فولوديمير زيلينسكي... كوميدي اقتحم السياسة ليواجه أخطر حرب

أضحك الأوكرانيين طويلاً... قبل المواجهة مع روسيا

فولوديمير زيلينسكي... كوميدي اقتحم السياسة ليواجه أخطر حرب
TT

فولوديمير زيلينسكي... كوميدي اقتحم السياسة ليواجه أخطر حرب

فولوديمير زيلينسكي... كوميدي اقتحم السياسة ليواجه أخطر حرب

لو كان مدرّس التاريخ في المسلسل الكوميدي الأوكراني الشهير «خادم الشعب» يعرف في 2018 أن مقالب التاريخ قد لا ترحم أحداً، لربما كان وضع «سيناريو» مختلفاً لنهاية القصة، التي أضحكت الأوكرانيين طويلاً على نخبهم السياسية. وقادت النجم الساخر إلى التربّع على رأس هرم السلطة في بلد يعاني انقساماً وحروباً أهلية وتسيطر على مقدرات الاقتصاد فيه طبقة من أثرياء الحرب والسياسة.
دارت أحداث المسلسل الذي ذاع صيته، وتابعه الملايين في ثلاثة مواسم 2015 - 2018 حول المدرس «فاسيلي جولوبورودكو» الذي دأب على توجيه انتقادات ساخرة ولاذعة إلى النخب السياسية الفاسدة في البلاد. وتقوده ظروف «كوميديا الموقف» إلى الترشح لمنصب الرئاسة رافعاً شعارات تدعو إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه. لكنه للمفاجأة الكبرى... يفوز.
يغدو الرئيس الذي يفتقر لكل أشكال الخبرة السياسية بينما عليه أن يواجه استحقاقات كبرى في البلاد.
إنها قصة، لو كان فلاديمير زيلينسكي، أو «فولوديمير» حسب اللهجة الأوكرانية، يدرك أنها ستتحول إلى واقع، لكان فكر مرتين.
لم يأخذ كثيرون في نهاية 2018 فكرة ترشيح فلاديمير زيلينسكي نفسه لمنصب الرئاسة في أوكرانيا على محمل الجد.
حتى الأداء الذي قدّمه وهو يستعد لخوض معترك السياسة كان هزلياً بشكل متعمد وصارخ، أثار ضحك الجمهور أكثر مما أثار لديه الرغبة في اكتشاف قدرات الرجل على مواجهة المواقف ال
صعبة. فهو أطلق على حزبه السياسي تسمية «خادم الشعب» مستفيداً من الشعبية الجارفة للمسلسل. وظهر في عدد من المناظرات ساخراً من خصومه متلبساً حقاً شخصية مدرس التاريخ. وحتى عندما أعلن ترشحه رسمياً ليلة رأس السنة، جاء ذلك في قالب كوميدي أثار إعجاب الأوكرانيين الذي تعبوا طويلاً من نخبهم السياسية التي انتهكت البلاد ونهبت ثرواتها وأدخلتها لسنوات طويلة في أزمات. لذلك عندما ظهر في منتصف الليل على شاشة المحطات التلفزيونية بنفس التوقيت الذي يقدم الرئيس فيه التهنئة الرسمية للشعب بالعام الجديد، ظن كثيرون أنها مجرد خدعة فنية. لكن الذي حدث كان أكثر من جدّي، فقد قاطعت المحطات التلفزيونية التسجيل الرسمي للرئيس بيترو بوروشينكو، وبثت مقطع «خادم الشعب» الذي يعلن فيه استعداده لتولي منصب الرئاسة.
صفق الأوكرانيون طويلاً للموقف. ولم يكن أحد يعرف أن البلاد طوت في تلك الليلة صفحة قاتمة من حكم الأوليغارشية، لتفتح صفحة جديدة تصاعدت فيها متاعب الرئيس حتى وصلت إلى مواجهة أسوأ حرب تشهدها أوكرانيا منذ الحرب العالمية الثانية.

اللعبة التي انقلبت إلى الجد
منذ سنوات طفولته الأولى عاش زيلينسكي المولود في بداية 1978 لأسرة يهودية في مدينة كريفوي روج، حياة مليئة بالإثارة والتشويق، وقد تكون سنواته الأولى رسمت ملامح مستقبله في المجال الفني الذي برع فيه لسنوات.
كان جده سيميون إيفانوفيتش زيلينسكي من أبطال الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية)، إذ قاد خلال سنوات الحرب سرية هواوين، وأبلى فيها بلاءً حسناً، حتى حصل عام 1944 على وسامي «النجمة الحمراء»، وهذا أعلى تكريم للعسكريين في العهد السوفياتي.
أما والده فكان عالم رياضيات ومبرمجاً حصل على درجة الدكتوراه في العلوم التقنية ودرس في نفس الجامعة التي درس فيها فلاديمير لاحقاً. ولقد عاد إليها بعدما أمضى عشرين سنة في منغوليا، حيث قام ببناء مصنع للتعدين والمعالجة في مدينة إردنيت. وأما والدته ريما زيلينسكايا فمهندسة أمضت 40 سنة في الخدمة المهنية وهي متقاعدة حالياً.
عندما كان فلاديمير طفلاً، عاش مع والديه لمدة أربع سنوات في منغوليا قبل أن يعودا، ليبدأ دراسته في مدرسة تميزت عن قطاع التدريس السوفياتي العام، فحصل على دراسة معمّقة للغة الإنجليزية، وهو أمر نادر في تلك السنوات. كذلك لعب البيانو، ومارس الرقص، ولعب كرة السلة والكرة الطائرة. وشارك في عروض هواة المدرسة، وكان عازف غيتار... وهي أمور دفعته كلها دفعاً نحو انتهاج مسار العروض الهزلية لاحقاً.
ومن مفارقات التاريخ أن فلاديمير حصل في سن السادسة عشرة على منحة للتعليم المجاني والإقامة الدائمة في إسرائيل، لكن والده عارض الفكرة بقوة، وأصر على أن يظل ابنه في أوكرانيا التي لم يعرف وطناً سواها. ولم يكن عالم الرياضيات يعرف وقتها أنه بذلك رسم طريقاً مختلفاً تماماً لصغيره الذي سيغدو بعد سنوات رئيساً لهذا البلد.
اللافت أنه رغم هواياته المسرحية والموسيقية لم يتجه فلاديمير إلى دراسة الفنون، بل التحق عام 1995 بجامعة كييف للاقتصاد، وهو التخصص الذي لم يعمل به أبداً. بل عمل، بدلاً من ذلك، كمؤلف ومعدّ ومخرج وممثل رئيسي، ثم كمنتج عام لقناة تلفزيونية، وأسهم في إطلاق الكثير من المشاريع التلفزيونية.
كان «خادم الشعب» آخر أعماله التلفزيونية، وفي موسمه الثالث اتُّهم المسلسل مراراً بالدعاية السياسية، لا سيما أن الحلقات الثلاث الأولى من الموسم الثالث من المسلسل بُثّت مباشرةً قبل الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الأوكرانية عام 2019.
يومذاك، كان المزاج العام في أوكرانيا مواتياً للتغيير، فحصل على أكبر عدد من الأصوات، وفاز في الجولة الثانية من الانتخابات متقدماً بفارق كبير على منافسه الرئيس بوروشينكو. وفي تلك اللحظة بدا أن «اللعبة» التي وضع المسلسل «سيناريو» لها، قد انقلبت إلى جد، وبات على زيلينسكي أن يواجه أعباء السياسة المختلفة تماماً عن النص المكتوب.

اتهامات بالفساد... ومعارك سياسية
تعرّض فلاديمير زيلينسكي لعدة موجات من الانتقاد في تحركاته الأولى كرئيس للبلاد. واتهمه كثيرون بالافتقار إلى الخبرة اللازمة للحكم. فضلاً عن أنه اتُّهم بإقامة صلات مع إيغور كولومويسكي، وهو أحد رموز الأوليغارشية التي حاربها مدرس التاريخ سابقاً في الرواية التلفزيونية.
وفي أبريل (نيسان) بعد انتخابه بشهور معدودة، أشار أرتيم سيتنيك، مدير المكتب الوطني لمكافحة الفساد في أوكرانيا، إلى شبهات فساد تحوم حول تورّط شركة «كينو كفارتال» للإنتاج التلفزيوني، التي كان زيلينسكي قد أسسها سابقاً. لم تثبت التهمة، لكن السمعة رافقت زيلينسكي لاحقاً في أوساط معارضيه.
أما على الصعيد السياسي، فواجه الرجل تحالفاً قوياً ضده منذ ساعاته الأولى في قصر الرئاسة. وبدا معزولاً رغم انتخابه المريح، ذلك أنه لا يتمتع برصيد كافٍ من الخبرة، كما أنه يفتقر لدعم في البرلمان التي سيطرت عليه الأحزاب التقليدية. لذلك اضطر في العام التالي إلى اللجوء لانتخابات برلمانية مبكرة، أثبتت نتائجها أن الأوكرانيين ما زالوا يدعمون خطه السياسي. إذ فاز حزب «خادم الشعب» بنحو نصف مقاعد البرلمان، فاتحاً الطريق بذلك أمام تجانس نادر في الحياة السياسية الأوكرانية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
ومع تصاعد حدة الصراع في مناطق الشرق -ذات الكثافة الروسية- واجه فلاديمير زيلينسكي الذي رفع شعارين رئيسيين خلال الحملة الانتخابية هما «استعادة القرم، ووقف الحرب في الدونباس»، صعوبات إضافية، وانعكس نشاطه السابق كممثل هزلي على مواقفه السياسية كرئيس. إذ لم ينسَ كثيرون جولاته الصاخبة وهو يقدّم عروضه الهزلية لدعم الجيش في مواجهة الانفصاليين في شرق البلاد، وسخريته اللاذعة من السياسيين الروس التي كان لها دور في وضعه ضمن خانة أعداء روسيا الأساسيين في أوكرانيا. وزاد من حدة الأمر أنه تحدث مراراً عن قناعة بأن «الاتحاد السوفياتي، مثل ألمانيا النازية، مذنب في اندلاع الحرب العالمية الثانية والمحرقة»، وطبعاً هذه المواقف لم يكن سهلاً على موسكو أن تغفرها له.
ولكن زيلينسكي، في المقابل، ورغم المزاج الشعبي المعارض لسياسات الكرملين، عارض الحظر المفروض على دخول الشخصيات الثقافية الروسية إلى أوكرانيا، كما رفض حظر أعمال تلفزيونية روسية في بلاده.
وعلى الصعيد الداخلي، دفع نهج زيلينسكي إلى تثبيت فكرة «التغيير» التي طالب بها الأوكرانيون طويلاً. فهو دعا في خطابه الافتتاحي أمام البرلمان إلى ابتعاد الصف الأول من السياسيين عن الحياة السياسية، وإفساح المجال أمام «أولئك الذين سيفكرون في الأجيال القادمة، وليس الانتخابات المقبلة». وفضلاً عن ذلك حث موظفي الدولة على إزالة صور الرؤساء من مكاتبهم، وخاطبهم قائلاً: «لا أريد منكم أن تضعوا صوري في مكاتبكم. أنا لست إلهاً، ولا أيقونة للتبرك بها... ضعوا صور أطفالكم على مكاتبكم، لتحدّقوا فيها جيداً قبل اتخاذ أي قرار».

الرئيس الهزلي يواجه الحرب
من جهة ثانية، آخر ما كان يخطر في بال زيلينسكي، وهو يتنقل بين أفخاخ السياسة وهموم الاقتصاد، أنه سيواجه حرباً شرسة تعد الاستحقاق الأسوأ أمام أوكرانيا منذ عام 1945.
لم يكن كثيرون يتوقعون أن يُظهر الممثل الهزلي السابق صلابة في مواجهة الموقف الخطير، حتى إن معطيات تردّدت في موسكو أن الاستراتيجيين الروس وضعوا للحرب 72 ساعة، واستعدوا لمشاهدة انهيار القيادة الأوكرانية والدفاعات العسكرية بعد ذلك.
ويبدو أن تلك القناعة سيطرت أيضاً على الغرب، الذي دعا قادته زيلينسكي منذ اليوم الأول للفرار من البلاد، وأعلنوا استعدادهم لتوفير ملجأ آمن له ولأسرته. لكن الرئيس الأوكراني رد على طريقته الهزلية بعد مرور الأيام الثلاثة الأولى على المعركة. إذ خاطب الأميركيين بعبارة: «لا أريد منكم ملجأ آمناً أو وسيلة نقل، أريد ذخيرة وعتاداً».
ظهر زيلينسكي أمام مواطنيه عبر شاشات التلفزيون ومقاطع الفيديو التي حرص على تسجيلها يومياً، وهو يتنقل في شوارع كييف محاطاً بكبار رجال الدولة. قال للأوكرانيين: «أنا هنا، ووزير الدفاع هنا. ورئيس الوزراء وكل المسؤولين. لن نغادر وسندافع عن وطننا معاً». كان ذلك الرد على حرب المعلومات التي تحدثت عن فرار زيلينسكي تارةً إلى الغرب في مدينة لفوف (لفيف) وتارة إلى عاصمة غربية.
ظهر بملابس تحاكي اللون الكاكي، فهي ليست بدلة عسكرية لكنها أقرب ما تكون إليها. لم يكن حليقاً، وبدا مرهقاً أحياناً، ليقول للأوكرانيين إنه مثلهم لا يكاد ينام.
أيضاً، خاطب الروس بعبارات لافتة. استعاد العلاقات التاريخية، بين الشعبين. قال لهم: «إن منكم من لهم أقارب في أوكرانيا، ونحن أيضاً كذلك. وإن الشعب الأوكراني يريد السلام. وأنتم أيضاً». وطلب منهم أن يواصلوا النزول إلى الشوارع لإجبار الرئيس فلاديمير بوتين على وقف الحرب التي وصفها بأنها «مجنونة».
قال الممثل الهزلي السابق: «سندافع عن أنفسنا. وعندما تهاجمون سترون وجوهنا لا ظهورنا». وخاطب بوتين بالقول إنه مستعد للجلوس إلى طاولة مفاوضات فوراً لوقف الحرب. لكنه، وعلى طريقته الهزلية، دعاه لأن تكون «طاولة عادية وصغيرة، ليست بطول ثلاثين متراً، مثل تلك التي جلست إليها مع ماكرون (الرئيس الفرنسي) وشولتس (المستشار الألماني)... أنا رجل لا أعض!».


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».