تكاد تتبلور سمات جليّة في أدب ما بعد 2003 في العراق، وخاصة لدى كتّاب الرواية، كتجسيد القسوة وشخصنة المآسي والرؤى العدمية، والإسراف في سرد تفصيلات العنف، حتى أصبح تناول الكاتب لها لا يشكّل إحراجاً، ويُعزى ذلك إلى ما يكتنف الواقع من أحداث صادمة تفوق الخيال. ومن غير المستغرب أن نقرأ اليوم، سواء لأدباء «الداخل أو الخارج»، إن تصحّ التسمية، موضوعات روايات تتشظى بين ثناياها أهوال فواجع ومواجع، وتسود مفردات مثل موت، دماء، تفجير، أشلاء، جثث، مقابر... إلخ. فقد أضحى العنف في أذهان الناس وواقعهم أمراً عادياً من فرط الفجيعة، كأن معادلة «ما قبل الموت وما بعد الحياة» فرضت جبروتها على الكيان الأدبي الذي صار يستدعي حضوراً قوياً للعجز وغياب الأمل، ما يقود بدوره إما إلى التهكم الممضّ من كل شيء حتى من الأمور التي تتسم بالجد والعقلانية، أو إلى تناول ما يجري عبر مسارات سردية غير نمطية، وإلى استيلاد آليات جديدة تلائم الأدب الديستوبي... فكيف يمكن لكاتب أن يكتب عن وقت تشييعه وحمل جنازته وهو يتحدث إلى المشيعين، بينما تستأثر القطط خلسة بكميات من أوصال بشرية بلا هوية، وجثث عائمة على المزابل، كما في رواية صلاح صلاح «بوهيميا الخراب»، أو يحكي المؤلف أثناء تشييعه عما يحدث من نزاعات بين أهل بيته حول دفنه، وعن تفاصيل وطن يغرز العنف فيه مخالبه، ويحيله إلى كينونة ممزقة، كما جاء في رواية «مياه متصحرة» لحازم كمال الدين؟
سبق أنْ ذكر الروائي غالب هلسا أن على بطل العمل الروائي أن يحمل اسم المؤلف، فغير ذلك هو تحايل فني ونسب الأحداث إلى مجهول، وقد أطلق هلسا اسمه على أبطاله في بعض رواياته... وهكذا هو الأمر في رواية «مياه متصحرة»، إذ يتردد صوت الروائي السارد، الذي هو البطل أيضاً، في الرواية صارخاً؛ أنا حازم كمال الدين. واستخدام اسم المؤلف في كل فصل ربما دلالة على أن ما يكتب على الورق هو واقع جارٍ، وأنه شاهد عليه، وتكراره دليل على احتمال أن كل ما حدث يمكن أن ينسب إليه... وكأن المؤلف المسرحي والروائي واقف على «خشبة» الرواية، وهو يردد بنبرة باردة ووجه محايد: «أنا حازم كمال الدين، بل أنا جثته، لم أعد إنساناً من لحم ودم، غير أني أعي ما يجري حولي، وأنا في دهاليز الموت وأنفاقه المتداخلة، هل أرى صحوة الموت أم غفوة الحياة؟». هو يصرخ ولكن لا أحد يسمعه، في رحلة من الموت إلى الموت، ومن العدم إلى العدم، في تداخل سردي، وكأن ذلك يأتي كردّ اعتبار لكل من ماتوا بطرق بشعة عن طريق الاغتيال والتفجير والتنكيل... يستغور السارد المؤلف في الاستذكار والسرد بطرق متعددة، ويواصل في الانزلاق بدهاليز وأنفاق وأشكال حلزونية لا توصل إلى شيء، سوى إلى الدوران الفوضوي، في نفس دوامة العنف الدموي الأزلية بهستيريا وجنون، ليسترجع الرؤى بفصول ليست كالفصول، عناوينها متكررة كتكرار دورة العنف والقهر في تاريخ العراق، كما لو أنه فعْل إدانة لواقع راهن ولقيم جديدة لا إنسانية خاوية اكتسبها الفرد العراقي جراء ما مرّ به من ظروف عنف وجور. ثم يتواصل البطل (المؤلف) في هلاوسه بتصوير بشاعة ما يحدث، حين يتداخل خيال مغرق بوهم غرائبي مع ما هو وثائقي وتسجيلي ومحكي ومسموع، بأسلوب مسرحي يهدف إلى الصدمة.
يمكن اختزال الرواية بأنها حكاية مواطن عراقي قتل بتفجير، وأثناء مراسيم تشييعه يتنازع أهله وأصدقاؤه على مكان وطريقة دفنه. وبين غيبوبة الموت الأولية والأبدية، يروي كل ما يجري من صراعات، مستحضراً ذكريات أجداده وأسلافه لكونه شاهداً على ما يجري، ثم ينتهي به المطاف ليكون جثة أو جزءاً منها... إلّا أن فعل الكتابة الروائية ليس استنساخاً فوتوغرافياً، فثمة تقنيات فنية ولغة متميزة وبناء سردي ومخيلة أدبية، يلجأ المؤلف إليها لتقديم أفكاره المتمثلة في جرعة تجريبية منفلتة من تقليدية ونمطية الأطر المقوْلبة، عبر استحضار الفانتازيا والأساطير والميثولوجيا المستنبطة من تاريخ العراق، كالطاووس والثور المجنح والطنطل والسحر وبطولات أهل البيت، وتركيبها بكولاج معماري متميز وبفضاءات سردية متشابكة غير مترابطة وغير مكترثة لزمان أو مكان أو لتسلسل كرنولوجي.
يبدو أنه في واقع لا يمتلك صفة واحدة من صفات المنطق، وفي بلد يتمدد على سرير الموت، لا يصلح سوى عنصر العبث في عالم الديستوبيا القاتم. لكن ما جدوى كل ذلك؟ ولماذا يسبب المؤلف القلق والتشويش للقارئ؟ لعله تقصّد هذا الشكل من الطرح بسبب ملائمته تماماً ليوميات البلاد، وما يطفح فيها من قبح ووفرة خوف، ولا استقرار، ولا أمان، ولعله يبصم بروايته تلك شهادة إدانة لكل من تسبب في الخراب من متدينين متشددين وسياسيين فاسدين وناس تابعين... إنها مياه خير نشفت، ومياه حضارة مدينية تصحرت، ومياه نهرين تضاءلت، ووادٍ ضمر، في «أرض مجبولة على ألا تزهر إلّا إذا سمّدتها البلايا»، أرض أجدبت، وطال الانتظار لرؤية موسم الإزهار الذي قد لا يحلّ فيها أبداً!
«مياه متصحّرة»... صحوة الموت أم غفوة الحياة!
حكاية مواطن عراقي في أرض مجبولة بالبلايا
«مياه متصحّرة»... صحوة الموت أم غفوة الحياة!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة