لو كان مدرّس التاريخ في المسلسل الكوميدي الأوكراني الشهير «خادم الشعب» يعرف في 2018 أن مقالب التاريخ قد لا ترحم أحداً، لربما كان وضع «سيناريو» مختلفاً لنهاية القصة، التي أضحكت الأوكرانيين طويلاً على نخبهم السياسية. وقادت النجم الساخر إلى التربّع على رأس هرم السلطة في بلد يعاني انقساماً وحروباً أهلية وتسيطر على مقدرات الاقتصاد فيه طبقة من أثرياء الحرب والسياسة.
دارت أحداث المسلسل الذي ذاع صيته، وتابعه الملايين في ثلاثة مواسم 2015 - 2018 حول المدرس «فاسيلي جولوبورودكو» الذي دأب على توجيه انتقادات ساخرة ولاذعة إلى النخب السياسية الفاسدة في البلاد. وتقوده ظروف «كوميديا الموقف» إلى الترشح لمنصب الرئاسة رافعاً شعارات تدعو إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه. لكنه للمفاجأة الكبرى... يفوز.
يغدو الرئيس الذي يفتقر لكل أشكال الخبرة السياسية بينما عليه أن يواجه استحقاقات كبرى في البلاد.
إنها قصة، لو كان فلاديمير زيلينسكي، أو «فولوديمير» حسب اللهجة الأوكرانية، يدرك أنها ستتحول إلى واقع، لكان فكر مرتين.
لم يأخذ كثيرون في نهاية 2018 فكرة ترشيح فلاديمير زيلينسكي نفسه لمنصب الرئاسة في أوكرانيا على محمل الجد.
حتى الأداء الذي قدّمه وهو يستعد لخوض معترك السياسة كان هزلياً بشكل متعمد وصارخ، أثار ضحك الجمهور أكثر مما أثار لديه الرغبة في اكتشاف قدرات الرجل على مواجهة المواقف ال
صعبة. فهو أطلق على حزبه السياسي تسمية «خادم الشعب» مستفيداً من الشعبية الجارفة للمسلسل. وظهر في عدد من المناظرات ساخراً من خصومه متلبساً حقاً شخصية مدرس التاريخ. وحتى عندما أعلن ترشحه رسمياً ليلة رأس السنة، جاء ذلك في قالب كوميدي أثار إعجاب الأوكرانيين الذي تعبوا طويلاً من نخبهم السياسية التي انتهكت البلاد ونهبت ثرواتها وأدخلتها لسنوات طويلة في أزمات. لذلك عندما ظهر في منتصف الليل على شاشة المحطات التلفزيونية بنفس التوقيت الذي يقدم الرئيس فيه التهنئة الرسمية للشعب بالعام الجديد، ظن كثيرون أنها مجرد خدعة فنية. لكن الذي حدث كان أكثر من جدّي، فقد قاطعت المحطات التلفزيونية التسجيل الرسمي للرئيس بيترو بوروشينكو، وبثت مقطع «خادم الشعب» الذي يعلن فيه استعداده لتولي منصب الرئاسة.
صفق الأوكرانيون طويلاً للموقف. ولم يكن أحد يعرف أن البلاد طوت في تلك الليلة صفحة قاتمة من حكم الأوليغارشية، لتفتح صفحة جديدة تصاعدت فيها متاعب الرئيس حتى وصلت إلى مواجهة أسوأ حرب تشهدها أوكرانيا منذ الحرب العالمية الثانية.
اللعبة التي انقلبت إلى الجد
منذ سنوات طفولته الأولى عاش زيلينسكي المولود في بداية 1978 لأسرة يهودية في مدينة كريفوي روج، حياة مليئة بالإثارة والتشويق، وقد تكون سنواته الأولى رسمت ملامح مستقبله في المجال الفني الذي برع فيه لسنوات.
كان جده سيميون إيفانوفيتش زيلينسكي من أبطال الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية)، إذ قاد خلال سنوات الحرب سرية هواوين، وأبلى فيها بلاءً حسناً، حتى حصل عام 1944 على وسامي «النجمة الحمراء»، وهذا أعلى تكريم للعسكريين في العهد السوفياتي.
أما والده فكان عالم رياضيات ومبرمجاً حصل على درجة الدكتوراه في العلوم التقنية ودرس في نفس الجامعة التي درس فيها فلاديمير لاحقاً. ولقد عاد إليها بعدما أمضى عشرين سنة في منغوليا، حيث قام ببناء مصنع للتعدين والمعالجة في مدينة إردنيت. وأما والدته ريما زيلينسكايا فمهندسة أمضت 40 سنة في الخدمة المهنية وهي متقاعدة حالياً.
عندما كان فلاديمير طفلاً، عاش مع والديه لمدة أربع سنوات في منغوليا قبل أن يعودا، ليبدأ دراسته في مدرسة تميزت عن قطاع التدريس السوفياتي العام، فحصل على دراسة معمّقة للغة الإنجليزية، وهو أمر نادر في تلك السنوات. كذلك لعب البيانو، ومارس الرقص، ولعب كرة السلة والكرة الطائرة. وشارك في عروض هواة المدرسة، وكان عازف غيتار... وهي أمور دفعته كلها دفعاً نحو انتهاج مسار العروض الهزلية لاحقاً.
ومن مفارقات التاريخ أن فلاديمير حصل في سن السادسة عشرة على منحة للتعليم المجاني والإقامة الدائمة في إسرائيل، لكن والده عارض الفكرة بقوة، وأصر على أن يظل ابنه في أوكرانيا التي لم يعرف وطناً سواها. ولم يكن عالم الرياضيات يعرف وقتها أنه بذلك رسم طريقاً مختلفاً تماماً لصغيره الذي سيغدو بعد سنوات رئيساً لهذا البلد.
اللافت أنه رغم هواياته المسرحية والموسيقية لم يتجه فلاديمير إلى دراسة الفنون، بل التحق عام 1995 بجامعة كييف للاقتصاد، وهو التخصص الذي لم يعمل به أبداً. بل عمل، بدلاً من ذلك، كمؤلف ومعدّ ومخرج وممثل رئيسي، ثم كمنتج عام لقناة تلفزيونية، وأسهم في إطلاق الكثير من المشاريع التلفزيونية.
كان «خادم الشعب» آخر أعماله التلفزيونية، وفي موسمه الثالث اتُّهم المسلسل مراراً بالدعاية السياسية، لا سيما أن الحلقات الثلاث الأولى من الموسم الثالث من المسلسل بُثّت مباشرةً قبل الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الأوكرانية عام 2019.
يومذاك، كان المزاج العام في أوكرانيا مواتياً للتغيير، فحصل على أكبر عدد من الأصوات، وفاز في الجولة الثانية من الانتخابات متقدماً بفارق كبير على منافسه الرئيس بوروشينكو. وفي تلك اللحظة بدا أن «اللعبة» التي وضع المسلسل «سيناريو» لها، قد انقلبت إلى جد، وبات على زيلينسكي أن يواجه أعباء السياسة المختلفة تماماً عن النص المكتوب.
اتهامات بالفساد... ومعارك سياسية
تعرّض فلاديمير زيلينسكي لعدة موجات من الانتقاد في تحركاته الأولى كرئيس للبلاد. واتهمه كثيرون بالافتقار إلى الخبرة اللازمة للحكم. فضلاً عن أنه اتُّهم بإقامة صلات مع إيغور كولومويسكي، وهو أحد رموز الأوليغارشية التي حاربها مدرس التاريخ سابقاً في الرواية التلفزيونية.
وفي أبريل (نيسان) بعد انتخابه بشهور معدودة، أشار أرتيم سيتنيك، مدير المكتب الوطني لمكافحة الفساد في أوكرانيا، إلى شبهات فساد تحوم حول تورّط شركة «كينو كفارتال» للإنتاج التلفزيوني، التي كان زيلينسكي قد أسسها سابقاً. لم تثبت التهمة، لكن السمعة رافقت زيلينسكي لاحقاً في أوساط معارضيه.
أما على الصعيد السياسي، فواجه الرجل تحالفاً قوياً ضده منذ ساعاته الأولى في قصر الرئاسة. وبدا معزولاً رغم انتخابه المريح، ذلك أنه لا يتمتع برصيد كافٍ من الخبرة، كما أنه يفتقر لدعم في البرلمان التي سيطرت عليه الأحزاب التقليدية. لذلك اضطر في العام التالي إلى اللجوء لانتخابات برلمانية مبكرة، أثبتت نتائجها أن الأوكرانيين ما زالوا يدعمون خطه السياسي. إذ فاز حزب «خادم الشعب» بنحو نصف مقاعد البرلمان، فاتحاً الطريق بذلك أمام تجانس نادر في الحياة السياسية الأوكرانية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
ومع تصاعد حدة الصراع في مناطق الشرق -ذات الكثافة الروسية- واجه فلاديمير زيلينسكي الذي رفع شعارين رئيسيين خلال الحملة الانتخابية هما «استعادة القرم، ووقف الحرب في الدونباس»، صعوبات إضافية، وانعكس نشاطه السابق كممثل هزلي على مواقفه السياسية كرئيس. إذ لم ينسَ كثيرون جولاته الصاخبة وهو يقدّم عروضه الهزلية لدعم الجيش في مواجهة الانفصاليين في شرق البلاد، وسخريته اللاذعة من السياسيين الروس التي كان لها دور في وضعه ضمن خانة أعداء روسيا الأساسيين في أوكرانيا. وزاد من حدة الأمر أنه تحدث مراراً عن قناعة بأن «الاتحاد السوفياتي، مثل ألمانيا النازية، مذنب في اندلاع الحرب العالمية الثانية والمحرقة»، وطبعاً هذه المواقف لم يكن سهلاً على موسكو أن تغفرها له.
ولكن زيلينسكي، في المقابل، ورغم المزاج الشعبي المعارض لسياسات الكرملين، عارض الحظر المفروض على دخول الشخصيات الثقافية الروسية إلى أوكرانيا، كما رفض حظر أعمال تلفزيونية روسية في بلاده.
وعلى الصعيد الداخلي، دفع نهج زيلينسكي إلى تثبيت فكرة «التغيير» التي طالب بها الأوكرانيون طويلاً. فهو دعا في خطابه الافتتاحي أمام البرلمان إلى ابتعاد الصف الأول من السياسيين عن الحياة السياسية، وإفساح المجال أمام «أولئك الذين سيفكرون في الأجيال القادمة، وليس الانتخابات المقبلة». وفضلاً عن ذلك حث موظفي الدولة على إزالة صور الرؤساء من مكاتبهم، وخاطبهم قائلاً: «لا أريد منكم أن تضعوا صوري في مكاتبكم. أنا لست إلهاً، ولا أيقونة للتبرك بها... ضعوا صور أطفالكم على مكاتبكم، لتحدّقوا فيها جيداً قبل اتخاذ أي قرار».
الرئيس الهزلي يواجه الحرب
من جهة ثانية، آخر ما كان يخطر في بال زيلينسكي، وهو يتنقل بين أفخاخ السياسة وهموم الاقتصاد، أنه سيواجه حرباً شرسة تعد الاستحقاق الأسوأ أمام أوكرانيا منذ عام 1945.
لم يكن كثيرون يتوقعون أن يُظهر الممثل الهزلي السابق صلابة في مواجهة الموقف الخطير، حتى إن معطيات تردّدت في موسكو أن الاستراتيجيين الروس وضعوا للحرب 72 ساعة، واستعدوا لمشاهدة انهيار القيادة الأوكرانية والدفاعات العسكرية بعد ذلك.
ويبدو أن تلك القناعة سيطرت أيضاً على الغرب، الذي دعا قادته زيلينسكي منذ اليوم الأول للفرار من البلاد، وأعلنوا استعدادهم لتوفير ملجأ آمن له ولأسرته. لكن الرئيس الأوكراني رد على طريقته الهزلية بعد مرور الأيام الثلاثة الأولى على المعركة. إذ خاطب الأميركيين بعبارة: «لا أريد منكم ملجأ آمناً أو وسيلة نقل، أريد ذخيرة وعتاداً».
ظهر زيلينسكي أمام مواطنيه عبر شاشات التلفزيون ومقاطع الفيديو التي حرص على تسجيلها يومياً، وهو يتنقل في شوارع كييف محاطاً بكبار رجال الدولة. قال للأوكرانيين: «أنا هنا، ووزير الدفاع هنا. ورئيس الوزراء وكل المسؤولين. لن نغادر وسندافع عن وطننا معاً». كان ذلك الرد على حرب المعلومات التي تحدثت عن فرار زيلينسكي تارةً إلى الغرب في مدينة لفوف (لفيف) وتارة إلى عاصمة غربية.
ظهر بملابس تحاكي اللون الكاكي، فهي ليست بدلة عسكرية لكنها أقرب ما تكون إليها. لم يكن حليقاً، وبدا مرهقاً أحياناً، ليقول للأوكرانيين إنه مثلهم لا يكاد ينام.
أيضاً، خاطب الروس بعبارات لافتة. استعاد العلاقات التاريخية، بين الشعبين. قال لهم: «إن منكم من لهم أقارب في أوكرانيا، ونحن أيضاً كذلك. وإن الشعب الأوكراني يريد السلام. وأنتم أيضاً». وطلب منهم أن يواصلوا النزول إلى الشوارع لإجبار الرئيس فلاديمير بوتين على وقف الحرب التي وصفها بأنها «مجنونة».
قال الممثل الهزلي السابق: «سندافع عن أنفسنا. وعندما تهاجمون سترون وجوهنا لا ظهورنا». وخاطب بوتين بالقول إنه مستعد للجلوس إلى طاولة مفاوضات فوراً لوقف الحرب. لكنه، وعلى طريقته الهزلية، دعاه لأن تكون «طاولة عادية وصغيرة، ليست بطول ثلاثين متراً، مثل تلك التي جلست إليها مع ماكرون (الرئيس الفرنسي) وشولتس (المستشار الألماني)... أنا رجل لا أعض!».