لن تكون أحداً غيرك

كلٌّ منّا نظيرُ ذاتِهِ التي لا تشبه سواها

آينشتاين
آينشتاين
TT

لن تكون أحداً غيرك

آينشتاين
آينشتاين

منذ صغره كان (س) معجباً بأينشتاين. وَجَدَ فيه صورة كاملة للبطل الأسطوري الذي يتناغم مع صورة البطل التي روّض نفسه ليكون على شاكلتها في المستقبل. قرأ كلّ ما وقعَتْ عليه عيناه وبلغتْهُ يداه من كتب في النسبية، الخاصة والعامة، ومنها تلك التي كتبها أينشتاين نفسه. صارت نسبية أينشتاين هي الشفرة السرية التي ستتكفل بفتح مغاليق الكون أمامه. لم يقتصر الأمر على حدود الفكر، بل تعدّاه للشكل والمظهر، صار صاحبنا (س) يطيل شَعْرَهُ على طريقة أينشتاين حتى بلغ به الأمر أن يشكّك في مقدرة أي فيزيائي ما لم يجعل شعره مثل شعر أينشتاين. لم يصبح (س) في نهاية الأمر أينشتايناً آخر، والأهمّ من هذا أنه لم يصبح نفسه. خسر نفسه وصورة أينشتاين المستقبلي، وصار كائناً شبحياً يدمنُ الطواف في عوالم كثيرة، ليس منها عالمه. عرف في عقده الخمسيني أنّ كثيراً من الفيزيائيين المجايلين لأينشتاين كانوا ذوي قدرات كبرى، ربما تفوقت على القدرات الفكرية لأينشتاين، والأهمّ من هذا أنهم لم يكونوا يطيلون شعورهم، ولا أخرجوا ألسنتهم من أفواههم بمثل ما فعل أينشتاين في صورة شائعة له. كانوا ذواتهم، ولم يخسروا أعمارهم في محاولة عبثية لخلق أينشتاينات جديدة.
الحالُ في الأدب لا يختلف عن حال البعض في العلم. يسعى كثيرون ليكونوا نُسَخاً من بورخِس أو ميلان كونديرا أو أومبرتو إيكو أو دوريس ليسنغ أو تولستوي أو دوستويفسكي أو مارغريت آتوود... إلخ. كان الواحد من هؤلاء عند البعض منّا أقرب إلى شخصيات أسطورية، صورة مضببة متعالية نشاهدها عن بعد، وليس من سبيل للمسها أو الاقتراب منها. ربما خفّت هذه الصورة المتطرفة عقب شيوع وسائل التواصل الاجتماعي التي وفّرت لنا إمكانية رؤية بعض هؤلاء المبدعين وهُمْ يتحدّثون إلى مخلوقات سواهم في إطار إنساني بعيد عن التفخيمات والاعتبارات المتعالية على عالم البشر.
إنّهُ لأمرٌ بالغ السوء أن يسعى بعضنا ليكون نسخة من فلان أو فلانة من مشاهير العلم وعظماء الأدب، ومثلما هو أمر سيئ، فهو أمرٌ ينطوي على مستحيلات موضوعية.
لماذا هو أمر سيئ؟ لأنك عندما تعظّمُ شخصاً – مهما تعالت قدراته – فإنّك تعطّلُ قدراتك الشخصية، وتبقى تدورُ في مداراته الخاصة. ستبقى مسكوناً بإنجازاته، ولن تكون أعمالك سوى تقليدٍ باهتٍ لأعماله، أو بعضِ رتوشٍ صغيرة في صورة كبيرة، هذا لو تحققت هذه الإنجازات، والغالب أنها لن تتحقق.
يتمثلُ السوءُ في تقليد الآخرين، وجعلهم مثاباتٍ عالية أمامنا في تعظيم مواهبهم، على حساب تقزيم مواهبنا. هكذا هو الحال؛ لعبة قبيحة يتآكل فيها جُرْفُك وتضمحلّ قدراتك وتضيع هويتك. الغريبُ أن لا أحد من هؤلاء طلب إليك أن تفعل هذا بنفسك. أنت مَنْ فعلت وارتضيت أن تكون ظلاً شاحباً لأحدهم.
أما المستحيلات الموضوعية فيمكن تصنيفها في مستحيلات نفسية وثقافية وبيولوجية. يلعبُ الثلاثي (العقل – الثقافة - البيولوجيا) دوراً متفرّداً في صناعة كلّ منجز علمي أو أدبي. كيف تتصور أنّ بوسعك محاكاة الفعاليات العقلية لفلان من المبدعين؟ هذه الفعالية هي نتاجُ تفاعلات عصبية في بنية دماغية تشتبك خلاياها المليارية بعضها مع بعض بطرق عصية على الاحتساب، ويمكن لأي تغيير بسيط في أحدها أن يُغيّر طبيعة الناتج النهائي الذي نسمّيه إبداعاً علمياً أو أدبياً. هل تتصورُ حجم هذه الاحتمالات؟ إنها تتجاوز عدد كلّ الذرات في الكون، ثمّ يأتي فلان أو فلانة ويتصوّر ببساطة إمكانية محاكاة التجربة الإبداعية لدى آخرين. هذه استحالة علمية، ولو أضفنا لهذه الاستحالة تأثير الثقافات والترسيمات البيولوجية المتباينة لتضاعفت إمكانية هذه الاستحالة. كتب أحد علماء الأنثروبولوجيا الثقافية يقول إن أينشتاين لو كان وُلِد - على سبيل المثال - في قبيلة الزولو الأفريقية لقضى حياته، وهو عاجز عن العدّ إلى 10 على أصابع يديه.
سأتناولُ الآن أمثلة مشخّصة، وستكون في حقل الأدب (الرواية) لأنه ميدان اهتمامي وشغفي الذي يتقدّم على اهتمامات أخرى. شاع اسم بورخِس كاتباً وشاعراً حتى ناقداً أدبياً في ستينات وسبعينات القرن العشرين، وربما كان اهتمامه بسردية العرب الكبرى «ألف ليلة وليلة» محفزاً لهذا الاهتمام العربي الطاغي. حلّت بعد بورخِس حقبة البنيوية والدراسات اللسانية، وصارت طائفة من الفلاسفة الفرنسيين السائرين على درب عالم الأنثروبولوجيا البنيوية «كلود ليفي شتراوس» هي المثال الأعلى للمثقفين العرب على الصعيدين الأكاديمي والعام، ثمّ عندما هدأت فورة البنيوية قليلاً صعد نجم «غارسيا ماركيز» وأدب أميركا اللاتينية الذي صارت عبارة «الواقعية السحرية» مثل تميمة ملازمة له تلازماً شرطياً. لم تَكَدْ ألاعيب الواقعية السحرية تخفت قليلاً حتى برقت نجوم روائية هنا وهناك في قارات العالم أجمع، وكلُّ نجمٍ منها راح يعزفُ لحنه الخاص مترسماً ملامح خريطة إبداعية تشتبك فيها شروط الحداثة الروائية بحيثيات مما بعد الحداثة في إطار فكري واسع سُمّي «الرواية المعاصرة». صارت النجوم الروائية تتلألأ كلّ حين وكلّ آن، وصارت عيون كثر منّا ترقبُ الموضات الروائية والأسماء التي تلبث طويلاً تحت لافتة «الكتب الأكثر مبيعاً». صرنا منقادين إلى لعبة السوق وما تفرضه من ذائقة وما تسعى لتكريسه من رؤى.
صار كثير منّا يتطلّعُ جاهداً لمحاكاة شكلية أو أسلوبية أو موضوعاتية، حقيقية أو متخيلة لكارلوس زافون أو دان براون أو إيلينا فيرانتي أو تشماماندا نغوزي أديتشي أو آلي سمث أو هيلاري مانتل. صارت ذائقتنا الأدبية وإحساسنا الجمالي رهينة بَخْسَة لمحدّدات تقع خارج حدود سيطرتنا وموجبات نزاهة الضمير واستقلالية الرأي. صرنا نُكْبِرُ كثيراً في ميّزات إبداعية مدّعاة لم نختبرها بأنفسنا، وغدونا أقرب لمثال من يرى ما لا يرى بفعل الضغط الإعلامي والبروباغاندا. لم يعُدْ مثال الإمبراطور العاري يصلح معنا؛ لأنّ الإمبراطور ذاته غدا كائناً مصطنعاً أوجدته عقول موهومة.
الإبداع يعني، في أحد تعريفاته الإجرائية الشائعة في أدبيات الإبداع والفعل الخلاق، وضع بصمتك على عملك، بما يكفل لجعله ميزة فردية لك، وليست ميزة مشاعية لكثرة من الناس. الإبداع يعني التفرّد بالتأكيد. يحضرُني بشأن هذه الحقيقة مشهد رائع في الفيلم السينمائي Copying Beethoven عندما أحضرت ناسخة أعمال بيتهوفن أوراقاً دوّنت عليها نوتة موسيقية لعمل كتبته، وأرادت من بيتهوفن مباركته وإبداء رأيه فيه. راح بيتهوفن يعزف المقطوعة على البيانو بطريقة ساخرة، ووصفها وصفاً قاسياً، ثمّ حصل بعد بضعة أيام أن عزف بيتهوفن المقطوعة ذاتها، لكن بعد أن وضع لمسته السحرية عليها؛ فتحوّلت من عمل موسيقي عادي إلى عمل جبار لا يختلف عن الفخامة الموسيقية التي تمتاز بها كلّ أعمال بيتهوفن. هذا هو الفرق بين عمل عادي وآخر خلاق، أن توقّع عملك ببصمتك الممهورة بقدراتك الذاتية التي لا تشبه قدرات شخص آخر سواك. أخلاقيات التفرّد هي ما يصنعُ الإبداع الخلاق؛ أما أخلاقيات الاستعارة والمحاكاة فتنتج أعمالاً مشوّهة.
كلٌّ منّا نسيجُ وحدِهِ ونظيرُ ذاته التي لا تشبه سواها. حتى في أمثولاتنا التراثية ما يفيدُ بتأكيد هذه الحقيقة؛ فقد قيل لفلان (وهو من أكابر اللغويين في زمانه، لا أذكر اسمه الآن): ما تقولُ في السيف؟ قال هو السيف. قيل له فما تقولُ في المهنّد والحسام... إلخ، قال أما هذه فصفات تحتملُ الكثرة، وأما السيف فموصوف واحد لا يقبل الكثرة.
أينشتاين هو أينشتاين، وبيتهوفن هو بيتهوفن، وبورخِس هو بورخِس، وفيرجينيا وولف هي فيرجينيا وولف، وفيليب روث روث هو فيليب روث، وزافون هو زافون، وإيلينا فيرانتي هي إيلينا فيرانتي... إلخ، ولن يأتي يوم يكون فيه أحد هؤلاء مكافئاً للآخر أو لأي منا، مثلما لا ينبغي أن نتطلّع لأن نكون أياً من هؤلاء. هكذا الطبيعة وقوانين الوراثة وتشكلاتنا العقلية وموجهاتنا السلوكية. هكذا المعلومات المشفرة في منظومتنا الجينية التي أضفنا عليها خبراتنا وأخلاقياتنا لاحقاً.
ليس أمراً معيباً أن نُعْجب بأحد المبدعين أو إحدى المبدعات في العلم أو الأدب أو أي نشاط معرفي؛ لكنّ حبّ إبداع أحدهم يختلف نوعياً عن الذيلية والذوبان في كينونته وإغفال قدراتنا الشخصية. المسلك الأفضل هو أن نحترم ذواتنا ولا نبخس حقّها في القدرة على الإنجاز، وننأى بأنفسنا عن الدوران في أفلاك آخرين. تلك لعبة خاسرة.



غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.