، في حين جاء القانون بفرص زيادة تمثيل المرأة بواقع تخصيص مقعد امرأة لكل دائرة انتخابية، ومقعدين من أول ستة مترشحين في القائمة الحزبية، مع حرية اختيار مسار «التنافس الحصصي» أو «الكوتا». وهي الفرص ذاتها التي مُنحت للشركس والمسيحيين، مع ضمان تمثيل الحد الأدنى لهم ضمن «كوتات» لعضوية المجلس المقبل.

عبدالكريم الدغمي

 

لمحة تاريخية عن المجالس النيابية الأردنية خلال 35 سنة

> دخل الأردن مرحلة التحوّل الديمقراطي عام 1989، بعد أحداث ما عرف بـ«هبّة نيسان» (أبريل)، ولم تنقطع الحياة البرلمانية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، فأجريت الانتخابات في السنوات 1989 و1993 و1997. وفي مطلع الألفية الجديدة تعطل البرلمان لمدة سنتين بسبب تداعيات «الانتفاضة (الفلسطينية) الثانية»، وما رافقها من تداعيات على الساحة المحلية، وأجريت الانتخابات في عام 2003 بعد ثلاثة أشهر من احتلال بغداد، وعاش ذلك المجلس لمدة أطول من مدته الدستورية. في نهاية عام 2007 أجريت الانتخابات الشهيرة في الأردن، التي شهدت عمليات تزوير اعترف بها الرسميون، وأغضبت العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، ليدعو إلى إجراء انتخابات مبكرة عام 2010. لكن هذه أيضاً شهدت تدخلات رسمية، ساهمت في فقدان الثقة بالعملية الديمقراطية أردنياً. وعلى الأثر، حل البرلمان وتعطلت الحياة البرلمانية لمدة سنة. وكانت جميع تلك الانتخابات قد أجريت وفق أحكام قانون الصوت الواحد الذائع الصيت الذي انتقدته تيارات سياسية عريضة في البلاد. بعد «الربيع الأردني» دُعي إلى انتخابات نيابية بعد إنشاء هيئة مستقلة للانتخاب، وأجريت الانتخابات في مطلع عام 2013. ومنذ ذلك التاريخ لم تنقطع الحياة النيابية ولم يحدث فراغ تشريعي، بعدما أكملت المجالس مدتها الدستورية بواقع أربع سنوات شمسية؛ إذ يُحّل المجلس قبلها بأربعة أشهر لإجراء الانتخابات بموعدها.