أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة

بعد المواقف المتحفظة في «مؤتمر ميونيخ للأمن»

أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة
TT

أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة

أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة

في وقت كانت روسيا تُجري فيه مناورات عسكرية مع بيلاروسيا (روسيا البيضاء) تأهباً لحربها على أوكرانيا، وقبل أيام قليلة من شنها الحرب ودخول جنودها الأراضي الأوكرانية، وقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على منبر «مؤتمر الأمن» في مدينة ميونيخ بجنوب ألمانيا، ليتهم الغرب باللجوء إلى «سياسة المهادنة» مع موسكو. ومن ثم، دعا الرئيس الأوكراني الدول الغربية إلى التخلي عن هذه السياسة وتبني سياسة أخرى «تضمن الأمن والسلام».
كان وقع كلمات زيلينسكي في تلك اللحظات كبيراً. فهو - أو كاتب خطابه - كما كان واضحاً يشير إلى تاريخ ميونيخ مع «سياسة المهادنة»، أو ما يعرف أيضاً – وهو تعبير أدق – بـ«سياسة الاسترضاء». فالمدينة نفسها غدت بعد الحرب العالمية الثانية مرادفاً عند البعض لعبثية هذه السياسة التي يمكن تعريفها في السياسة الخارجية بأنها «خطوات استرضاء» يتخذها طرف في محاولة «ساذجة في تفاؤلها» لحثّ طرف عدواني على التراجع وتجنب وقوع حرب كبرى.
ذلك أنه من ميونيخ، وفي مؤتمر عقد في مكان غير فندق باييريشر هوف الشهير، الذي يستضيف «مؤتمر الأمن» سنوياً، خرج أشهر مثال لهذه السياسة التي اعتمدها رئيس الوزراء البريطاني عام 1938 نيفيل تشامبرلين مع الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر.
يومذاك، وافق تشامبرلين على أن يضم هتلر أجزاء من تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا، بعدما كان قد ضم النمسا من دون كلمة اعتراض من أحد. ولقد جاءت موافقة رئيس الوزراء البريطاني مقابل تعهد من الزعيم النازي بأن يوقف زحفه على باقي أوروبا. ولكن، كما أثبتت الأحداث، كانت تلك الخطوة التي خرج بعدها تشامبرلين معتقداً أنه انتصر، السبب في الحرب العالمية الثانية. إذ إنها شجّعت هتلر على التقدم أكثر، وقضم أراضٍ إضافية من أوروبا وضمها إلى ألمانيا. ولقد تطلب وقف هتلر جهد رئيس وزراء بريطاني آخر، هو ونستون تشرتشل، في بناء تحالف دولي يهدف إلى وقفه وإنهاء الحرب. ومن ثم، رغم أن «مؤتمر الأمن» الأخير في ميونيخ عقد بعد 84 سنة على لقاء تشامبرلين - هتلر في عاصمة ولاية بافاريا الألمانية، فإن صدى المؤتمر الأول ظل يتردد داخل فندق باييريشر هوف الراقي في العام 2022.

لم يشهد «مؤتمر ميونيخ للأمن» طوال سنواته الماضية تجمعاً غربياً موحداً مثل الذي شهده هذا العام. إذ طغى على الحضور رؤساء حكومات ورؤساء ووزراء خارجية ودفاع من دول غربية في أوروبا بجانب الولايات المتحدة، مع غياب لافت لأي مسؤول روسي أو صيني. والواقع أن المنبر السنوي لم يعد يشبه ما كان عليه في السنوات السابقة، إذ تحوّل من مكان للحوار والتبادل الدبلوماسي، إلى مكان للحشد ضد روسيا الغائبة للمرة الأولى منذ فترة طويلة، وإرسال تحذيرات لها من استمرار تصعيدها ضد أوكرانيا.
لقد وقف الزعماء الغربيون مداورةً على منصة المؤتمر لتأكيد وقوفهم إلى جانب كييف أمام التصعيد الروسي الذي لم يكُن قد تحوّل إلى غزو عسكري بعد، وهو ما بدأ بعد أيام قليلة على اختتام أعمال المؤتمر.
من المستشار الألماني أولاف شولتز إلى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ونائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس وغيرهم، صدرت تحذيرات متتالية وتهديدات بعقوبات مؤلمة وعواقب وخيمة على موسكو إذا ما حركت جنودها أكثر... ودخلت أراضي أوكرانيا.

- كلام زيلينسكي الصريح
كان واضحاً في كلمات الزعماء الغربيين أن ذكرى «اتفاق ميونيخ» البائس عام 1938 تطاردهم. فبدوا حريصين على تحاشي تكرار أخطاء الماضي وتجنب الظهور وكأنهم يهادنون روسيا. غير أن الرئيس الأوكراني الذي وصل صباح اليوم الثاني من أيام المؤتمر، رغم التحذيرات الأميركية من مغادرته كييف، وغادر مساء اليوم نفسه، اتهمهم تحديداً بذلك.
لقد طالب الرئيس فولوديمير زيلينسكي القادة المجتمعين بأن يباشروا فرض العقوبات على روسيا فوراً، وألا ينتظروا حتى تبدأ بغزو بلاده. كذلك اعتبر زيلينسكي تهديداتهم مجرد «إشارات فارغة» ما لم تقترن بأفعال. وقال مذكراً حضوره الغربي بآثار «سياسة المهادنة» بلهجة تحذيرية: «ما الذي ستؤدي إليه محاولات المهادنة؟ فيما تحول السؤال؛ لماذا نموت لأجل دانزيغ؟ إلى الحاجة للموت لأجل دانكرك وعشرات المدن في أوروبا والعالم، بتكلفة عشرات ملايين الأرواح...». في إشارة صريحة إلى تقاعس العالم في الدفاع عن بولندا عندما غزاها هتلر، وهو ما شجعه على التقدم أكثر والتسبب بتفجير الحرب العالمية الثانية.
وتابع الرئيس الأوكراني كلامه، فانتقد أيضاً رفض السماح لبلاده بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي «ناتو». وقال إن بلاده تخلت عام 1994 عن ترسانتها النووية، التي كانت ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم، مقابل ضمانات أمنية وقّعت عليها الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا. ومن ثم تساءل: «ما الذي حصل لهذه الضمانات؟»، وتابع يقول إن «هندسة أمن العالم ضعيفة، وبحاجة إلى تحديث. القواعد التي اتفق عليها العالم قبل عقود لم تعد تعمل، ولا تفيد أمام التهديدات الجديدة... إنها جرعة دواء سعال، بينما المطلوب لقاح ضد فيروس (كوفيد 19)».

- التذكير بخطاب بوتين قبل 15 سنة
زيلينسكي لم يشر في خطابه فقط إلى ما حصل عام 1938 في ميونيخ، بل تطرّق أيضاً إلى نقطة «تاريخية» أخرى في عمر عاصمة بافاريا، حين اعتلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منبر «مؤتمر الأمن» قبل 15 سنة، وقرأ خطاباً أثار صدمة لدى الحاضرين، وفي حينه قال كثيرون آنذاك إنه أظهر الوجه الحقيقي للزعيم الروسي.
يومذاك، اتهم بوتين الولايات المتحدة بـ«الخبث» وبـ«السعي لاستحداث عالم أحادي القطب». والأهم من ذلك، أنه استنتج خلال خطابه بعد 30 دقيقة أن النظام الليبرالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة لا يهم روسيا.
هذا الخطاب، تحديداً، هو الذي عاد الرئيس الأوكراني ليذكّر به الحضور رغم مرور 15 سنة. إذ قال: «من هنا قبل 15 سنة أعلنت روسيا نواياها بأنها ستتحدى الأمن العالمي. ماذا فعل العالم؟ هادن. ما النتيجة؟ على الأقل ضم القرم وعدوان ضد بلدي».
بعد خطابه، لم يبق زيلينسكي طويلاً. بل عقد لقاءات معدودة مع الزعماء الغربيين، ثم غادر عائداً إلى بلاده. لقد كان واضحاً أن حضوره كان مدروساً، هدفه تذكير دول الغرب بواجباتها والاستفادة من دروس التاريخ. فهو تغاضى عن تحذير الرئيس الأميركي جو بايدن له قبل يوم بضرورة ألا يغادر العاصمة الأوكرانية كييف في وقت حساس. ثم إنه لم يقدّم الشكر للقادة الأوروبيين، ولا الغربيين لوقوفهم إلى جانب كييف «كلامياً»، بل اتهمهم بأنهم غير جادين، وبأنهم يدفعون بلاده «لتتسول» الحماية والدعم العسكري. وفي هذا الكلام، لم ينتقد زيلينسكي حلف «ناتو» الذي يرفض إعطاء أوكرانيا مهلة زمنية لضمها، ما يعني أنه لن يكون مجبراً على الدفاع عنها في حال شن هجوم عليها، بل انتقد أيضاً ألمانيا تحديداً، لرفضها إرسال أسلحة إلى كييف «بسبب تاريخها».

- انتقاد موقف ألمانيا
الواقع أن برلين كرّرت موقفها هذا، حتى عندما واجه عمدة كييف، الذي كان موجوداً وسط الحضور، وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيروبوك في إحدى الجلسات الحوارية. وعندها وقف العمدة والمصارع السابق فيتالي كليشكو، بقامته الضخمة، بين الحضور، وقال لبيربوك: «شكراً لإرسال 5 آلاف خوذة، ولكن هذا ليس كافياً. لا يمكننا أن ندافع عن بلدنا بها». فردّت بيربوك بتكرار الكلام عن دروس التاريخ التي لا تسمح لألمانيا بتسليح دول إبان النزاعات، قبل أن تضيف أن برلين «تبذل قصارى جهدها للتركيز على الدبلوماسية لحل التصعيد مع روسيا».
هذا، وكانت الحكومة الألمانية قد تعرضت لانتقادات شديدة بعد إرسالها خوذاً ومستشفيات عسكرية إلى أوكرانيا، خاصة أنها ثالث أكبر مصدّر للسلاح في العالم، في حين ترسل الولايات المتحدة وبريطانيا منذ أسابيع طائرات مليئة بالأسلحة لكييف. ثم إن رفض استمرار برلين إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، يأتي رغم أنها خرجت في الماضي عن الأطر التي كانت حددت فيها نفسها، وأرسلت أسلحة مثلاً لـ«البيشمركة» الأكراد في شمال العراق طوال السنوات الماضية التي كانت القوات الكردية تقاتل فيها «تنظيم داعش». وكانت تلك المرة الأولى التي ترسل فيها ألمانيا أسلحة إلى مناطق نزاعات.
لكن الدبلوماسية التي تحدثت عنها بيربوك كانت غائبة عن المؤتمر الأمني، رغم أن وزيرة الخارجية الألمانية عقدت اجتماعاً على هامشه مع فرنسا وأوكرانيا، ضمن «صيغة النورماندي». وكان الطرف الرابع والأهم في هذه المجموعة، التي أسست لمناقشة تطبيق «اتفاقية مينسك» الموقعة عام 2014 والتي تهدف للحوار بين كييف وموسكو، كان غائباً. غياب روسيا عن المؤتمر كان بإرادة الكرملين، الذي رفض الدعوات المتكرّرة لإرسال ممثلين عنه «لعرض وجهة نظره» من الأزمة، بحسب ما قال رئيس المؤتمر.
وبالفعل، لم تمضِ 24 ساعة على انتهاء «مؤتمر ميونيخ للأمن» ومغادرة الزعماء، كل إلى بلده، حتى بدأت روسيا التصعيد بشكل كبير، فأعلنت الاعتراف بـ«جمهوريتي» دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، وتبعت الخطوة بإرسال جنودها كـ«قوات حفظ سلام» إلى الإقليمين، لتتبعها ببدء غزو أوكرانيا.

- نداء يقظة للأوروبيين
من دون شك، تحول «المؤتمر» هذا العام إلى نداء يقظة بالنسبة للأوروبيين. إذ عاد النقاش بقوة حول جيش أوروبي قادر على الانتشار بسرعة وحماية حدود القارة في حالات لا يمكن لـ«ناتو» أو للولايات المتحدة التدخل مباشرة، كما هو حاصل الآن في أوكرانيا. وهذا النقاش قديم يتجدد كل سنة، وعادة لا يتعدى أيام «المؤتمر» الثلاثة، غير أنه هذا العام قد تكون له أصداء أكثر واقعية وجدية في ضوء التهديد الروسي للقارة الأوروبية، وعجز «ناتو» عن مواجهة روسيا، لكون أوكرانيا ليست عضواً في الحلف. وهو ما يعني أن الحلف غير مجبر على الدفاع عنها. واللافت أنه رغم كل هذه التحذيرات الغربية خلال الأيام التي سبقت الغزو الروسي، والتوقعات القائلة بأن روسيا ستدخل فعلاً إلى أوكرانيا، فقد شكل بدء العملية العسكرية مفاجأة في أوروبا.
من ناحية أخرى، أبرز ما أظهره فعلاً «مؤتمر ميونيخ» هذه المرة، هو متانة العلاقة عبر الأطلسي بعد سنوات من الصلات المتوترة في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب. فالمؤتمر الذي عادة ما يكون منبراً لمناقشة العلاقات الأوروبية - الأميركية، وتشارك فيه سنوياً وفود أميركية كبيرة من الكونغرس، عاد هذا العام وأكد على متانة هذه العلاقة. وحرصت نائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس، ووزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، على تكرار تعبير «قوتنا في وحدتنا»، وهو تعبير أيضاً تكرر على لسان المسؤولين الأوروبيين الآخرين الذين تنفس كثيرون منهم الصعداء بعد رحيل ترمب الذي ترك آثاراً موجعة في سنوات سابقة من المؤتمر. وكانت لحظة امتناع الحاضرين عن التصفيق إبان مؤتمر العام 2018 عندما ذكر نائب الرئيس الأميركي - آنذاك - مايك بنس اسم دونالد ترمب، وقال إنه يأتي حاملاً معه تحياته الحارة، مؤشراً على مدى تدهور العلاقات بين الأوروبيين والأميركيين في عهد الرئيس السابق.
وحرصت هاريس هذا العام في كلمتها أمام المؤتمر على التأكيد أن الولايات المتحدة وأوروبا تقفان سوياً في مواجهة روسيا. وقالت تعليقاً على التصعيد العسكري الروسي الذي كان مجرد حشود عسكرية على الحدود مع أوكرانيا: «لقد حققنا وحدة لافتة مع حلفائنا (الأوروبيين)، وهذا واضح من خلال اعترافنا المشترك بالتهديدات، وردّنا الموحّد عليها وتصميمنا على حفظ الأمن والسلم العالميين». وأردفت: «نحن وحلفاؤنا أقرب معاً، وهدفنا ورؤيتنا المشتركان واضحان».
ورغم ذلك، فإن هذه الوحدة الغربية التي ظهرت في ميونيخ بوجه روسيا، عكست أيضاً واقعاً جديداً سيكون على الأوروبيين التعامل معه. إذ جاء في تقرير لـ«المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» أنه على الرغم من الوحدة الغربية في مؤتمر ميونيخ فإن «إدارة بايدن أوضحت أنه لا يمكن منح ضمانات عسكرية إلا للأطراف الأعضاء في (ناتو)، وأن أقصى ما يمكن تقديمه للدول خارج الحلف هو فرض عقوبات وإرسال معدات عسكرية والانخراط في الدبلوماسية». وأضاف «المجلس» - وهو مركز أبحاث مرموق يتخذ من برلين مقراً له - في تقريره أن «توسيع (ناتو) لأي دول، باستثناء فنلندا والسويد، ليس مطروحاً بتاتاً، وهذا قد يكون صحيحاً أيضاً بالنسبة لعضوية الاتحاد الأوروبي».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.