لن يطير «ذا باتمان»، الذي تم افتتاحه يوم أول من أمس في الولايات المتحدة وحول العالم، فوق موسكو وسائر المدن الروسية. 128 مليون وبعض الألوف الأخرى من الدولارات حققها الفيلم في الولايات المتحدة وكندا، وأكثر من ضعف ذلك (تحديداً 250 مليون دولار) حصدها حول العالم تؤكد أن الرجل الوطواط ما زال مرغوباً فيه بهذا العالم الداكن الذي نعيش فيه.
لكن الشركة المموّلة والموزعة «وورنر» هي من بين شركات هوليوود التي كانت أعلنت قبل نحو أسبوع سحب أفلامها من السوق الروسية احتجاجاً على غزو روسيا لأوكرانيا، وتماشياً مع قرارات مشابهة اتخذتها مؤسسات وهيئات سينمائية أخرى حول العالم.
كان «ذا باتمان» على موعد مع 2000 صالة عرض في روسيا، وكان من المفترض بالبطل الأعجوبة أن يطير فوق البلاد هذا الأسبوع أيضاً. لكن القرار ترك أصحاب الصالات هناك لاهثين في محاولة إعادة برمجة صالاتهم في آخر لحظة.
ويوم أول من أمس (الأحد) أصدرت شركة «نيكولوديون» قراراً بسحب فيلمها «بو باترول» (Paw Patrol) من الصالات ذاتها، رغم أن عروضه قد بدأت هناك بالفعل. إنتاج الفيلم يتبع شركة وتلفزيون «نيكولوديون»، وهو من الرسوم المتحركة الخاصة بالصغار.
«ثلاث ثوان»: مباراة كسر عظم بين روسيا وأميركا
قرارات منع
كل هذا في أعتاب قرارات منع بالجملة من قِبل مهرجانات السينما حول العالم. سارع مهرجان «كان» إلى تبني الموقف من عدم استقبال أي وفد روسي رسمي أو عرض أي فيلم روسي إلا إذا كان صانعوه مستقلين عن تمويل الدولة ومناهضين لسياستها.
قسما «نصف شهر المخرجين» و«أسبوع النقاد اللذان يشكلان جناحاً العروض الرسمية الأولى (المسابقة وخارجها ومظاهرة «نظرة ما») في «كان» أصدرا قراراً مشابهاً تضامناً مع الإدارة الأم.
إثر ذلك تداعت المواقف المشابهة أحياناً مع بعض التفاوت. مهرجان ««ڤينيسيا» سوف يستقبل أفلاماً روسية إذا ما كانت مستقلة، لكنه لن يرحب بأفلام ومؤسسات الدولة الروسية.
بعد ذلك، تلاحقت القرارات المشابهة (مع بعض التعديل أحياناً) من قِبل مهرجانات أوروبية وغير أوروبية أخرى، من بينها تورونتو وكارلوڤي ڤاري و«نيو دايركتورز- نيو فيلمز» (مهرجان نيويوركي تشرف عليه مؤسسة «لينكولن سنتر» الثقافية) التي أعلنت مقاطعتها كذلك. مثل «كان» و«ڤينيسيا»، فإن هذه المقاطعة وقفاً على الأفلام المنتمية إلى عجلة الإنتاج الروسي الرسمي، ولا تشمل الإنتاجات المستقلة ذاتها، كما ورد في إعلان صحافي تسلم منه هذا الناقد نسخة. وكان مهرجان غلاسكو، الذي بدأ عروضه في الثاني من هذا الشهر، قد سحب فيلمين روسيين، هما No Looking Back وThe Execution من برنامجه في آخر لحظة.
«لا نظر للخلف»، من إخراج كيريل سوكولوڤ، دراما حول امرأة (ڤكتويرا كوروتكوڤا) قضت عقوبة بضع سنوات في السجن وتبدأ حال خروجها سعياً لاستعادة ابنتها لكي تعيش معها. «الإعدام» للادو كڤاتانيا، فيلم تشويقي حول قاتل محترف تحاشى الوقوع في براثن القانون لسنوات عديدة قبل أن يُلقى القبض عليه. تقع الأحداث في فترة الاتحاد السوڤييتي.
إلى ما سبق، لم يصدر بعد أي مواقف (سلبية أو إيجابية) من مهرجانات أخرى مثل لوكارنو وسان سابستيان أو ريو دو جنيرو أو لندن أو سواها. الغالب أن هذه المهرجانات تأتي في النصف الثاني من السنة التي يتوقع للحرب الدائرة حالياً أن تكون انتهت قبل إطلاقها. وعدد قليل من المهرجانات الأوروبية لم تتخذ قراراً بإيقاف التعاون مع أي إنتاج روسي، رسمياً كان أو مستقلاً، ومن بينها مهرجان لوميسين في بودابست. كذلك، بوشر في لندن، عرض فيلم روسي بعنوان «بتروفز فلو» (Petrov's Flu) رغم المقاطعة للمخرج كيريل سربنيكوف ولا نية من إيقاف عرضه أو اقتلاعه من الصالات التي تعرضه.
يتخذ الفيلم من مرحلة ما قبل الثورة الشيوعية مكاناً لسرد أحداثه حول ذلك الرسّام بترو(ف (سيميون سرزن) الذي ينطلق في رحلة ما بين الواقع والخيال خلال إصابته بعارض برد.
فيلم روسي آخر لم يطله المنع هو «المشروع: جيميني» (Project: Gimin) لسيريك بيسيو: خيال علمي حول رحلة صوب مجهول مخيف فوق كوكب مجهول. الفيلم روسي، لكنه ناطق بالإنجليزية، ومتوفر في سوق الدي ڤي دي حالياً في فرنسا وتايوان، ومن المنتظر له أن يطرح في هذه الأسواق خلال باقي الشهر في الولايات المتحدة وألمانيا، وباقي الأسواق الآسيوية والأوروبية الأخرى.
«دونباس» عن الفساد في أوكرانيا
رد جاهز
من بين الأفلام الجديدة الأخرى التي تعاقدت عليها شركات توزيع أوروبية لعرضها في أسواقها «ثلاث ثوان» (لأنطون ماغرديتشيڤ تقع أحداثه في الفترة السوڤييتية حول مباراة كسر عظم بين الروس والأميركيين) و«بطل العالم» (سيرة بطل شطرنج لأليكسي سيدوروڤ) و«ابن الثري» (كوميديا لكليم شيبنكو).
غياب الأفلام الأميركية من السوق الروسية يعني خسارة مزدوجة. كون السوق الروسية تخطى في السنوات القليلة الأخيرة حاجز الـ200 مليون دولار من الإيرادات في العام الواحد؛ ما يجعلها واحدة من بين أهم عشرة أسواق في العالم. للتحديد هي السوق السادسة عالمياً من حيث الأهمية.
بالتالي، منع أفلام وورنر وديزني وباراماونت وباقي الشركات العاملة في هوليوود سيحرمها من التمتع بحصّتها التي تصل إلى قرابة نصف هذه الحصيلة أو دونها قليلاً. لكن الرد الروسي جاهز وهو، كما أوردت مجلة «سكرين دايلي» مؤخراً، محط وجهتي نظر. الأولى تقضي بمنع عرض الأفلام القادمة من الدول التي عارضت الغزو لثلاثة أشهر من الآن. الأخرى، هو منعها لمدة قد تصل إلى ستّة أشهر هذه السنة.
أي من هذين القرارين اللذين يمرّان حالياً بفترة دراسة لن يكون بلا رد فعل سلبي داخل روسيا ينجلي عن انخفاض الرواد الذين اعتادوا على مشاهدة كل فيلم جديد آت من هوليوود.
خارج السوق التجارية على جانبيه، الروسي والعالمي، فإن السينما الروسية لديها سوق لا بأس بحجمها في صالات أوروبا. الفيلم الروسي في فرنسا وبريطانيا وألمانيا يجذب روّاداً يطلبونه لذاته، خصوصاً إذا ما شهد الفيلم نجاحاً إعلامياً مسبقاً خلال عرضه في أحد المهرجانات الرئيسية. إقبال جمهور المثقفين عليه يضعه خامساً بين الأفلام المستقلة التي تعرضها صالات تلك الدول الغربية من بعد أفلام أوروبية ولاتينية وصينية أو من جنوب شرقي آسيا.
بين أوكرانيين
ثم أن هناك انقساماً بين المثقفين والسينمائيين أنفسهم. هناك فريق يرى أن السينما لا يجب أن تقع ضحية السياسة مهما بلغ الأمر، وفريق (أكبر) يجد أنه من غير المعقول أن يتم التوقف عن شراء الغاز الروسي والسماح بأفلام روسية. في هذا النطاق دعا السينمائي الأوكراني إيغور شستوبالوڤ إلى منع كل شيء روسي على أساس أنه من غير المقبول ألا يكون المنع شاملاً وفي وقت واحد.
وكان المخرج الأوكراني سيرغي لوزنتسا من أشد الداعين إلى حرمان السينما الروسية من فرص العروض المختلفة في أوروبا لدرجة أنه سحب عضويته من «أكاديمية الفيلم الأوروبي»؛ لأنها لم تعلن موقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي السادس والعشرين من الشهر الماضي هاجم المخرج الأكاديمية بضراوة في رسالة مفتوحة لرفضها أن تسمي الأشياء بمسمياتها، واصفاً موقفها بـ«هرائي» وأنها «تخشى تسمية الحرب حرباً». بعد يومين من بيانه أصدرت الأكاديمية في الأول من هذا الشهر بياناً أكثر حدة منعت فيه الأفلام الروسية من الاشتراك في سباق الاتحاد الأوروبي السنوي. تبعا لذلك؛ سحب لوزنتسا استقالته وعاد إلى الأكاديمية كعضو فاعل من جديد.
لم يمر هذا الموقف من دون تعقيب صارم من قِبل سينمائيين أوكرانيين أنفسهم. أبرزهم المنتج دنيس إيڤانوڤ الذي سبق وأنتج للوزنتسا فيلم «دونباس» سنة 2018. يري إيڤانوڤ، أن المخرج الأوكراني ليس صادقاً في معارضته: «يجلس لوزنتسا في دارته في برلين آمناً. درس السينما في روسيا. هو روسي الثقافة. هاجر إلى ألمانيا بعد ذلك وما زال يعيش فيها. لديه جواز سفر أوكراني، لكن هذا الجواز لا يمنحه حق الحديث عن الأوكرانيين كافة. إذا كنت تريد أن تكون صادقاً عارض من هنا (كييڤ) المحاصرة من قِبل الجيش الروسي».
تنقلنا هذه المناوشة بين سينمائيين أوكرانيين إلى «دونباس» الفيلم المشترك بينهما. في ظاهره فيلم كوميدي تم إنتاجه سنة 2018 وفي عمقه هو نقد للفساد المستشري في مقاطعة دونباس، وهو الفساد ذاته الذي تحدّث عنه ڤلاديمير بوتين، معتبراً إياه أحد الأسباب الدافعة للهجوم على المقاطعة. وهو أيضاً الفساد الذي أجمع أوكرانيون مختلفون على أنه مستشرٍ في عموم أوكرانيا، وأيضاً تحدّثت عنه أفلام ومقالات بلغارية ورومانية وبولندية عدّة خلال السنوات القليلة الماضية.
فيلم إيڤانوڤ- لوزنتسا «دونباس» لديه موزّع أميركي (Film Movement) سيطلقه في بعض صالات الفن والتجربة في نيويورك في الثامن من الشهر المقبل. بعرضه يبدو الخيط نحيفاً بين المنع وعدمه وبين القضايا المختلفة والمواقف المتعددة من هذه الحرب الدائرة.
خلال ذلك، يتولّى السؤال التالي محاولة تصنيف ما يقع وتعريفه: هل المنع (وقد عرفته السينما مراراً من بداياتها وحتى اليوم تحت ستار مسببات مختلفة) هو سلاح قوّة أو سلاح ضعف؟
بالنسبة للبعض هو بالتأكيد سلاح قوّة؛ إذ يتم عبره منع العدو من استخدام مؤسسات الدول الديمقراطية لنشر ثقافته، لكن بالنسبة للبعض الآخر هو رد فعل ضعيف الشأن كونه يواجه ما يعتبره «بروباغاندا» بفعل من الوزن ذاته، خصوصاً عندما يتم حجب الفنون وأنواع الثقافة بأسرها
لكن المسألة ليست بلونين، أبيض وأسود، والمؤسسات الغربية التي تتدافع لمنع الأفلام الروسية من الاشتراك في مهرجاناتها، أو تحجب عن السوق الروسية أفلامها، تجد نفسها غير قادرة على إغفال موقف دولها السياسي عن جداول أعمالها، أو كما قال مسؤول في مهرجان أوروبي طلب عدم ذكر اسمه «كيف لنا مخالفة توجّه الدولة في قضيّة أساسية كهذه؟ سيبدو الأمر شذوذاً عن القاعدة غير مقبول تحت أي تبرير».