ودعت السعودية أمس، عبد العزيز بن محمد المنقور، الموجه التربوي والتعليمي لكل من ابتعث من السعودية إلى الولايات المتحدة الأميركية، في فترة الستينات ولغاية نهايات السبعينات من القرن الماضي، التي شهدت أوسع حملة ابتعاث عرفتها السعودية. ويعد المنقور شخصية من الشخصيات التي سطرت اسمها في سجل النجاح الإداري، وباتت نموذجاً يحتذى به.
آنذاك، كانت الولايات المتحدة المحطة الأكبر التي احتضنت الطلاب السعوديين للدراسة فيها بمختلف التخصصات والدرجات التعليمية من البكالوريوس وحتى الدكتوراه، وكان من حسن حظ الطلاب ومسؤولي وزارة التعليم أن يكون المنقور هو الملحق التعليمي في أميركا، في فترة وصفت بـ«الذهبية» في تاريخ الابتعاث التعليمي السعودي، حيث عاد الخريجون وقتها وتسنموا مناصب قيادية في مختلف قطاعات الدولة أثناء التحول السريع وغير المسبوق، في انطلاقة التنمية بالبلاد.
وبالأمس وفي مسجد البابطين شمال الرياض وفي مقبرة الشمال ذرفت دموع المئات من طلبة المنقور على أبيهم الحاني عندما كان يزورهم في ولاياتهم المختلفة ويحل إشكالياتهم بهدوء وبثقة من دون الرجوع إلى مرجعه متجاوزاً الإجراءات البيروقراطية التي تغلف أداء بعض القطاعات.
في كل المحطات التي عمل بها الراحل عبد العزيز بن محمد المنقور حقق الراحل النجاح والتفرد، وكانت تجربته مثالاً للكفاح والعصامية، ووفقاً لمحمد بن عبد الله السيف الباحث والراصد وكاتب السير ورئيس تحرير المجلة العربية فإن المنقور قد التحق في بدايات عمله الوظيفي بشرطة الرياض بوظيفة (كاتب)، براتب قدره 60 ريالاً. وبعد فترة انتقل مدير القسم إلى مكان آخر، وعين آخر بديلاً عنه، وهو ضابط لا يجيد القراءة نهائياً، فأصبح المنقور (كاتباً وقارئاً)، يقرأ عليه المعاملات من ثم يكتب توجيهاته. وبعد فترة لا تقل عن خمس سنوات انتقل إلى العمل في محطة القطار، شرق الرياض، وكان مسؤولاً عن قسم الجوازات فيها.
فترة عمل المنقور في السكة الحديد من الفترات الجميلة في مسيرة حياته. فقد تعلم من خلالها اللغة الإنجليزية، وتواصل مع عدد من الشخصيات الأميركية في السكة أو في الشركة، وتهيأت له مشاهدة عدد من الأفلام التي كانت ترسلها الشركة إلى موظفيها في محطة الرياض.
قرر المنقور تعلم اللغة الإنجليزية ودراستها، فأخذ إجازة مفتوحة وسافر على نفقته الخاصة إلى بريطانيا، وهناك التحق بمعهد لتعليم اللغة الإنجليزية، وبعد فترة، أحس أن ماله بدأ ينفد فقرر العودة إلى بلاده، مروراً ببيروت، وذلك في ديسمبر (كانون الأول) 1960.
وفي العاصمة اللبنانية، التقى صديقه محمد الفريح، الذي أخبره بأن لدى وزارة المعارف توجهاً جديداً في فتح ملحقيات ثقافية في أوروبا وأميركا، ولمح له بأنه قد رشح للعمل ملحقاً تعليمياً وثقافياً في أوروبا، ومقره جنيف. لم يبد المنقور أي تفاعل مع كلام صديقه، الذي كان آنذاك أحد أبرز رجالات وزارة المعارف وقادتها.
وأضاف السيف أن الراحل عاد إلى الرياض، وقابل وزير المعارف عبد العزيز آل الشيخ، الذي أبلغه بأن خدماته نقلت من وزارة المواصلات إلى وزارة المعارف، وأنه عين ملحقاً تعليمياً في أوروبا، ومقره جنيف، لكن المنقور أبان له بأنه لا يتحدث الفرنسية، ومن الأفضل لمن سيذهب إلى هناك أن يكون على معرفة بلغة البلد، فسأله الوزير عن لغته الإنجليزية فأجاب بأنها جيدة، وأنه قد عاد لتوه من بريطانيا بعد أشهر قضاها في دراسة اللغة الإنجليزية. فقال له الوزير: إذاً نعينك في أميركا. وكان هذا ما يتمناه المنقور، الذي طالما تمنى السفر لأميركا إما للدراسة أو العمل. (عين في جنيف محسن باروم).
وصل المنقور إلى نيويورك في صيف عام 1961، مغادراً ابن عمه عبد المحسن المنقور في بيروت. وفي طريقه توقف في الدنمارك، مدة يوم واحد، وفي ظهيرة ذلك اليوم، أخذ يتجول في ميدان كوبنهاغن، فرأى من بعيد شخصاً مرتدياً (بالطو) ثقيلاً، وتحته ملابس شتوية، وكان الجو وقتها لا يستدعي هذا البالطو الشتوي، فسار خلفه، ورأى أثراً لكي في رقبته، فجزم بسعوديته، فاقترب إليه أكثر، وناداه، فكانت المفاجأة أنه يقف وجهاً لوجه أمام صديقه الأديب عبد الكريم الجهيمان، الذي كان يزور الدنمارك في رحلة سياحية، وكان الجهيمان، يوم ذاك، مصاباً بنزلة برد، نصحه المنقور بكأس من عسل وزنجبيل، وغادره إلى المطار متوجهاً إلى نيويورك.
شدد السيف على أن للمنقور قصصا طويلة وكثيرة مع علية القوم ومع أبنائهم، مع الطلبة المتفوقين والمميزين، ومع الطلبة الكسالى والمتمردين، وكلها قصص تحتاج إلى تدوين وتوثيق، كما أن للطلبة المبتعثين، أيضاً، قصصا طويلة مع المربي والأب الحاني الراحل عبد العزيز المنقور، فما أن تجلس إلى أحد الذين ابتعثوا في فترة المنقور، إلا ويروي لك قصة عنه. قصة في الشهامة والمروءة، أو في الحكمة والنصح والإرشاد، ويكفي أن المبتعثين السعوديين في جميع جامعاتهم أطلقوا على المكافأة الشهرية (شيك المنقور)، وذلك لحرصه على أن يصل الشيك إلى كل الطلاب في موعده المحدد، وهي ميزة تميز بها الطلاب السعوديون دون غيرهم من دول الخليج أو الدول العربية الأخرى، التي غالباً ما تتأخر مكافأتهم لأكثر من شهر.
عمل المنقور مديراً عاماً للبنك الزراعي لمدة عشر سنوات، كان شاهداً فيها على الطفرة الزراعية التي شهدتها مساحات شاسعة في المملكة، نتيجة الدعم الحكومي الذي أولته الدولة لهذا القطاع، كما كان شاهداً على سنوات الانكماش والانحسار، الذي بدأ مع نزول أسعار النفط، وكان له تأثيره الكبير، كما عمل لاحقاً، رئيساً لمجلس إدارة البنك الهولندي. وقصة المنقور مع الزراعة تحتاج إلى مزيد من التفاصيل، لا يتسع لها المقام هنا، فقد كان القصد إبراز دوره التربوي في رعاية الطلبة المبتعثين.
ولد عبد العزيز المنقور في مدينة حوطة سدير، مسقط رأس آبائه وأجداده، ومستقر عائلته، الضاربة بعمق في تاريخ المنطقة، ودرس في كتّاب معلمها الشهير صالح النصر الله، مع بقية من زملائه وأصدقاء طفولته، ولم يطل به المقام فيها، إذ غادرها وهو في العاشرة من عمره إلى الرياض، طلباً للعلم وبحثاً عن الرزق، ملتحقاً بوالده، الذي كان يعمل في مدينة الرياض، والتحق فور وصوله في كتاب الشيخ منصور بن هويمل، من ثم انتقل إلى مدرسة الأمير منصور بن عبد العزيز النظامية، والتحق فيها بالصف الثالث. وكان من بين معلميه في تلك المدرسة الشيخ ضحيان العبد العزيز، الذي انتدبه المفتي الأكبر لتدريس المواد الدينية.
رحيل عبد العزيز المنقور الأب الحاني لطلاب الفترة الذهبية في تاريخ الابتعاث السعودي
ركض في سكك الحديد وأقسام الشرطة وساهم في الطفرة الزراعية
رحيل عبد العزيز المنقور الأب الحاني لطلاب الفترة الذهبية في تاريخ الابتعاث السعودي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة