المضاربون يربحون الكثير من مراهناتهم على الفنانين الشباب

تجذب أعمال الفنانة البريطانية فلورا يوكنوفيتش (31 عاماً) جمهوراً عريضاً من هواة جمع الأعمال الفنية والمضاربين (نيويورك تايمز)
تجذب أعمال الفنانة البريطانية فلورا يوكنوفيتش (31 عاماً) جمهوراً عريضاً من هواة جمع الأعمال الفنية والمضاربين (نيويورك تايمز)
TT

المضاربون يربحون الكثير من مراهناتهم على الفنانين الشباب

تجذب أعمال الفنانة البريطانية فلورا يوكنوفيتش (31 عاماً) جمهوراً عريضاً من هواة جمع الأعمال الفنية والمضاربين (نيويورك تايمز)
تجذب أعمال الفنانة البريطانية فلورا يوكنوفيتش (31 عاماً) جمهوراً عريضاً من هواة جمع الأعمال الفنية والمضاربين (نيويورك تايمز)

قبل ثلاث سنوات، كانت لوحاتها الكبيرة تُباع في غاليري غير معروف بنحو 40 ألف دولار للواحدة. وفي عام 2021، أُعيد بيع إحدى لوحاتها في دار مزادات «سوذبيز» الشهيرة بمبلغ قياسي بلغ 3.1 مليون دولار. وعُلقت لوحة أخرى في منزل وزير المالية البريطاني ريشي سوناك بشارع «داونينغ ستريت».
فلورا يوكنوفيتش (31 عاماً) رسامة بريطانية افتُتح معرضها الفردي الأول في معرض «فيكتوريا ميرو» في لندن، الثلاثاء الماضي، وتعد واحدة من أكثر النجوم الصاعدة رواجاً في عالم الفن، إذ تجذب أعمالها جمهوراً عريضاً من هواة جمع الأعمال الفنية والمضاربين.
وتعليقاً على الطلب الكبير على أعملها، قال مات كاري ويليامز، رئيس مبيعات «فيكتوريا ميرو»، إن «عدد الجامعين المهتمين والجادين الذين استفسروا عن العمل يقدّر بالمئات».
إن حالة السخونة السائدة في سوق لوحات يوكنوفيتش هي أحد أعراض الظاهرة المعروفة باسم «التقليب». فعندما يفوق الطلب على فنانين معينين العرض بشكل كبير، يمكن لأولئك المحظوظين الذين حصلوا على أعمالهم عبر المعارض تحقيق أرباح طائلة حال عرضوها في مزاد علني مرة أخرى. لكن المعارض الفنية تحرص على تجنب ذلك، إذ إن سوق إعادة البيع تجعل من الصعب على الفنانين الحفاظ على استمرارية أعمالهم بعد أن عاود إنتاجهم القديم الظهور لينافس الحديث.
بالعودة إلى عام 2014، خلال موجة المضاربة الأخيرة للفنون الناشئة، كانت اللوحات التجريدية للوسيان سميث، والتي كانت عصرية في زمنها، تعاود الظهور في المعارض، بشكل روتيني في مزاد بأضعاف سعرها القديم. لكن السوق سرعان ما بردت، وبحلول عام 2015، توقف سميث عن المشاركة في المعارض التجارية بعد أن أُصيب بخيبة أمل.
وفي نفس السياق، قالت كاري ويليامز إن «نتائج المزاد لا تؤثر على استراتيجية التسعير المعتمدة لعمل فلورا». تتمتع الفنانة فلورا يوكنوفيتش، التي رفضت إجراء مقابلة ضمن هذا المقال، بأسلوب رسم مميز يزيل الطابع المادي للموضوعات مزدحمة العناصر والشخصيات التي لطالما تبناها الأساتذة القدامى، وتستبدلها بها دوامات من الألوان.
تتراوح أسعار أحدث أعمال يوكنوفيتش في غاليري «فيكتوريا ميرو» بين 135 ألف دولار و470 ألف دولار (100 ألف إلى 350 ألف جنيه إسترليني)، مما يعكس «الارتفاع البطيء والحذر لأسعار لأعمال الفنانة خلال الأشهر الـ18 الماضية»، وفقاً لكاري ويليامز.
وعموماً لم تكن مخاطر المضاربة على أسعار لوحات الفن الشاب المعاصر أكثر مما هي الآن. ففي عام 2014، جمعت أعمال فنانين تقل أعمارهم عن 40 عاماً 181 مليون دولار في مزاد علني. وفي العام الماضي، حققوا رقماً قياسياً بلغ 450 مليون دولار، بزيادة قدرها 275% عن عام 2020، حسب شركة «Artprice»، التي مقرها فرنسا والمعنية بمتابعة مبيعات المزادات الدولية. تعجب الكثيرون من الارتفاع السابق للسوق عندما ارتفعت أسعار لوحات لفنانين مثل سميث، وجاكوب كاساي، وأوسكار موريللو لدفع أسعار المزاد لما فوق 300 ألف دولار. وجاءت أسعار المبيعات الأخيرة لفنانين مثل يوكونوفيتش، وماثوي يونغ، وِفري سينغر لتعطي دفعة جديدة للأرقام.
في هذا الصدد، قالت ويندي كرومويل، المستشارة الفنية المقيمة في نيويورك: «لقد توسعت السوق منذ عام 2014، فهناك الكثير من الناس وهناك الكثير من المال في السوق، وهناك منافسة لعدد قليل من الفنانين، وهو ما يؤدي إلى اشتعال الأسعار بدرجة كبيرة».
استطردت كرومويل قائلة إن مشتري الفن المعاصر باهظ الثمن هم أيضاً أصغر سناً وإن موجة جديدة من المشاركين في الأربعينات والثلاثينات وحتى العشرينات من العمر، الذين أثروا من خلال الميراث والاقتصاد التكنولوجي، تعمل على تغيير طبيعة السوق. وأضافت: «حدث زلزال الشباب هذا ليقرر من يشتري العمل ومن يقوم بتوزيعه».
وحسب بيان «سوذبيز» لنهاية العام، فقد ساعد «تدفق جامعي الأعمال الأصغر سناً المتمرسين في مجال التكنولوجيا» دار المزادات على تحقيق مبيعات قياسية بلغت 7.3 مليار دولار في عام 2021، مع زيادة عدد المزايدين الذين تقل أعمارهم عن 40 عاماً بنسبة 187%.
نظراً إلى تركيز السوق على الشباب والتكنولوجيا، فليس من المستغرب أن يكون «إنستغرام» هو المحرك الرئيسي للاهتمام بعمل يوكنوفيتش، كما هو الحال مع الكثير من فناني اليوم.
ومن جانبه، قال مات واتكينز، مدير معرض «بارافين» في لندن، الذي أقام معرضاً منفرداً للوحات يوكنوفيتش في عام 2019: «صادفت فلورا على (إنستغرام)، وبالتأكيد لم أكن وحدي». كانت هناك شخصيات مؤثرة مثل كاري ويليامز ومؤرخ الفن الشاب كانت كاتي هيسيل، التي تضم صفحتها النسائية نحو 250 ألف متابع من المتحمسين الأوائل شأن صفحة «آرت فورم» على منصة «إنستغرام» والتي يضم 1.2 مليون متابع.
وأكدت كاري ويليامز أن «فيكتوريا ميرو» ستبيع أعمال يوكنوفيتش فقط «لهواة الجمع المحترمين، حيث يشعر كل من المعرض والفنان بالاطمئنان إلى أن عملية الاستحواذ ستعيش لفترة طويلة».
يعكس هذا نهج المعرض الخاضع للرقابة الصارمة للفنانة المرموقة نجيدكا أكونيلي كروسبي، المقيمة في لوس أنجليس، والتي تعطي أولوية المبيعات للمتاحف العامة لتعزيز سمعة كروسبي المالية واستبعاد المستثمرين. على مدى السنوات الست الماضية، وضعت «فيكتوريا ميرو» أعمالاً لكروسبي في «متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك»، وفي «المعرض الوطني للفنون في واشنطن»، و«متحف لوس أنجليس للفنون»، وفي غيرها من المؤسسات. وحسب «Artprice»، لم تجرِ إعادة بيع أي عمل كبير مؤخراً لهذا الفنان المطلوب في مزاد علني منذ عام 2018.
ونظراً لأن الوكلاء في أميركا وأوروبا مصممون على قصر مبيعات الفن الشاب المرغوب فيه على المجموعات العتيقة والراسخة، يتعين على المشترين الجدد البحث في أماكن أخرى.
باتت غانا على وجه الخصوص يُنظر إليها على أنها نقطة ساخنة للمواهب الناشئة. ففي العام الماضي، أُعيد بيع أعمال أحد أبرز الفنانين الشباب في البلاد وهو أمواكو بافو في مزاد بمبلغ 3.4 مليون دولار، رغم أن سعر بيعها السابق لم يتخطَّ 100 ألف دولار.
وفي هذا السياق، قالت فيكتوريا كوك، مديرة «معرض 1957»، وهو معرض في العاصمة الغانية أكرا، يمثل فنانين محليين ويعرض أعمالهم دولياً: «إنه يختلف عن أي شيء رأيته من قبل. حتى خلال فترة الوباء، كان هناك جامعون وصالات عرض هنا من باريس والولايات المتحدة والمملكة المتحدة. فالكثير من الناس يتجهون إلى المصدر مباشرةً»، مضيفة أن المشترين كانوا «مزيجاً من الجامعين والمضاربين». وأضافت كوك قائلة: «يمكن للناس الدخول وشراء استوديو من هنا وإعادة بيع الأعمال. قد تبدو هذه فرصة مثيرة إذا لم يكن لديك شخص موثوق به ينصحك بخلاف ذلك».
* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)