استكشاف المعاني الخفية في الحياة تشكيلياً

عبر معرض يضم 23 لوحة للفنان المصري عصام معروف

الإيحاء بتأثيرات الزمن وتراكمها على مسطح اللوحات
الإيحاء بتأثيرات الزمن وتراكمها على مسطح اللوحات
TT

استكشاف المعاني الخفية في الحياة تشكيلياً

الإيحاء بتأثيرات الزمن وتراكمها على مسطح اللوحات
الإيحاء بتأثيرات الزمن وتراكمها على مسطح اللوحات

مسافات واسعة تفصل بين المرئي واللامرئي، الوهم والواقع، الزيف والحقيقة، لكنّها في الوقت نفسه، تمثل مسافات غير مستحيلة، إذ يمكن تجاوزها وصولاً إلى الأشياء الخفية عن الآخرين وعلى الأرجح خفية حتى عن أنفسنا، وفي رحلة بصرية تفاعلية، عمل التشكيلي المصري، عصام معروف، صاحب الباع الفني الطويل على الصعيدين المصري والأوروبي، على إسقاط الخط الفاصل بين الظاهر والباطن، وذلك من خلال 23 لوحة يضمها معرضه المقام حالياً في غاليري «مصر» بحي الزمالك.
لا تأخذك اللوحات وحدها بما تحمله من رموز وخطوط وألوان وتراكيب إلى مرافئ الدهشة، إنّما يثير قبل ذلك عنوان المعرض وهو «مرئي - لا مرئي» الكثير من الحيرة داخلك. فالحدود بين العالمين واسعة وتضمّ الكثير من القضايا الإنسانية الشائكة، فما بالنا حين يرتبط الأمر بالفن أيضاً.


يدعو المعرض إلى استكشاف  مكنونات النفس والفكر

يقول عصام معروف لـ«الشرق الأوسط»، إنّ «لثيمة المعرض جوانب عدة، منها ما يمكن وصفه بأنّه بصري تصويري وثيق الارتباط بما يمكن للمتلقي مشاهدته على اللوحة وبما لا يستطيع رؤيته، ففي الواقع لا يرى المتلقي سوى المشهد الأخير». ويتابع موضحاً: «اللوحة تبدأ بمسطح أبيض، ومن ثم تتعرض للعديد من التداخلات من جانب التشكيلي، ذلك أنه في أثناء العمل الفني تمتزج الكثير من الأشياء معاً ما بين أفكار الرسام الذي يكون لديه الكثير ليسرده بلغته التصويرية، وبين خبراته الفنية والتقنية».
لكن أمام أعمال معروف في هذا المعرض المستمر حتى 10 مارس (آذار) المقبل، يجد المتلقي نفسه أكثر شغفاً بإزالة غموض «اللامرئي»، فتعدد الطبقات اللونية والأجساد والوجوه ذات التخطيطات غير المألوفة، مع الإيحاء بتأثيرات الزمن وتراكمه على مسطح اللوحات واستناده إلى التجريدية فيها، إلى جانب تأثره الواضح بأسلوب المصري القديم من حيث العمق ومعمار الصورة البصرية، ذلك كله قد تضافر ليمنحها قدراً كبيراً من الغوص في اللامرئي، وفي المقابل يجد المشاهد نفسه مدفوعاً إلى خوض رحلة بحث طويلة ومتكررة عن العناصر والمعاني الخفية في اللوحات والحياة معاً.
إلى هذا تأخذنا اللوحات إلى شغف الخبراء باستكشاف اللامرئي في اللوحات الفنية الشهيرة، وهو ما دفعهم من قبل إلى استخدام الأشعة تحت الحمراء في فحصها، لعلها تفصح عن بعض أسرار الفنانين العالميين، فعلى سبيل المثال فيما يتعلق ببيكاسو كُشف في 2010 أنّ لوحته الشهيرة «إفطار الرجل الأعمى» التي رسمها عام 1903 قد رسمها بالكامل فوق لوحة أخرى طَمسها لكي يقدم للإنسانية هذا العمل الذي يعد واحداً من أشهر أعماله في فترته التعبيرية، كما اكتشف العلماء وجود لوحة خفية تحت طبقة الألوان في «الغرفة الزرقاء» التي رسمها في عام 1901.
وبتفحص «عازف الغيتار العجوز» نكتشف وجود وجه غامض خلف وجه العازف، يظهر بصورة غير مفهومة، ليتضح بعد تصوير اللوحة باستخدام الأشعة تحت الحمراء، وجود أشكال أخرى قبل أن يرجع الباحثون الأمر إلى أن بيكاسو كان لا يملك الأموال لشراء لوحات بيضاء جديدة، فكان يستخدم لوحات قديمة!
وإذا كان ذلك ما يخص الجانب الفني لقضية «المرئي واللامرئي»، فثمة أبعاد إنسانية واجتماعية متعددة أيضاً لها؛ ذلك أنّ تناول الفنان لمفهوم المعرض يأتي في إطار احتفائه برؤية فلسفية تقوم على أنّنا لا نرى كل التفاصيل في الحياة، ولا نستطيع الإلمام بكل الواقع الذي نعيشه، ولا بدواخل الآخرين ممن نتعامل معهم بشكل يومي، بل قد لا نرى الآخرين أساساً في كثير من الأحيان، في حين علينا محاولة فهم حقيقة ما يدور حولنا، يقول الفنان: «على المتلقي أن يستجيب لإيماءات ما تمثله اللوحة، مثلما هو في حياته اليومية عليه أن يكف عن اعتبار العين مجرد جهاز لاستقبال الأشكال والملامح والأضواء والألوان؛ لأنّ عليها أيضاً أن تستكشف مكنونات النفس والأمور الخفية».


لوحات معروف تبحث  عن اللامرئي في الفن والحياة

هذا الاحتفاء التشكيلي باللامرئي الذي يدفع المشاهد إلى التأمل وإعادة النظر في أشياء كثيرة داخل ذاته، وفي الآخرين إنما يقودنا إلى احتفاء موازٍ له في عالم الأدب، فعلى سبيل المثال في رواية الكاتب الشهير بول أوستر «غير مرئي» نعيش تحدياً كبيراً للوصول إلى الحقيقة والتخلص من الوهم، ونحاول معه إزاحة الخط الفاصل بينهما، بينما في كتابه «اختراع العزلة... قصة بورتريه لرجل غير مرئي» نعاني من مشاعر إنسانية موجعة ترتبط بفقد التواصل مع المقربين، وذلك حين نغوص في تفاصيل حكايته مع أبيه الخفي عن الآخرين، بل عن ذاته أيضاً، إلى حد أنّ أوستر يعتبر نفسه قضى عمره يبحث عن أب غير موجود، وعندما وافت والده المنية شعر بأنه ما زال يبحث عنه؛ فلم يبدل الموت شيئاً.
تبرز في تقنية الأعمال تأثر عصام معروف بدراسته للتصوير الجداري بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة؛ إذ يقدم أسطحاً غير منغلقة وغير مصمتة، فهي تبدو كما لو كانت أعمالاً بارزة أو قطعاً نحتية، ورغم أنّ الفنان الذي عاش في أوروبا منذ تخرجه عام 1981 حتى الآن قد كسر الكثير من القواعد الفنية في معظم لوحاته، لا سيما ما يخص الجسد، متنقلاً بين التجريدية والتكعيبية، فإنّه نجح في إكسابها قوة تعبيرية لافتة وأجواء صوفية ممتزجة بحس موسيقي مرهف، ليسودها في المجمل روح الشرق، يقول: «ما زالت مصر داخلي؛ فقد تعلمت حب الجمال والفن فيها من خلال أغاني أم كلثوم وعبد الحليم، ونهلت من إبداعات مثقفيها عبر قراءة أعمال طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، بل تلقيت أول دروس في الأناقة من خلال روعة إطلالة نجوم أفلامها الأبيض والأسود، باختصار تشكلت بصرياً وفنياً ووجدانياً فيها، فكيف إذن لا تطل روح الشرق في أعمالي ومصر هي قلب الشرق».


لا تخلو اللوحات من روح الشرق

 



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».