«أم الجمال» الأثرية.. واحة سوداء في البادية الشمالية الأردنية

ترجع للعصر الروماني البيزنطي وتعاني من تدفق اللاجئين السوريين

آثار أم الجمال
آثار أم الجمال
TT

«أم الجمال» الأثرية.. واحة سوداء في البادية الشمالية الأردنية

آثار أم الجمال
آثار أم الجمال

تقع مدينة أم الجمال الأثرية، في شمال شرقي الأردن على بعد 86 كيلومترا من العاصمة الأردنية على الطريق الواصل لبغداد بالقرب من مخيم الزعتري للاجئين السوريين الذي ذاع صيته في جميع أنحاء العالم. وتتميز أم الجمال بأروع البوابات الحجرية، وهي تعرف باسم «الواحة السوداء» وذلك لما بها من أعداد كبيرة من الأحجار البركانية السوداء. وتحيط بها المزارع الخضراء التي تعتمد في ريها على الآبار الجوفية والتي تضفي لونا ربانيا يكسر سمرة المكان، وجفاف الصحراء.
ويقول رئيس بلدية أم الجمال الجديدة حسن الرحيبة إن «تسمية مخيم الزعتري للاجئين السوريين بهذا الاسم، خطأ فادح وكان على المسؤولين تسميته باسم أم الجمال خصوصا أن المخيم يقع في منطقة أم الجمال بالقرب من وادي الزعتري، وأخذ على تسميته الناس والإعلام».
ويضيف الرحيبة أن «منطقة أم الجمال أصبحت منطقة منكوبة، بسبب تدفق الآلاف من اللاجئين السوريين إلى المنطقة دون أي دعم حكومي أو سند دولي»، ويوضح الرحيبة أن أم الجمال تشهد تسريبا متواصلا للاجئين السوريين من مخيم الزعتري، حيث وصل عدد من هربوا من المخيم لمنطقة اختصاصه وسكنوا بشكل عشوائي 25 ألف نسمة.
وطالب الرحيبة الحكومة دعم مدينة من مخصصات المجتمعات المحلية المستضيفة للاجئين ولفت إلى أن سكان أم الجمال المصنفة من جيوب الفقر، يعتاشون على الزراعة، وتربية المواشي، و58 منظمة دولية تعمل في المنطقة لا تدعمهم.
ويرجع تاريخ هذه المدينة إلى العصر الروماني البيزنطي.‏ ‏ وقد بنيت هذه المدينة في إحدى مستوطنات النبطيين القديمة من الطوب البازلتي الأسود المدعم بقوالب مستطيلة من البازلت أيضا وازدهرت في القرن الأول قبل الميلاد.‏ ‏ وتزخر أم الجمال بأعداد كبيرة من أحواض المياه للاستخدام الخاص والعام.
ولما كانت المدينة بعيدة عن أي مصدر طبيعي للمياه كان من الصعب التعرف على طرق سكانها الأوائل في الحصول على المياه، إلا أن وجود بعض القنوات لجر المياه من تحت الأرض يرجح أن هؤلاء الناس كانوا يحصلون على المياه عن طريق سحبها من أماكن بعيدة بواسطة هذه القنوات.
ويستمر حضور التاريخ في أم الجمال، حيث إنه في الفترة الرومانية المبكرة، بداية القرن الثاني الميلادي في أم الجمال، حيث أخذت في تلك المرحلة بعدا عسكريا لحماية الطرق الرئيسة للإمبراطورية، والتي من أهمها طريق تراجانوس الذي يصل بصرى الشام وميناء العقبة. ثم تتوسع أم الجمال في الفترة الرومانية المتأخرة، ويتم تحصينها بالأسوار المحيطة، لكن هذا لا يمنع تدميرها على أيدي التنوخيين، ومملكة تدمر عام 270 - 273م.
واشتهرت أم الجمال تاريخيا أنها كانت ملتقى للطرق التي ربطت فلسطين والأردن بسوريا والعراق. حيث إنها تقع على طول طريق تراجان وتشكل محطة في منتصف هذا الطريق الذي يصل بين عمان والبصرة أو دمشق والبصرة. ومن الأزرق عبر وادي السرحان إلى الجزيرة العربية التجاري. وكانت أم الجمال في بادئ الأمر مركزا صغيرا ازداد أهمية بازدهار التجارة على خط البتراء - الشام.
وتعتبر أم الجمال إحدى المدن العشرة في حلف الديكابلس حيث كانت تعرف باسم (كانثا) الذي أقيم أيام اليونان والرومان، وكان يضم عشر مدن في ‏‏المنطقة الواقعة عند ملتقى حدود ‏‏الأردن وسوريا وفلسطين.
ويعتقد أن الأمويين سكنوا هذه المدينة وبشكل كثيف. ويبدو أن هذه المدينة تعرضت لزلزال قبل أن ينتقل مركز الخلافة من دمشق إلى بغداد إبان الخلافة العباسية مما أدى إلى هجرها تدريجيا.
يوجد في أم الجمال بقايا حصون حضنت في داخلها كنائس كثيرة بين كبيرة وصغيرة وأحواض ماء مسقوفة أو مكشوفة، فضلا عن بقايا موقع عسكري روماني.
كما يوجد آثار للكنائس البيزنطية، ووجد في أم الجمال أيضا فسيفساء قديمة تمثل نهر الأردن وعلى جانبيه المدن والقرى التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس. والمذبح النبطي المكتوب باللغتين النبطية والإغريقية، وكذلك نصيبة قبر فهر بن سلي مؤدب جذيمة ملك تنوخ، وأيضا باللغة الإغريقية والنبطية.
يبلغ عدد سكان أم الجمال قبل وصول اللاجئين السوريين نحو 5000 نسمة وحاليا 25 ألفا، ويعمل أهلها في الزراعة، والوظائف الحكومية، ومعظم القاطنين في القرية من عشيرة المساعيد من أهل الجبل.
وتوجد في أم الجمال مجموعة من المدارس، ومركز صحي شامل، ومكتب للتنمية الاجتماعية، وجمعية أم الجمال الخيرية، ومكتبة للأطفال تابعة لبلدية أم الجمال.
كما توجد في أم الجمال مكاتب المؤسسات الحكومية التالية: مبنى القضاء، ومكتب الأوقاف، مكتب الآثار والسياحة، مبنى البلدية، مركز الدفاع المدني، مخفر أم الجمال، ومجموعة من المساجد.
أول ما بدأ البناء في أم الجمال كان ملاصقا للآثار، وجاء البناء على شكل دائري محيط بالآثار القديمة. وكان أول من سكن أم المكان هم عشائر أهل الجبل (المساعيد)، الذين عمل بعضهم إلى جانب عدد من الدروز محاولات لإحياء البلدة القديمة.
وقد كان أبناء العشيرة يستعملون تلك الآثار في فترات الشتاء، لأنها تقع في وسط ديرتهم، حيث كانت الديرة لأهل الجبل تمتد من جبل العرب شمالا إلى الأزرق جنوبا، ومن جهة الشرق من أطراف الحرة إلى الغرب باتجاه سكة الحديد.
وبتتبع المسار الزمني للاستقرار يلاحظ بأنه كان في البداية هناك استقرار جزئي من خلال استعمال المكان كمشات، ومخازن للأمتعة والحطب، كما أنهم كانوا يستعملون في سنوات الخصب الآبار والبرك القديمة. أما بركة الماء في البلدة الأثرية، فقد كانت مشاعا لجميع أبناء العشائر، ولكل المناطق المجاورة، وكانت تستخدم للشرب ولسقاية المواشي، بينما هناك ألبير الذي يسمى بـ(بير الشيوخ)، والذي يقع في شرق البركة السورية، فقد كان محددا للشرب فقط.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)