تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

بعد 7 أشهر من «الإجراءات الاستثنائية»

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية
TT

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

بعد 7 أشهر من القرارات «الاستثنائية» التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 يوليو (تموز) 2021، وبرّرها أنصاره بـ«تصحيح مسار ثورة 2011»، تعمقت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وأخذت بعض هذه الأزمات أبعاداً دولية خطيرة، فيما يجمع كل الخبراء على أن تونس ستكون من بين أكثر البلدان تضرراً من حرب أوكرانيا وروسيا ومن تضخم أسعار المحروقات عالمياً، في وقت تتعثر مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي والبنوك العالمية للحصول على قروض لا تقل عن 6 مليارات دولار أميركي تحتاجها تونس لتغطية عجز مالي غير مسبوق في موازنة الدولة للعام الحالي.
وفي حين تؤكد مصادر حكومية أن السلطات انتصرت سياسياً على معارضي الرئيس سعيّد «والإجراءات الاستثنائية»، تتعالى تحذيرات داخل البلاد وخارجها من سيناريوهات «إفلاس الدولة وآلاف الشركات الخاصة»، ومن انفجار سياسي أمني اجتماعي مجهول العواقب، و«انهيار بعض مؤسسات الدولة» ومؤسساتها المالية والسياسية. وفي موازاة ذلك، تزايدت الضغوط الأممية والدولية لدفع السلطات إلى العودة لـ«المسارين الديمقراطي والبرلماني واحترام استقلالية القضاء والحريات العامة والفردية».

كشف الخبير الاقتصادي والنقابي التونسي عبد الجليل البدوي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن الدراسة التي نشرها قبل أيام في كتاب حول الأبعاد الدولية لميزانية الحكومة عام 2022 تؤكد أن «المؤشرات التنموية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السلبية تجاوزت كل الخطوط الحمراء». وأضاف أن الأوضاع استفحلت خلال الأشهر القليلة الماضية، وتوشك أن تتطور إلى «انهيار شامل للدولة» وإلى «انتشار المجاعة داخل الفئات الفقيرة»، وإلى «مزيد من تدهور أوضاع الطبقات الوسطى والعاملين في الوظيفة العمومية».
البدوي توقع أيضاً أن تتزايد ضغوط صندوق النقد الدولي والخارج على السلطات التونسية بسبب ثغرات ميزانية 2022، بما يوشك أن يجعل من الدولة «رهينة لدى الصندوق». وهو ما يعني دفعها نحو «إحالة عشرات آلاف الموظفين على البطالة أو التقاعد المبكر وبيع المؤسسات العمومية المفلسة، مثل شركات النقل والكهرباء والغاز والنفط والحبوب والمواد الغذائية... إلخ».

نسب الفقر والبطالة
في الاتجاه نفسه، أورد مالك الزاهي، وزير الشؤون الاجتماعية والناطق الرسمي باسم الحكومة، قبل أيام أن 963 ألف عائلة تونسية تضم 4 ملايين مواطن، أي نحو ثلث الشعب، أصبحت تعاني من الفقر. وكشف الناطق باسم الحكومة أن الإخفاق المدرسي والاضطرابات في قطاع التعليم تسببا في ترفيع نسبة الأميين في البلاد من مليون قبل 10 سنوات إلى نحو مليونين حالياً. ومن جانبه، حمّل الخبير الاقتصادي الدولي والأكاديمي المستقل جمال الدين العويديدي مسؤولية هذه المؤشرات «لسياسات الحكومات المتعاقبة منذ مدة، وللحكومة الحالية».
وفي سياق متصل، أورد عبد الرحمن الهذيلي، رئيس «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن دراسة أعدها خبراء مؤسسته كشفت أن عدد الإضرابات والاعتصامات والتحركات الاحتجاجية تجاوزت خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) من العام الجاري الألفين، وأن عددها يوشك أن يتضاعف خلال الأشهر المقبلة بسبب غلاء الأسعار واستفحال مشكلات البطالة والفقر، وانسداد الآفاق السياسية والمهنية والثقافية لدى الشباب «الذي أصبح لا يثق في مؤسسات الدولة وفي قدرتها على توفير شغل لائق له». ولقد سجلت الدراسة عينها أن غالبية الاحتجاجات الشبابية والتحركات الاجتماعية والسياسية أصبحت منظمة ولم تعد تلقائية وفوضوية، وأنها انتشرت كذلك في العاصمة والجهات المهمشة وبين مئات الآلاف من أصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل.
في هذه الأثناء، حذّر الزعيم المعارض والوزير السابق أحمد نجيب الشابي من استفحال الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية بعد 7 أشهر مما وصفه بـ«الانقلاب على الدستور». كذلك، طالب البرلماني والخبير المالي عياض اللومي بإقالة حكومة «التكنوقراط» الحالية برئاسة نجلاء بودن، قائلاً إن فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة منذ «منعرج 25 يوليو» يذكّر بـ«حكومة هشام المشيشي التي أطاح بها الرئيس قيس سعيّد وعمرها 7 أشهر فقط واتهمها بالفشل والفساد».
وبينما حذّر رضا الشكندالي، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، من الأبعاد السياسية والأمنية والاجتماعية للتضخم المالي وارتفاع الأسعار، فإنه استدل بكون آخر تقارير المؤسسة الحكومية للإحصاء أوردت أن الأسعار ارتفعت بنسبة ناهزت 8 في المائة، فيما ناهزت نسب ارتفاع أسعار لحوم الدجاج 23 في المائة، وأسعار زيت الزيتون 22 في المائة، وأسعار البيض 16 في المائة، كما زادت أسعار الفواكه 17 في المائة، وأسعار الأسماك 10 في المائة.

قرارات رئاسية جديدة
من جهة أخرى، يتساءل مراقبون عن موقف الحكومة ورئاسة الجمهورية والأوساط المحسوبة عليها، وبينها «تنسيقيات قيس سعيّد» و«حراك 25 يوليو» من المتغيرات السلبية السريعة التي تربط المعارضة وبعض النقابات بينها وبين غلق البرلمان المنتخب وشلّ عدد من المؤسسات المنتخبة، من بينها المجلس الأعلى للقضاء.
الرئيس سعيّد والمقربون منه يردّون بالقول إن تسوية كل المشكلات تبدأ بـ«محاربة الفساد داخل قطاعات القضاء وعالم المال والأعمال»، وإن قصر قرطاج أصدر قرارات رئاسية بالجملة نصّت على عقوبات بالسجن وعقوبات مالية تشمل رجال الأعمال والتجار المتهمين بالاحتكار وترفيع الأسعار و«تجويع الشعب». كذلك أعلن الرئيس سعيّد خلال زيارات ليلية أداها إلى مقر وزارة الداخلية عن إجراءات أمنية حازمة بهدف «التصدي» لمن وصفهم بـ«المتآمرين والخونة والمتورّطين في تدمير الاقتصاد وترفيع الأسعار بهدف دفع الشعب نحو التجويع والتركيع».
لكن عدداً من الأكاديميين المستقلين مثل جمال الدين العويديدي، وبعض وزراء الشؤون الاقتصادية السابقين مثل توفيق الراجحي، يعتبرون أن الأزمة الاقتصادية السياسية الحالية، بأبعادها الوطنية والدولية، لا يمكن اختزالها في «إجراءات استثنائية أمنية» قد تبرّرها «مؤامرات بعض المتهمين بالاحتكار والتهريب والفساد المال»، بل تمتد إلى «أزمة بديل» أو «بدائل». وهنا أيضاً انتقد بعض الخبراء والإعلاميين، مثل الكاتب الصحافي حسان العيادي، «تقديم رئيس الدولة وبعض المقربين منه إجابات أمنية للأزمة السياسية والاقتصادية، وللعجز التجاري، ولفشل الحكومة في توفير الموارد المالية الأجنبية التي تستحقها ميزانية الدولة، والتي سوف تحتاجها في توريد حاجيات البلاد من المواد الغذائية والمحروقات والتجهيزات الضرورية».

تأثير الأزمة الأوكرانية
في هذه الأثناء، دعا بلاغ رسمي صدر عن رئاسة «المعهد العربي لرؤساء المؤسسات» بتونس الحكومة إلى التعجيل بتشكيل خلية أزمة لإيجاد بدائل تتصل بمصادر شراء القمح في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا التي تعد أول مزود لتونس بهذه المواد. وطالب خبراء «المعهد» في وثيقة أصدروها تحت عنوان «الحرب في أوكرانيا... التأثيرات المحتملة والإجراءات المطلوبة» بإيجاد آليات للتمويل، لأن تونس تقع حالياً تحت وطأة خطر مرتفع للتخلف عن سداد ديونها. إذ تعاني تونس، التي تستورد 84 في المائة من حاجياتها من القمح اللين و40 في المائة من القمح الصلب و50 في المائة من حاجاتها من الشعير العلفي، من نقص مزمن على مستوى قدراتها التخزينية التي تغطي 3 أشهر فقط. ويمكن أن تؤدي أسعار تداول الحبوب في السوق العالمية، حالياً، إلى أعباء إضافية لتناهز مليار دولار ونصف مليار. وقد تؤدي زيادات الأسعار الحالية للمحروقات وللحبوب في مضاعفة أعباء «صندوق الدعم» التي تضخمت خلال العشرية الماضية، واستفحلت منذ 7 أشهر.
في المقابل، برزت تباينات في تقييم السياسات المالية والبنكية والنقدية للسلطات منذ 7 أشهر، وذلك بعد تزايد تدخل الحكومة في قرارات البنك المركزي والبنوك. وهنا انتقد بعض السياسيين والنقابيين، مثل عبد الجليل البدوي، اعتماد «سياسة تضارب المصالح» بين رئاسة البنك المركزي من جهة، ووزارة المالية والحكومة من جهة أخرى. في حين كشف أحمد كرم، المدير العام لأحد البنوك التجارية والرئيس السابق للجمعية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية التونسية، أن نسبة القروض والتمويلات التي توفرها البنوك التونسية للدولة ارتفعت من 6 في المائة عام 2010 إلى 22 في المائة حالياً. وأشار الناشط السياسي والخبير الاقتصادي الصادق جبنون إلى أن تدخل البنوك لتمويل المستثمرين والخواص تراجع بسبب رصد الأموال لدعم ميزانية الدولة والمؤسسات العمومية التي تواجه صعوبات بالجملة.
وبينما حذر زعماء نقابيون وسياسيون من «مغامرة توريط البنوك» في تحمل أعباء كل مخاطر الاقتصاد التونسي ومسؤولية تمويل الدولة ونفقاتها الاجتماعية والاستهلاكية، معتبرين أن هذه الوضعية قد تضر بقدرة البنوك على ممارسة نشاطها الأصلي والمساهمة في خلق الثروة في البلاد عبر تمويل المستثمرين ورجال الأعمال والخواص، رأى أحمد كرم أن الوضعية الاقتصادية والمالية والسياسية أصبحت حرجة جداً اليوم. وأردف أن الاستثمار وعالم الأعمال يتعثران ما يكثّف «ضبابية المستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد». وتابع كرم أن أرباح البنوك التونسية انخفضت العام الماضي بـ30 في المائة. ورجح أن يتواصل هذا الانخفاض ما لم تتغير الأولويات السياسية والمالية لصناع القرار.

الأزمة السياسية
ما سبق كان حال الواقع الاقتصادي، ولكن ماذا عن الحصيلة السياسية للأشهر السبعة من «الإجراءات الاستثنائية» وغلق البرلمان وعدة مؤسسات دستورية وتجميد أغلب فصول الدستور؟
مؤيدو الرئيس سعيّد ينوهون رداً على هذا التساؤل بالإشارة إلى «شعبية قيس سعيّد المرتفعة»، بينما يصعّد خصومه السياسيون خطابهم، بمن فيهم بعض مَن كانوا من أكثر المقربين إليه، مثل قيادات «الكتلة الديمقراطية» وحزبي «التيار الديمقراطي» و«الشعب» بزعامة الوزراء السابقين محمد عبو وغازي الشواشي وسالم الأبيض. ولقد ساهمت استقالة بعض الوزراء والمستشارين في قصر قرطاج، من بينهم الوزيرة ومديرة مكتب الرئيس نادية عكاشة، في خلط الأوراق وتعقيد الموقف وسط ترويج الإعلام لـ«خلافات داخل السلطة» وخاصة بين وزير الداخلية توفيق شرف الدين وخصومه.
ثم إنه على الرغم من توقف المظاهرات المعارضة للسلطة التي نظمها كل من هيئة «مواطنون ضد الانقلاب» وأنصار «المبادرة الديمقراطية» و«الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية»، فإن جبهات سياسية بدأت تتشكل بزعامة شخصيات حقوقية وعلمانية وسياسيين لعبوا في العشرية الماضية مثل الوزراء السابقين رضا بالحاج وأحمد نجيب الشابي وعبد الرحمن الأدغم وعبد الرؤوف بالطبيب وزعماء «تنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية» بزعامة غازي الشواشي وخليل الزاوية وعصام الشابي.
ودولياً، صعّد عدد من أعضاء الكونغرس الأميركي والبرلمانات الأوروبية والدولية انتقاداتهم للنظام التونسي، بينما وجّه عدد من السفراء الأميركيين السابقين بتونس والدول العربية رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن تطالبه بالتدخل «دعماً للاستثناء التونسي وللديمقراطية العربية الوحيدة التي نجحت ثم وقع الانقلاب عليها». وفي حين لوّح جوزيب بورّيل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بعقوبات اقتصادية ضد الحكومة التونسية، أعربت ميشيل باشيليه، مفوضة الأمم المتحدة السّامية لحقوق الإنسان، في كلمة لها بثّت على موقع المفوضية على اليوتيوب، عن «قلق عميق لاستمرار تعليق عمل مجلس نواب الشعب في تونس ولقرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء ومضايقة المعارضين».
باشيليه، وهي الرئيسة السابقة لجمهورية تشيلي، رأت أن حل المجلس الأعلى للقضاء في تونس قرار يقوض سيادة القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات في البلاد. كذلك، انتقدت مفوضية حقوق الإنسان الأممية والاتحادات الدولية للمحامين والبرلمانيين وحقوق الإنسان «محاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية».

انفراج سياسي واقتصادي
في المقابل، بادرت السلطات الأمنية والسياسية أخيراً إلى الإفراج عن البرلماني الوزير السابق للعدل نور الدين البحيري، أحد قياديي حزب «حركة النهضة»، وألغت قرار فرض الإقامة الجبرية الذي صدر ضده وضد عدد من السياسيين والبرلمانيين ورجال الأعمال. ولقد رحب نقيب المحامين إبراهيم بودربالة وعدد من زعماء المعارضة بالإفراج عن البحيري، وببوادر «الانفراج السياسي»، رغم انتقاداتهم لتوقيف نقيب المحامين السابق عبد الرزاق الكيلاني أخيراً من قبل محكمة عسكرية بسبب تصريح سياسي.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من انشغال العالم بالغزو الروسي لأوكرانيا والتصعيد بين روسيا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، حصلت تونس أخيراً على وعود من البنك العالمي والبنك الأفريقي للتنمية ومؤسسات مالية عالمية وإقليمية دعماً لبعض المشروعات التنموية والاجتماعية. وفي هذا الصدد، أعلنت وزارة الاقتصاد والتخطيط أن الوزير سمير سعيّد وقّع مع البنك الأفريقي للتنمية بتونس على اتفاقية القسط الثاني من القرض الممنوح من البنك لتونس لإنجاز المرحلة الثانية من برنامج تطوير البنية التحتية للطرقات بقيمة 104 ملايين يورو، أي ما يعادل 335 مليون دينار تونسي.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.