تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

بعد 7 أشهر من «الإجراءات الاستثنائية»

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية
TT

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

بعد 7 أشهر من القرارات «الاستثنائية» التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 يوليو (تموز) 2021، وبرّرها أنصاره بـ«تصحيح مسار ثورة 2011»، تعمقت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وأخذت بعض هذه الأزمات أبعاداً دولية خطيرة، فيما يجمع كل الخبراء على أن تونس ستكون من بين أكثر البلدان تضرراً من حرب أوكرانيا وروسيا ومن تضخم أسعار المحروقات عالمياً، في وقت تتعثر مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي والبنوك العالمية للحصول على قروض لا تقل عن 6 مليارات دولار أميركي تحتاجها تونس لتغطية عجز مالي غير مسبوق في موازنة الدولة للعام الحالي.
وفي حين تؤكد مصادر حكومية أن السلطات انتصرت سياسياً على معارضي الرئيس سعيّد «والإجراءات الاستثنائية»، تتعالى تحذيرات داخل البلاد وخارجها من سيناريوهات «إفلاس الدولة وآلاف الشركات الخاصة»، ومن انفجار سياسي أمني اجتماعي مجهول العواقب، و«انهيار بعض مؤسسات الدولة» ومؤسساتها المالية والسياسية. وفي موازاة ذلك، تزايدت الضغوط الأممية والدولية لدفع السلطات إلى العودة لـ«المسارين الديمقراطي والبرلماني واحترام استقلالية القضاء والحريات العامة والفردية».

كشف الخبير الاقتصادي والنقابي التونسي عبد الجليل البدوي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن الدراسة التي نشرها قبل أيام في كتاب حول الأبعاد الدولية لميزانية الحكومة عام 2022 تؤكد أن «المؤشرات التنموية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السلبية تجاوزت كل الخطوط الحمراء». وأضاف أن الأوضاع استفحلت خلال الأشهر القليلة الماضية، وتوشك أن تتطور إلى «انهيار شامل للدولة» وإلى «انتشار المجاعة داخل الفئات الفقيرة»، وإلى «مزيد من تدهور أوضاع الطبقات الوسطى والعاملين في الوظيفة العمومية».
البدوي توقع أيضاً أن تتزايد ضغوط صندوق النقد الدولي والخارج على السلطات التونسية بسبب ثغرات ميزانية 2022، بما يوشك أن يجعل من الدولة «رهينة لدى الصندوق». وهو ما يعني دفعها نحو «إحالة عشرات آلاف الموظفين على البطالة أو التقاعد المبكر وبيع المؤسسات العمومية المفلسة، مثل شركات النقل والكهرباء والغاز والنفط والحبوب والمواد الغذائية... إلخ».

نسب الفقر والبطالة
في الاتجاه نفسه، أورد مالك الزاهي، وزير الشؤون الاجتماعية والناطق الرسمي باسم الحكومة، قبل أيام أن 963 ألف عائلة تونسية تضم 4 ملايين مواطن، أي نحو ثلث الشعب، أصبحت تعاني من الفقر. وكشف الناطق باسم الحكومة أن الإخفاق المدرسي والاضطرابات في قطاع التعليم تسببا في ترفيع نسبة الأميين في البلاد من مليون قبل 10 سنوات إلى نحو مليونين حالياً. ومن جانبه، حمّل الخبير الاقتصادي الدولي والأكاديمي المستقل جمال الدين العويديدي مسؤولية هذه المؤشرات «لسياسات الحكومات المتعاقبة منذ مدة، وللحكومة الحالية».
وفي سياق متصل، أورد عبد الرحمن الهذيلي، رئيس «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن دراسة أعدها خبراء مؤسسته كشفت أن عدد الإضرابات والاعتصامات والتحركات الاحتجاجية تجاوزت خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) من العام الجاري الألفين، وأن عددها يوشك أن يتضاعف خلال الأشهر المقبلة بسبب غلاء الأسعار واستفحال مشكلات البطالة والفقر، وانسداد الآفاق السياسية والمهنية والثقافية لدى الشباب «الذي أصبح لا يثق في مؤسسات الدولة وفي قدرتها على توفير شغل لائق له». ولقد سجلت الدراسة عينها أن غالبية الاحتجاجات الشبابية والتحركات الاجتماعية والسياسية أصبحت منظمة ولم تعد تلقائية وفوضوية، وأنها انتشرت كذلك في العاصمة والجهات المهمشة وبين مئات الآلاف من أصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل.
في هذه الأثناء، حذّر الزعيم المعارض والوزير السابق أحمد نجيب الشابي من استفحال الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية بعد 7 أشهر مما وصفه بـ«الانقلاب على الدستور». كذلك، طالب البرلماني والخبير المالي عياض اللومي بإقالة حكومة «التكنوقراط» الحالية برئاسة نجلاء بودن، قائلاً إن فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة منذ «منعرج 25 يوليو» يذكّر بـ«حكومة هشام المشيشي التي أطاح بها الرئيس قيس سعيّد وعمرها 7 أشهر فقط واتهمها بالفشل والفساد».
وبينما حذّر رضا الشكندالي، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، من الأبعاد السياسية والأمنية والاجتماعية للتضخم المالي وارتفاع الأسعار، فإنه استدل بكون آخر تقارير المؤسسة الحكومية للإحصاء أوردت أن الأسعار ارتفعت بنسبة ناهزت 8 في المائة، فيما ناهزت نسب ارتفاع أسعار لحوم الدجاج 23 في المائة، وأسعار زيت الزيتون 22 في المائة، وأسعار البيض 16 في المائة، كما زادت أسعار الفواكه 17 في المائة، وأسعار الأسماك 10 في المائة.

قرارات رئاسية جديدة
من جهة أخرى، يتساءل مراقبون عن موقف الحكومة ورئاسة الجمهورية والأوساط المحسوبة عليها، وبينها «تنسيقيات قيس سعيّد» و«حراك 25 يوليو» من المتغيرات السلبية السريعة التي تربط المعارضة وبعض النقابات بينها وبين غلق البرلمان المنتخب وشلّ عدد من المؤسسات المنتخبة، من بينها المجلس الأعلى للقضاء.
الرئيس سعيّد والمقربون منه يردّون بالقول إن تسوية كل المشكلات تبدأ بـ«محاربة الفساد داخل قطاعات القضاء وعالم المال والأعمال»، وإن قصر قرطاج أصدر قرارات رئاسية بالجملة نصّت على عقوبات بالسجن وعقوبات مالية تشمل رجال الأعمال والتجار المتهمين بالاحتكار وترفيع الأسعار و«تجويع الشعب». كذلك أعلن الرئيس سعيّد خلال زيارات ليلية أداها إلى مقر وزارة الداخلية عن إجراءات أمنية حازمة بهدف «التصدي» لمن وصفهم بـ«المتآمرين والخونة والمتورّطين في تدمير الاقتصاد وترفيع الأسعار بهدف دفع الشعب نحو التجويع والتركيع».
لكن عدداً من الأكاديميين المستقلين مثل جمال الدين العويديدي، وبعض وزراء الشؤون الاقتصادية السابقين مثل توفيق الراجحي، يعتبرون أن الأزمة الاقتصادية السياسية الحالية، بأبعادها الوطنية والدولية، لا يمكن اختزالها في «إجراءات استثنائية أمنية» قد تبرّرها «مؤامرات بعض المتهمين بالاحتكار والتهريب والفساد المال»، بل تمتد إلى «أزمة بديل» أو «بدائل». وهنا أيضاً انتقد بعض الخبراء والإعلاميين، مثل الكاتب الصحافي حسان العيادي، «تقديم رئيس الدولة وبعض المقربين منه إجابات أمنية للأزمة السياسية والاقتصادية، وللعجز التجاري، ولفشل الحكومة في توفير الموارد المالية الأجنبية التي تستحقها ميزانية الدولة، والتي سوف تحتاجها في توريد حاجيات البلاد من المواد الغذائية والمحروقات والتجهيزات الضرورية».

تأثير الأزمة الأوكرانية
في هذه الأثناء، دعا بلاغ رسمي صدر عن رئاسة «المعهد العربي لرؤساء المؤسسات» بتونس الحكومة إلى التعجيل بتشكيل خلية أزمة لإيجاد بدائل تتصل بمصادر شراء القمح في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا التي تعد أول مزود لتونس بهذه المواد. وطالب خبراء «المعهد» في وثيقة أصدروها تحت عنوان «الحرب في أوكرانيا... التأثيرات المحتملة والإجراءات المطلوبة» بإيجاد آليات للتمويل، لأن تونس تقع حالياً تحت وطأة خطر مرتفع للتخلف عن سداد ديونها. إذ تعاني تونس، التي تستورد 84 في المائة من حاجياتها من القمح اللين و40 في المائة من القمح الصلب و50 في المائة من حاجاتها من الشعير العلفي، من نقص مزمن على مستوى قدراتها التخزينية التي تغطي 3 أشهر فقط. ويمكن أن تؤدي أسعار تداول الحبوب في السوق العالمية، حالياً، إلى أعباء إضافية لتناهز مليار دولار ونصف مليار. وقد تؤدي زيادات الأسعار الحالية للمحروقات وللحبوب في مضاعفة أعباء «صندوق الدعم» التي تضخمت خلال العشرية الماضية، واستفحلت منذ 7 أشهر.
في المقابل، برزت تباينات في تقييم السياسات المالية والبنكية والنقدية للسلطات منذ 7 أشهر، وذلك بعد تزايد تدخل الحكومة في قرارات البنك المركزي والبنوك. وهنا انتقد بعض السياسيين والنقابيين، مثل عبد الجليل البدوي، اعتماد «سياسة تضارب المصالح» بين رئاسة البنك المركزي من جهة، ووزارة المالية والحكومة من جهة أخرى. في حين كشف أحمد كرم، المدير العام لأحد البنوك التجارية والرئيس السابق للجمعية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية التونسية، أن نسبة القروض والتمويلات التي توفرها البنوك التونسية للدولة ارتفعت من 6 في المائة عام 2010 إلى 22 في المائة حالياً. وأشار الناشط السياسي والخبير الاقتصادي الصادق جبنون إلى أن تدخل البنوك لتمويل المستثمرين والخواص تراجع بسبب رصد الأموال لدعم ميزانية الدولة والمؤسسات العمومية التي تواجه صعوبات بالجملة.
وبينما حذر زعماء نقابيون وسياسيون من «مغامرة توريط البنوك» في تحمل أعباء كل مخاطر الاقتصاد التونسي ومسؤولية تمويل الدولة ونفقاتها الاجتماعية والاستهلاكية، معتبرين أن هذه الوضعية قد تضر بقدرة البنوك على ممارسة نشاطها الأصلي والمساهمة في خلق الثروة في البلاد عبر تمويل المستثمرين ورجال الأعمال والخواص، رأى أحمد كرم أن الوضعية الاقتصادية والمالية والسياسية أصبحت حرجة جداً اليوم. وأردف أن الاستثمار وعالم الأعمال يتعثران ما يكثّف «ضبابية المستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد». وتابع كرم أن أرباح البنوك التونسية انخفضت العام الماضي بـ30 في المائة. ورجح أن يتواصل هذا الانخفاض ما لم تتغير الأولويات السياسية والمالية لصناع القرار.

الأزمة السياسية
ما سبق كان حال الواقع الاقتصادي، ولكن ماذا عن الحصيلة السياسية للأشهر السبعة من «الإجراءات الاستثنائية» وغلق البرلمان وعدة مؤسسات دستورية وتجميد أغلب فصول الدستور؟
مؤيدو الرئيس سعيّد ينوهون رداً على هذا التساؤل بالإشارة إلى «شعبية قيس سعيّد المرتفعة»، بينما يصعّد خصومه السياسيون خطابهم، بمن فيهم بعض مَن كانوا من أكثر المقربين إليه، مثل قيادات «الكتلة الديمقراطية» وحزبي «التيار الديمقراطي» و«الشعب» بزعامة الوزراء السابقين محمد عبو وغازي الشواشي وسالم الأبيض. ولقد ساهمت استقالة بعض الوزراء والمستشارين في قصر قرطاج، من بينهم الوزيرة ومديرة مكتب الرئيس نادية عكاشة، في خلط الأوراق وتعقيد الموقف وسط ترويج الإعلام لـ«خلافات داخل السلطة» وخاصة بين وزير الداخلية توفيق شرف الدين وخصومه.
ثم إنه على الرغم من توقف المظاهرات المعارضة للسلطة التي نظمها كل من هيئة «مواطنون ضد الانقلاب» وأنصار «المبادرة الديمقراطية» و«الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية»، فإن جبهات سياسية بدأت تتشكل بزعامة شخصيات حقوقية وعلمانية وسياسيين لعبوا في العشرية الماضية مثل الوزراء السابقين رضا بالحاج وأحمد نجيب الشابي وعبد الرحمن الأدغم وعبد الرؤوف بالطبيب وزعماء «تنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية» بزعامة غازي الشواشي وخليل الزاوية وعصام الشابي.
ودولياً، صعّد عدد من أعضاء الكونغرس الأميركي والبرلمانات الأوروبية والدولية انتقاداتهم للنظام التونسي، بينما وجّه عدد من السفراء الأميركيين السابقين بتونس والدول العربية رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن تطالبه بالتدخل «دعماً للاستثناء التونسي وللديمقراطية العربية الوحيدة التي نجحت ثم وقع الانقلاب عليها». وفي حين لوّح جوزيب بورّيل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بعقوبات اقتصادية ضد الحكومة التونسية، أعربت ميشيل باشيليه، مفوضة الأمم المتحدة السّامية لحقوق الإنسان، في كلمة لها بثّت على موقع المفوضية على اليوتيوب، عن «قلق عميق لاستمرار تعليق عمل مجلس نواب الشعب في تونس ولقرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء ومضايقة المعارضين».
باشيليه، وهي الرئيسة السابقة لجمهورية تشيلي، رأت أن حل المجلس الأعلى للقضاء في تونس قرار يقوض سيادة القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات في البلاد. كذلك، انتقدت مفوضية حقوق الإنسان الأممية والاتحادات الدولية للمحامين والبرلمانيين وحقوق الإنسان «محاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية».

انفراج سياسي واقتصادي
في المقابل، بادرت السلطات الأمنية والسياسية أخيراً إلى الإفراج عن البرلماني الوزير السابق للعدل نور الدين البحيري، أحد قياديي حزب «حركة النهضة»، وألغت قرار فرض الإقامة الجبرية الذي صدر ضده وضد عدد من السياسيين والبرلمانيين ورجال الأعمال. ولقد رحب نقيب المحامين إبراهيم بودربالة وعدد من زعماء المعارضة بالإفراج عن البحيري، وببوادر «الانفراج السياسي»، رغم انتقاداتهم لتوقيف نقيب المحامين السابق عبد الرزاق الكيلاني أخيراً من قبل محكمة عسكرية بسبب تصريح سياسي.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من انشغال العالم بالغزو الروسي لأوكرانيا والتصعيد بين روسيا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، حصلت تونس أخيراً على وعود من البنك العالمي والبنك الأفريقي للتنمية ومؤسسات مالية عالمية وإقليمية دعماً لبعض المشروعات التنموية والاجتماعية. وفي هذا الصدد، أعلنت وزارة الاقتصاد والتخطيط أن الوزير سمير سعيّد وقّع مع البنك الأفريقي للتنمية بتونس على اتفاقية القسط الثاني من القرض الممنوح من البنك لتونس لإنجاز المرحلة الثانية من برنامج تطوير البنية التحتية للطرقات بقيمة 104 ملايين يورو، أي ما يعادل 335 مليون دينار تونسي.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.