«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات

وسط تخوّف قوى شيعية من تزايد نفوذ تركيا

«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات
TT

«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات

«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات

مصطلح «الانسداد السياسي» هو آخر المصطلحات التي يجري تداولها في الأوساط السياسية العراقية منذ ظهور نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2021. لقد صدمت نتيجة الانتخابات القوى السياسية العراقية الفائز منها والخاسر. ومعظم الفائزين فوجئوا بفوزهم غير المتوقع، كما أن معظم الخاسرين فوجئوا بخسارة لم يكونوا يتوقعونها.
أسباب وعوامل كثيرة تقف خلف ذلك. وفي حين لم يبحث الفائزون عن الكيفية التي حققوا فيها مقاعدهم على رغم أن الأصوات التي حصلوا عليها أقل من أصوات بعض الجهات الخاسرة التي حصلت على أصوات أكثر، لكنها حصدت مقاعد أقل، ظهرت نظرية المؤامرة التي قيل إن قوى إقليمية ودولية شاركت فيها من أجل فوز طرف مقابل خسارة طرف.
كذلك، لم ينفع التحليل الذي كان أقرب إلى المنطق والذي يقول إن قانون الانتخابات الجديد الذي سنّه البرلمان العراقي الماضي ويعتمد الدوائر المتعددة والفوز بأعلى الأصوات هو السبب في التباين بالنتائج. وهكذا، فإن الذين تعاملوا مع القانون بذكاء عن طريق المرشحين حصلوا على مقاعد أعلى بكمية أصوات أقل والعكس بالعكس. لكن هذا الواقع لم يقنع المعترضين الذين افترشوا الشارع لأكثر من شهرين مع تقديمهم الطعون أمام المحكمة الاتحادية.


الرئيس السابق مسعود بارزاني يدلي بصوته عام 2018 ... ومقتدى الصدر بعد إدلائه بصوته في انتخابات أكتوبر 2021 (رويترز)

الاعتراضات على نتائج الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة، والاعتصامات التي تلتها، زحفت على المدد الدستورية والقانونية الخاصة بتشكيل الحكومة، بدءاً من انتخاب رئاسة البرلمان، ثم رئيس جديد للجمهورية، فتشكيل الحكومة عبر مرشح من الكتلة الأكبر.
لقد زحفت المدد والتواريخ بعضها على بعض. وبعدما كان مقرراً حسم كل شيء في أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول) 2021، فإن الأمر الوحيد الذي أمكن حسمه حتى الآن هو انتخاب رئيس البرلمان خلال الجلسة التي عقدت خلال شهر فبراير (شباط) الماضي، وبذا بقيت العقدتان الكبريان وهما منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. وهنا نذكر، أن أبرز الأسباب التي دعت إلى إجراء انتخابات مبكرة وإقالة حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الحراك الجماهيري الذي انطلق خلال أكتوبر عام 2019، وأدى إلى مقتل أكثر من 600 متظاهر وناشط مدني وجرح أكثر من 24 ألفاً. غير أن الحصيلة حتى الآن هي اقتراب الجميع من المدة الدستورية لنهاية الدورة البرلمانية، وهي الشهر المقبل، وبالتالي، انتفت فكرة الانتخابات المبكرة.
ليس هذا فقط، بل في ظل «الانسداد السياسي»، وهو البديل للمصطلح القديم «عنق الزجاجة» الذي كان يمثل حالة الاختناقات السابقة، تذهب المؤشرات إلى القول، إنه حتى ربما خلال الشهرين المقبلين لن يمكن حل «عقدة» رئاسة، الجمهورية ومن ثم تكليف رئيس للوزراء. ومع أن هذا «الانسداد» هو المهيمن على كل شيء، بما في ذلك التحالفات التي نُسجت بعد ظهور نتائج الانتخابات، باتت هذه التحالفات (وبالذات، التحالف الثلاثي وتحالف الإطار التنسيقي) مهددة، بعدما أن كلاً منها لن يستطيع المضي في تحقيق مبتغاه... أهو حكومة أغلبية وطنية... أم حكومة توافقية تتسع للجميع؟

عقدة رئاسة الجمهورية
في سياق ما عُرف بـ«وصفة ما بعد عام 2003»، التي قامت ولا تزال على المحاصصة الطائفية والعرقية، فإن منصب رئيس الجمهورية بات لمكوّن الكردي، بينما حصة المكون الشيعي منصب رئيس الوزراء - وهو السلطة التنفيذية العليا في البلد - في حين يحصل المكوّن السنّي على منصب رئاسة البرلمان.
وخلال الدورات الثلاث الأولى التي بدأت منذ عام 2005 إلى 2014، ناهيك عن الفترة الانتقالية 2003 ـ 2004، كان منصب رئيس الجمهورية يجري تداوله كردياً بين الحزبين الرئيسين في إقليم كردستان، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني (توفي عام 2013). وحينما يأخذ «الاتحاد الوطني» منصب رئيس الجمهورية فإن «الحزب» يأخذ المناصب الرئيسية في الإقليم، وهي رئاسة الإقليم ورئاسة حكومة الإقليم. وبالفعل، استمر هذا «العُرف» الكردي - الكردي، ولم يشكل عائقاً إطلاقاً أمام باقي الاستحقاقات الدستورية حتى عام 2018. ولكن قبلها، عام 2014، بعد وفاة طالباني حصل نوع من التنافس داخل «الاتحاد» نفسه بشأن المنصب بين د برهم صالح (الرئيس الحالي للجمهورية) ودّ فؤاد معصوم الرئيس السابق. ومن ثم، أجريت انتخابات داخل كتلة التحالف الكردستاني - التي كانت تضم الحزبين الكبيرين - ففاز معصوم، وهو دكتوراه فلسفة من جامعة عين شمس بالقاهرة وتولى المنصب لمدة أربع سنوات (2014 ـ 2018).
بعدها، خلال الدورة البرلمانية الرابعة 2018، ظهرت أولى بوادر الخلاف حول منصب رئيس الجمهورية بين الحزبين الكرديين الكبيرين، «الحزب» و«الاتحاد»، الأمر الذي أضطرهما إلى الدخول بمرشحين اثنين هما برهم صالح (الرئيس الحالي) وفؤاد حسين وزير الخارجية الحالي. أما سبب الخلاف، فكان رفض «الحزب» ترشح صالح للمنصب. وبالنتيجة، رغم التعهدات التي أعطاها العديد من قادة الشيعة لزعيم «الحزب»، تمكن صالح من الفوز بالمنصب حائزاً غالبية كبيرة داخل البرلمان. وعلى الأثر، ذهب صالح إلى قصر السلام رئيساً للجمهورية بينما كوفئ فؤاد حسين بمنصب وزير الخارجية.
ولكن، مع الانتخابات الأخيرة تكرّس الخلاف الكردي ـ الكردي واشتد الصراع داخل «البيت الكردي». إذ كان فوز زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر وكتلته (الكتلة الصدرية) بأعلى الأصوات في البرلمان (74 نائباً) بمثابة مفاجأة لخصومه الشيعة من القوى الأخرى. وفي حين بدا أن الصدر بات يصرّ على تشكيل حكومة غالبية وطنية «لا شرقية ولا غربية»، تفاقم الخلاف بينه وبين قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي الذي يضم تحالف «الفتح» بزعامة هادي العامري و«دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، و«العصائب» بزعامة قيس الخزعلي و«قوى الدولة» بزعامة عمار الحكيم وتحالف «النصر» بزعامة د حيدر العبادي. ومن ثم، انعكس هذا الوضع على «البيوت» الأخرى... سلبياً بالنسبة للكرد وإيجابياً بالنسبة للعرب السنة.

غالبية الثلثين المستحيلة
إصرار مقتدى الصدر على التحالف الثلاثي الذي جمعه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني و«تحالف السيادة» بزعامة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان وخميس الخنجر رجل الأعمال عقّد مشكلة اختيار رئيس الجمهورية المختلف عليه كردياً. وكان السبب الأبرز لذلك تعذّر تأمين غالبية الثلثين المطلوبة لتمرير انتخاب رئيس الجمهورية طبقاً لتفسير المحكمة الاتحادية العليا.
وهنا حاول مسعود بارزاني حلحلة الأزمة داخل «البيت الشيعي» من أجل تخطي عقبة الثلثين، لكنه لم ينجح. وطبقاً لما سمعته «الشرق الأوسط» من سياسي عراقي، فإن «مبادرة بارزاني التي حملها إلى زعيم التيار الصدري كل من نيجرفان بارزاني ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي كانت محاولة لكسر الجليد مرتين، مرة بين الصدر والمالكي، ومرة من أجل تفكيك الإطار التنسيقي». وتابع السياسي، أن «المبادرة كانت تتضمّن القبول بالمالكي ومنحه منصب نائب رئيس الجمهورية لكن تصلب الصدر الحاد حيال المالكي أدى إلى موت المبادرة».
مقابل ذلك، فإن تحالف الخصوم («الإطار التنسيقي» و«الاتحاد الوطني»)، ومرشحهم الرئيس الحالي برهم صالح، فإنهم وإن كانوا ليسوا متماسكين لأنهم ليسوا تحالفاً رسمياً، سيواجهون المشكلة نفسها... أي نعذّر ضمان غالبية الثلثين. وعليه، قياساً إلى ما يبدو نزاعاً شيعياً ـ شيعياً وتصلباً كردياً - كردياً، وفي ظل استحالة التوافق بين الطرفين، يظهر إن الأزمة قابلة للاستمرار، ولا سيما، مع ولادة أزمات أخرى منها الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها المختلفة على العراق في ظل «حكومة تصريف أعمال» ليست كاملة الصلاحيات. وهنا، للتوضيح، فإن النزاع ليس بين كل الشيعة وكل الكرد بل بين قسم من الشيعة وقسم من الكرد، والتصلب ليس بين كل الكرد وكل الشيعة بل بين قسم من الكرد رافضين لبعضهم مع قسم من الشيعة لا يقبلون بهم.

البيت السنّي يتوحّد
من جانب آخر، خلال بضعة أشهر حرص الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على لقاء أبرز زعيمين سنيين عراقيين (محمد الحلبوسي وخميس الخنجر) مرتين. وكانت المرتان بعد إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العاشر من أكتوبر 2021.
الحلبوسي والخنجر لم يعاصرا أيام الزعامات السنية الكبيرة التي غادرت مشهد ما بعد 2003، أو توارت عنه لسبب أو لآخر. لم يكن أحد من تلك القيادات من «الآباء المؤسسين» لنظام ما بعد سقوط صدام حسين، بل كان «آباء النظام المؤسسون» من الشيعة والكرد فقط. وحتى عندما تشكّل «مجلس الحكم» عانى هؤلاء الآباء المؤسسين في البحث عن قيادات سنّية يمكن أن تكمل مشهد الحكم الجديد الذي أطلق عليه «مجلس الحكم» برعاية أميركية، وبزعامة مطلقة من الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. ويومذاك، اقتضى بناء النظام الجديد أن يتأسس على قاعدة المكوّنات العرقية والمذهبية (الشيعة والسنة والكرد). ولكن خلال بضع سنوات بدأ التحالف الشيعي - الكردي يتصدع على وقع الخلافات حول تطبيق مواد الدستور، وبالذات، المواد 140 الخاصة بكركوك والمناطق المتنازع عليها و111 الخاصة بالنفط والغاز، فضلاً عن أسلوب تقاسم السلطة وغيرها من الخلافات.
في هذه الأثناء، بدأت أدوار القيادات السنّية، التي برزت في مرحلة ما بعد فترة التأسيس - مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي، فضلاً عن إياد السامرائي زعيم الحزب الإسلامي وأسامة النجيفي رئيس البرلمان الأسبق وصالح المُطلك - تتراجع بصيغ مختلفة. حتى أن خالد الهاشمي لوحق قضائياً ولا يزال خارج العراق محكوماً بالإعدام غيابياً، أما رافع العيساوي فيتابع الآن القضايا العالقة بشأنه... متنقلاً بين مراكز التحقيق والقضاء لإثبات براءته. وعام 2013، انطلقت مظاهرات ضخمة في المحافظات الغربية (السنّية) من العراق طالت نحو سنة قبل قمعها من قبل السلطات آنذاك. ومع أن المتظاهرين قدّموا مطالب بدت مشروعة، اتهمتها السلطات في حينه أن من يقف خلفها هو تنظيم «داعش».
لم يكن قد برز في ذلك الوقت اسم محمد الحلبوسي، ولكن برز اسم خميس الخنجر رجل الأعمال وأحد الشيوخ العشائريين في محافظة الأنبار. وعام 2014 أصبح الحلبوسي نائباً في البرلمان العراقي ورئيساً للجنة المالية البرلمانية. ثم خرج من البرلمان ليغدو محافظاً للأنبار. ثم عام 2018 عاد عضواً في البرلمان وأصبح رئيساً له وهو بعمر الـ37. يومها لم يكن فقط أصغر رئيس برلمان بتاريخ العراق، بل صار أيضاً أحد أبرز اللاعبين في المعادلة السياسية في البلاد.
في هذه الأثناء كان الخنجر مغضوباً عليه شيعياً، قبل أن يتغير المشهد بعد فترة غير طويلة ليظهر في صورة بدت تاريخية في وقتها مع نوري المالكي وهادي العامري وعدد من أبرز قيادات الشيعة. وبدت تلك بمثابة غسيل تاريخ قديم واستئناف تاريخ آخر.
للعلم، لم تكن العلاقة طيبة بين الحلبوسي والخنجر، نتيجة لصراع النفوذ في المحافظات الغربية. لكن بعد انتخابات 2021 تغير المشهد تماماً مع تغيّر النتائج ومعها أدوار اللاعبين الإقليميين والدوليين. كذلك، صار مقتدى الصدر رقماً صعباً، قسم بروزه «البيت الشيعي» إلى قسمين، هما «التيار الصدري» و«الإطار التنسيقي»، فشلت إيران في توحيدهما رغم كل محاولاتها، الأمر الذي بدأ يثير المزيد من الشكوك حول جدية تراجع الدور الإيراني.
عودة إلى الكرد الذين كانت مواقفهم موحدة حيال المركز أو بغداد، فإن المنصب السيادي الأكبر لهم (رئاسة الجمهورية) فكك قوتهم بسبب تناحرهم عليه ما حرمهم من دورهم القديم كـ«بيضة القبان». وفي حين لم يعد بينهم وبين الشيعة «تحالف تاريخي»، بل حل محله الآن نوع من التناحر بسبب خرق الحزب الديمقراطي الكردستاني قاعدة ثبات «البيوت» المكوناتية التي بناها الآباء المؤسسون (الشيعة والكرد)، أدى الوضع الجديد إلى إضعاف «البيت الشيعي» وتفاقم «الخلاف الكردي - الكردي».
وبالتالي، كان لافتاً المشهد في أنقرة الذي جمع الحلبوسي والخنجر - اللذين ظهرا في صورة واحدة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ومدير استخباراته فيدان حقان - بل كان «مريباً: بالنسبة للقوى الشيعية. وهنا يرى الخبراء السياسيون أن تركيا استثمرت تراجع الأولويات الأميركية - الإيرانية حيال الملف العراقي، فتمكنّت من ملء الفراغ عبر توحيد البيت السنّي. وفي المقابل، عبّرت التصريحات التي أطلقتها العديد من القيادات الشيعية بعد «الصورة الرباعية» في أنقرة عن التخوف من تحوّل الشيعة إلى أقلية في الحكومة المقبلة. وهذا يعني من وجهة نظر هذه القيادات أن الشيعة لن يتمكنوا من فرض رغباتهم داخل البرلمان، وأن تركيا ستتمدد نفوذا وقوة بتحالف سنّي كبير وقد يلتحق به قسم من الكرد في مرحلة لاحقة.



«صراع الأضداد» في فرنسا يحمى وطيسه

ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)
ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)
TT

«صراع الأضداد» في فرنسا يحمى وطيسه

ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)
ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)

مرحلتا «التعايش» أو «المساكنة» الأولى والثانية في فرنسا كانتا في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران الاشتراكي مع رئيسيْ حكومة من اليمين الديغولي هما جاك شيراك (بين عاميْ 1986 و1988) وإدوار بالادور (بين 1993 و1995)، ثم في زمن الرئيس شيراك، حين شغل الاشتراكي ليونيل جوسبان منصب رئاسة الحكومة طيلة خمس سنوات (1997 و2002). وانتهت المرحلة الأخيرة بإعادة انتخاب شيراك لولاية ثانية من خمس سنوات.

الحكم العامودي

رغم تعاقب العهود والتغيّرات في الآيديولوجيا والأولويات وبرامج الحكم، لم تعرف حقاً أزمات خطيرة؛ بفضل صلابة المؤسسات التي أرساها الجنرال شارل ديغول التي وفرت التعاقب السلمي والسلس على السلطة.

أما اليوم، فإن قراري الرئيس إيمانويل ماكرون، مساء 9 يونيو (حزيران) الماضي، حل البرلمان بعد الهزيمة التي ضربت تحالف الأحزاب الثلاثة المؤيدة له في الانتخابات الأوروبية، والدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة، أدخلا فرنسا في أزمة عميقة لا أحد يعرف كيف الخروج منها ولا الحدود التي ستقف عندها.

لوبن ومعها بارديلا (آ ب)

ويوماً بعد يوم، تتكشف الظروف، التي أحاطت بقرار ماكرون الفجائي، الذي اتخذه بمعزل عن الحكومة ومن دون القيام بالمشاورات التي يُلزمه بها الدستور، وتحديداً مع رئيسيْ مجلسي الشيوخ والنواب ورئيس الحكومة. ولم يعد سراً أن الأخير، غابرييل أتال (35 سنة)، كان معارضاً بقوة لقرار ماكرون الذي يدين له بكل شيء، ولكونه أصغر رئيس حكومة في تاريخ البلاد منذ عام 1802، حين وصل الجنرال نابوليون بونابرت - ولاحقاً الإمبراطور - إلى منصب «القنصل الأول» ما يساوي منصب رئيس الحكومة.

كذلك اعتبر إدوار فيليب، رئيس الحكومة الأسبق، والرئيس الحالي لحزب «هورايزون» المتحالف مع ماكرون، أن الأخير «قتل الأكثرية الرئاسية»، لذا «يتوجب الذهاب إلى أكثرية مختلفة لن تكون كسابقتها». أما فرنسوا بايرو، الحليف الرئيس لماكرون ورئيس حزب «الحركة الديمقراطية» المنضوية تحت لواء التحالف الداعم له، فرأى أن المعركة الانتخابية التي تلي حل البرلمان «ليست معركة سياسية بل صراع من أجل البقاء».

ماكرون ومجموعته الضيقة

بناءً عليه، صار واضحاً، اليوم، أن ماكرون اتخذ قراره مع مجموعة ضيقة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. وفي اجتماع دُعيت إليه في قصر الإليزيه يائيل بيفيه ـ براون، رئيسة مجلس النواب، ليس للتشاور، بل لإبلاغها قراره، طلبت منه الأخيرة اجتماعاً على انفراد لتبلغه رفضها حل البرلمان الذي ترأسه منذ سنتين، مذكّرة إياه بالمادة الدستورية التي تُلزم رئيس الجمهورية بالتشاور معها. ولقد وافق ماكرون على طلبها، إلا أن الاجتماع، في غرفة جانبية، لم يدُم سوى دقيقتين.

ما حصل مع بيفيه ـ براون، جرى أيضاً مع جيرار لارشيه، رئيس مجلس الشيوخ، المنتمي إلى اليمين التقليدي - حزب «الجمهوريون» - والرجل الثاني في الدولة الذي يشغل هذا المنصب، من غير انقطاع، منذ عام 2014.

إذ نقلت صحيفة «لوموند» أن لارشيه، الذي لم يكن حاضراً الاجتماع الطارئ في الإليزيه، تلقى اتصالاً هاتفياً من ماكرون، في الثامنة والربع من مساء التاسع من يونيو (حزيران) الماضي، وأن الاتصال دام دقيقة ونصف الدقيقة.

وتابعت الصحيفة أن لارشيه، الطبيب البيطري السابق، انتقد ماكرون؛ لعدم احترامه المادة 12 من الدستور، الأمر الذي عدَّه «انتقاصاً من دور المؤسسة التي يرأسها»، وبالتالي من منصبه ومنه شخصياً. وسأل لارشيه، ماكرون: «هل فكّرت ملياً بما قرّرت فعله؟»، وجاء ردّ رئيس الجمهورية: «نعم، أنا أتحمل كامل المسؤولية ومستعد للتعايش» مع حكومة من غير معسكره السياسي.

التعايش مع اليمين المتطرف!

بالنظر لنتائج الانتخابات الأوروبية، التي شهدت احتلال حزب «التجمع الوطني»، اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبن، وترؤس الشاب جوردان بارديلا لائحتها، المرتبة الأولى وحصوله على 34 في المائة من الأصوات، كان ماكرون يعني التعايش مع حكومة من اليمين المتطرف. وهذا ما كان سيُدخل فرنسا نادي الدول التي سيطر عليها هذا اليمين؛ أكان بالكامل كما في إيطاليا وهولندا، أم جزئياً كما في المجر والدنمارك والسويد.

إلا أن لارشيه، المعروف باعتداله ووسطيته، انتقد نهج الحكم الماكروني قائلاً له أن «عمودية حكمه - أي إمساكه بالقرار السياسي وحرمان حكومته من هامش من التصرف - قادته إلى العزلة التي يعاني منها راهناً». وخلاصة القول إن قلة اكتراث ماكرون بالمؤسسات وبدور رئيس الحكومة والنقابات، وما يسمى الهيئات الوسيطة، كالنقابات مثلاً، أدت إلى «القطيعة مع الرئيس»، بمن في ذلك المرشحون للانتخابات التي أُجريت دورتاها يوميْ 30 يونيو، و7 يوليو (تموز) الحالي. وكان من أبرز معالم هذه القطيعة أن أحداً من المرشحين لم يطلب دعم ماكرون في حملته الانتخابية؛ لأنه اعتبر أن حضوره سيؤدي إلى نتائج عكسية. كذلك كان اللافت أن أياً من المرشحين لم يضع صورته إلى جانب صورة ماكرون على ملصقاته الانتخابية.

تبعات المبادرة الماكرونية..

لقد أفادت نتائج الدورة الانتخابية الأولى الرسمية والنهائية، التي صدرت عن وزارة الداخلية، أن حزب «التجمع الوطني»، ومعه حليفه أريك سيوتي، رئيس حزب «الجمهوريون» المنشقّ والملتحق بـ«التجمع الوطني»، حصل على 33.15 في المائة من أصوات الناخبين، وعلى 10.7 مليون صوت، في تحوّل لم يعرفه سابقاً، كما تمكّن 37 من مرشحيه من الفوز منذ الجولة الأولى.

ثم حلّت «الجبهة الشعبية الجديدة»، التي تشكلت في وقت قياسي، والتي تضم ثلاثة أحزاب يسارية وحزب «الخضر»، في المرتبة الثانية بحصولها على 28 في المائة من الأصوات.

أما «ائتلاف الوسط»، الداعم لماكرون وعهده، فقد حلّ في المرتبة الثالثة، إذ رسا على ما دون عتَبة الـ21 في المائة. وللعلم، تمكّن اليسار من إيصال 32 نائباً منذ الدورة الأولى، مقابل نائبين فقط للائتلاف الأخير. وأصاب الانهيار أحزاب العهد الثلاثة في الصميم، وكذلك حزب «الجمهوريون» الذي تقلّص ناخبوه إلى 6.75 في المائة، بعدما هيمن، طيلة عقود، على الحياة السياسية في فرنسا.

نعم، جاءت نتائج الجولة الأولى صادمة وبمثابة قرع لجرس الإنذار محذِّرة من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة عبر الانتخابات البرلمانية. وطيلة الأسبوع الفاصل بين الجولتين الأولى والثانية، كان السؤال المحوَري يدور حول ما إذا كان اليمين المتطرف سيحصل على الأكثرية المطلقة في البرلمان أم لا.

وأخذ جوردان بارديلا، الذي رشحه «التجمع الوطني» لرئاسة الحكومة، بينما تتحضر مارين لوبن للعبور إلى قصر الإليزيه في الانتخابات الرئاسية لعام 2027، يتكلّم إلى الإعلام وكأنه واصل غداً إلى رئاسة الحكومة.

بيد أن هذه النتائج دفعت «الجبهة الشعبية الجديدة» و«ائتلاف الوسط»، رغم التباعد الآيديولوجي والسياسي بينهما والحملات السياسية والشخصية العنيفة المتبادلة طيلة ثلاثة أسابيع، إلى الاتفاق على سحب مرشحيهما من الدوائر التي حلّوا فيها في المرتبة الثالثة لكي تصب الأصوات كافة لصالح المرشح المناهض لليمين المتطرف، مهما كان لونه السياسي. والحقيقة أن «معجزة» تحقّقت، واتفق الطرفان على سحب 220 مرشحاً أكثريتهم من جبهة اليسار، الأمر الذي قلَب النتائج المرتقبة سلفاً رأساً على عقب.

ظواهر فرضت نفسها

في أي حال، ثمة أربع ظواهر فرضت نفسها:

الأولى أن «الجبهة الجمهورية» التي شكلت لوقف زحف اليمين المتطرف إلى السلطة نجحت في مهمتها. فبدل أن تثبت جولة الإعادة نتائج الجولة الأولى، ها هو اليمين المتطرف يحل في المرتبة الثالثة، ما وأد أحلامه السلطوية مع أنه نجح في إيصال 125 نائباً إلى البرلمان الجديد، مقابل 89 نائباً في البرلمان السابق.

والثانية أن جبهة اليسار، ومَن انضم إليها، حلّوا في المرتبة الأولى مع 195 نائباً، يتبعهم في ذلك ائتلاف الوسط الرئاسي (166 نائباً) الذي خسر 84 نائباً.

والثالثة أن أية مجموعة من المجموعات الرئيسة الثلاث لم تحصل على الأكثرية المطلقة (289 نائباً) أو لامستها، الأمر الذي أوجد وضعاً سياسياً بالغ التعقيد، وجعل تشكيل حكومة جديدة صعب المنال.

والرابعة قوامها أن القرار السياسي انتقل من قصر الإليزيه، حيث خرج ماكرون ضعيفاً في المنافسة الانتخابية بسبب ضعف مجموعته السياسية وفقدان سيطرته على المجموعات الأخرى، إلى البرلمان. وهو ما أعاد فرنسا - بمعنى ما - إلى عهود «الجمهورية الرابعة» عندما كان القرار بيد المشرّعين وليس بيد رئيس الجمهورية.

انتخابات بلا فائز

يعطي الدستور الفرنسي تسمية رئيس الحكومة لرئيس الجمهورية، كما أنه لا يُلزمه بمهلة محددة لاختياره. بيد أن العُرف يقول إنه يتوجب عليه أن يُوكل المهمة إلى شخصية من «التجمع»، أو الحزب الفائز بالانتخابات، أو الذي يحل في المرتبة الأولى؛ أي في حالة الانتخابات الأخيرة، إلى «الجبهة الشعبية الجديدة».

بيد أن ماكرون يتمهل وتجمعه (ائتلاف الوسط)، ومعهما اليمين التقليدي (حزب «الجمهوريون»)، الذي حصل على 65 نائباً. وهؤلاء يراوغون ويستمهلون ويسوّقون الأعذار لمنع اليسار من الوصول إلى السلطة بحجة هيمنة حزب «فرنسا الأبية»، والمرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون، عليه. ومنذ الأحد الماضي، يوجه هؤلاء سهامهم على ميلونشون؛ لأنهم يرون فيه نقطة الضعف الرئيسة، ويواظبون على نعته بـ«معاداة السامية»، وبالسعي لهدم النظام الديمقراطي، وإثارة الفوضى والطوائفية.

وتضاف إلى ما سبق حجتان: الأولى أن اليسار عاجز عن توفير أكثرية في مجلس النواب باعتبار أنه ليست ثمة مجموعة من المجموعتين الكبريين تقبل بالتحالف معه للوصول إلى العدد السحري (289 نائباً). والثانية أن «لا أحد فاز في الانتخابات الأخيرة»، كما أكد وزير الداخلية جيرالد درامانان... باعتبار أن المجموعات الثلاث نالت أعداداً متقاربة من النواب.

وبالفعل، سارع ماكرون إلى استخدام الحجة الأخيرة في «الرسالة» التي وجّهها إلى الفرنسيين، الأربعاء، عبر الصحافة الإقليمية - وهي الثانية من نوعها منذ حل البرلمان. وعمد الرئيس إلى استخلاص النتائج وطرح تصوّره للأيام المقبلة، فيما تجهد جبهة اليسار، بشِق النفس وبمفاوضات شاقة، إلى التوافق حول اسم مرشح تطرحه لرئاسة الحكومة وسط كمٍّ من الأسماء.

وهنا، لم يتردد أوليفيه فور، أمين عام الحزب الاشتراكي، في طرح نفسه للمنصب، علماً بأن هناك صراعاً داخلياً قائماً بين الحزب الاشتراكي وحزب «فرنسا الأبية» على تزعّم تجمع اليسار و«الخضر». وحلم ماكرون ومجموعته إحداث شرخ داخل «جبهة اليسار» بحيث يبتعد الاشتراكيون و«الخضر» - وأيضاً الشيوعيون - عن ميلونشون و«فرنسا الأبية»، بحيث يتاح المجال لتشكيل حكومة «قوس قزح» من اليمين وائتلاف الوسط واليسار غير الميلونشوني؛ بمعنى إقصاء أقصى الطرفين خارجها، أي من جهة، اليمين المتطرف ممثلاً بـ«التجمع الوطني»، ومن جهة ثانية، اليسار المتشدد ممثلاً بـ«فرنسا الأبية».

وللتذكير، طلب ماكرون، في رسالته التي لقيت احتجاجات قوية، لا بل تنديداً شديداً بـ«مناورته» الجديدة، من «كل القوى السياسية التي ترى نفسها داخل المؤسسات الجمهورية، أن تنخرط في حوار صادق ونزيه من أجل بناء أكثرية صلبة تكون بطبيعة الحال متعددة». وأردف أنه يريد «التمهّل بعض الوقت من أجل التوصل إلى تسويات بهدوء واحترام للجميع»، مكرّراً من جديد أن «لا أحد فاز» في هذه الانتخابات.