مع دخول العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا يومها التاسع، وتعثّر الخطط التي كان قد وضعها الكرملين لحسمها بسرعة، يزداد القلق في الأوساط الغربية من احتمال لجوء موسكو إلى استخدام الأسلحة النووية، الذي أوحى به فلاديمير بوتين في بداية المعارك، عندما صرّح فجر اليوم الذي بدأت فيه العمليات بقوله: «من يفكّر في التدخّل لعرقلة تقدمنا يجب أن يعرف أن الردّ سيكون فورياً، وأنه سيؤدي إلى عواقب لم تعرفوها في تاريخكم».
ورغم «التوضيحات» اللاحقة التي أدلى بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وكان آخرها ما صرّح به (الخميس) بأن الحرب النووية هي في أذهان الغرب ولا تريدها موسكو، «لكن إذا نُشرت أسلحة نووية ضدنا سنواجه الوضع»، ما زال «الهاجس النووي» يتصدّر اهتمامات القيادات الغربية، وبخاصة الأوروبية، التي تخشى أن يؤدي ارتفاع منسوب الضغوط التي يتعرّض لها الرئيس الروسي إلى إقدامه على مغامرة لم تكن في حسبان أحد حتى مطلع الأسبوع الماضي.
وكانت أوكرانيا قد اتهمت الاتحاد الروسي بممارسة الإرهاب النووي باستهدافه المحطات النووية الأوكرانية والسيطرة عليها. ودعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى الطلب من الحلف الأطلسي إقفال المجال الجوي فوق هذه المحطات وتعزيز الجهود لحمايتها، فيما اعتمد مجلس محافظي الوكالة، ظهر (الخميس)، قراراً تقدمت به كندا وبولندا ينتقد العمليات العسكرية الروسية، ويدعو موسكو إلى السماح للخبراء والفنيين الأوكرانيين بمواصلة تشغيل المحطات النووية ومراقبتها. وتمّ اعتماد القرار بموافقة 26 دولة، ومعارضة دولتين، هما الاتحاد الروسي والصين، وامتناع 5 دول، من بينها مصر وجنوب أفريقيا.
وخلال اليومين الماضيين، تحدثت «الشرق الأوسط» إلى عدد من الخبراء والدبلوماسيين المتخصصين في الشؤون النووية المعتمدين لدى الوكالة الدولية، واستطلعت آراءهم حول احتمالات إقدام موسكو على استخدام السلاح النووي في الأزمة الأوكرانية، وطرحت عليهم الأسئلة التالية؛ ماذا تعني، تقنياً وعسكرياً، الأوامر التي أعطاها الرئيس الروسي إلى وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان القوات المسلحة؟ ما المنطق الكامن وراء هذا التصعيد؟ هل فلاديمير بوتين مستعد فعلاً ليكون أول من يستخدم السلاح النووي بعد «هيروشيما وناكازاكي»؟
يقول الخبراء إن «الاحتواء» كان عنوان ردة الفعل الغربية حتى الآن على تصريحات الرئيس الروسي؛ خصوصاً أن الولايات المتحدة لم ترفع مستوى الإنذار النووي، والبيانات الرسمية اكتفت بانتقاد كلام بوتين، وهدفت إلى إشاعة الهدوء والاطمئنان إلى أن الرئيس الروسي لن يقْدم على إقران القول بالفعل.
وترى غالبية الخبراء أن الخيار النووي اليوم ليس وارداً. ويقول أحد الخبراء: «نعرف أن جعبة بوتين حافلة دائماً بالمفاجآت، وأنه غالباً ما يقْدم على خطوات لا يتوقع أحد منه أن يقدم عليها، لكنّ الخيار النووي مستبعَد، لأنه يعرّض روسيا لتبعات مخيفة». ويرى آخرون أنه لا يجب استبعاد لجوء بوتين إلى الخيار النووي بشكل نهائي، «لأن الوضع العسكري بات معقداً جداً، وهو يتعرّض لقدر هائل من الضغوط».
وإذ يرى الخبراء أنه من المستحيل معرفة الدواخل النفسية لمن يملك قرار إصدار الأمر باستخدام السلاح النووي، يشيرون إلى أن التعليمات التي أصدرها بوتين يوم الأحد الماضي لا تندرج بوضوح ضمن الفئات النووية الروسية المعروفة لدى الأجهزة الغربية، ولا ضمن التسميات الموحّدة المتعارف عليها حول السلاح النووي. ويتفق الخبراء على أنها لا تعني حالة استنفار قصوى، بل هي مجرد رسالة سياسية شديدة اللهجة. ويذكر أن مصادر البنتاغون أشارت، هذا الأسبوع، إلى أنها لم ترصد بعد أي تحرّك مشبوه في الترسانة النووية الروسية، وأن إعلان وزير الدفاع الروسي عن تنفيذ أوامر بوتين لا يعني أكثر من تعزيز القدرات البشرية في مراكز القيادة النووية.
من المعروف أن القوتين النوويتين الكبريين، الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، تملكان نسبة معيّنة من الترسانة النووية على جهوزية دائمة للاستخدام، بعضها استراتيجي بعيد المدى محمول على صواريخ تطلَق من منصات برية أو من غواصات أو من قاذفات جوية، والبعض الآخر تكتيكي قصير المدى يحمل رؤوساً نووية أقل قوة. وإذ يشير الخبراء إلى أن قدرة الردع النووي تتوقف على صدقية الرد، يذكّرون بأن رئيس هيئة الأركان الروسية فاليري غيراسيموف، كان قد صرّح نهاية العام الماضي بأن 95% من الصواريخ النووية الاستراتيجية الروسية جاهزة بصورة دائمة للمعارك.
أحد الدبلوماسيين الغربيين المخضرمين يرى أن المنطق الكامن وراء التصعيد في خطاب بوتين واضح جداً، وأن الهدف منه هو توجيه رسالة، مفادها أنه يريد النصر في هذه الحرب مهما كلّف الأمر، ويخشى التدخل المباشر من الحلف الأطلسي.
لكن رغم أن الدول الغربية أوضحت عدم نيّتها المواجهة المباشرة مع روسيا، يلاحظ بوتين أن ثمّة استعداداً متزايداً لتسليح أوكرانيا، وبالتالي قرر اللجوء إلى هذا التهديد، على أمل أن يردع هذه الدول عن الذهاب نحو خيارات أبعد، وفق الخبراء.
ويقول الخبراء إن العقيدة العسكرية الروسية السارية التي تضمّنها المرسوم الذي أصدره بوتين في 2 يوليو (تموز) 2020 تحدد الحالات الأربع التالية لاستخدام الأسلحة النووية: وصول بيانات موثوقة عن إطلاق صواريخ باليستية ضد أراضي الاتحاد الروسي أو الدول الحليفة - استخدام أحد الخصوم أسلحة نووية أو أسلحة دمار شامل ضد أراضي الاتحاد الروسي أو أحد حلفائه - هجوم على البنى التحتية العسكرية أو الحكومية الأساسية في الاتحاد الروسي، وإصابة القدرة على الرد بالأسلحة النووية - اعتداء على الاتحاد الروسي بالأسلحة التقليدية يهدد وجود الدولة.
وبما أن أياً من هذه الحالات ليس مطروحاً في الوقت الراهن، لجأ بوتين لتبرير قراره إلى الحديث عن «تصريحات عدوانية» من جانب كبار المسؤولين في بلدان الحلف الأطلسي. لكن رغم استبعاد لجوء بوتين إلى استخدام السلاح النووي لاعتبارات عسكرية وسياسية بدهية، يحذّر البعض من أن سجّل الرئيس الروسي حافل بتجاوز الحدود واستعداده لركوب المخاطر والمجازفة دفاعاً عن مصالحه. وثمّة من يشير إلى أن بوتين يعيش حالة انفصال عن الواقع، يستحيل تأكيدها، قد تكون ناجمة عن العزلة التي يعيش فيها منذ فترة. ويذكر أن المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أخبرت الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بعد اجتماعها بفلاديمير بوتين في عام 2014 بأن الرئيس الروسي «يعيش في عالم آخر».
وإذا أُضيف إلى ذلك الضغط الداخلي المتزايد الذي يتعرّض له بوتين جراء تعثر العمليات العسكرية وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية جراء العقوبات، لا يستبعد خبراء أن يلجأ إلى استخدام سلاح نووي تكتيكي ليوجّه رسالة إلى العالم بأنه مستعد للذهاب أبعد لتحقيق أهدافه، ظنّاً منه أن سلاحاً نووياً تكتيكياً لن يستجلب رداً عسكرياً من الحلف الأطلسي.
هل يلجأ بوتين إلى الخيار النووي؟
أوكرانيا تدين استهداف المحطات النووية... والغرب يختار سياسة «الاحتواء»
هل يلجأ بوتين إلى الخيار النووي؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة