معركة الانتخابات في تركيا تزداد سخونة قبل 16 شهراً من موعدها

توافق واسع بين المعارضة للمرة الأولى بهدف إسقاط النظام الرئاسي

معركة الانتخابات في تركيا تزداد سخونة قبل 16 شهراً من موعدها
TT

معركة الانتخابات في تركيا تزداد سخونة قبل 16 شهراً من موعدها

معركة الانتخابات في تركيا تزداد سخونة قبل 16 شهراً من موعدها

تشهد تركيا أجواء تسخين مبكّرة حول الانتخابات البرلمانية والرئاسية، المقرّرة في يونيو (حزيران) 2023، وسط التراجع المستمر في شعبية الرئيس رجب طيب إردوغان و«تحالف الشعب» المؤلف من حزبه (العدالة والتنمية الحاكم) وحزب الحركة القومية اليميني. هذا التراجع تسجله استطلاعات الرأي المتعاقبة على مدى نحو سنتين على خلفية الوضع الاقتصادي المتدهور وحالة الضيق في الشارع بعد ارتفاع معدل التضخم إلى نحو 50 في المائة، بما في ذلك الارتفاع الكبير في أسعار الغذاء والكهرباء والغاز إثر تراجع غير مسبوق لليرة التركية في نهاية العام الماضي.
ولعل أبرز العوامل المستجدة التي افتقدتها المنافسة السياسية على مدى 20 سنة من حكم إردوغان وحزبه، هو ظهور اتجاه قوي لدى أحزاب المعارضة لتنسيق تحركها في مواجهته، والالتقاء على هدف واحد هو إلغاء النظام الرئاسي الذي بدأ تطبيقه عام 2018، والذي فتح الباب أمام صلاحيات شبه مطلقة لإردوغان. وستتمثل أول خطوة عملية واضحة في هذا الإطار بإطلاق 6 من أحزاب المعارضة بعد غد (الاثنين) وثيقة، تحقق التوافق عليها فيما بينها، خلال اجتماع عقده قادتها في أنقرة يوم 12 فبراير (شباط) الحالي. وتتضمن الوثيقة مشروع النظام البرلماني «المعزّز»، الذي تعتزم المعارضة تطبيقه حال فوزها في الانتخابات المقبلة.

استضافت العاصمة التركية أنقرة، يوم 12 فبراير الحالي، اجتماع رؤساء أحزاب المعارضة، وهم كمال كليتشدار أوغلو «حزب الشعب الجمهوري»، وميرال أكشينار الحزب «الجيد»، وعلي بابا جان «الديمقراطية والتقدم»، وأحمد داود أوغلو «المستقبل»، وتمل كارامولا أوغلو «السعادة»، وغلتكين أويصال «الديمقراطي». وتناول الاجتماع، وهو الأول لهم، مناقشة النظام البرلماني المقترح، بعد أشهر من اجتماع لجان متخصصة من الأحزاب الستة للاتفاق على ملامح النظام.
ولقد شهد الاجتماع، الذي دعا إلى عقده زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو، توافقاً بين القادة الستة على ضرورة عودة تركيا إلى النظام البرلماني بعد تعزيزه، وذلك «بسبب ما تمخض عنه النظام الرئاسي»، الذي طبّق عام 2018، من مشكلات على صعيد السياسة الخارجية والاقتصاد «بسبب انفراد الرئيس رجب طيب إردوغان بالقرار وتهميش البرلمان ومؤسسات الدولة في صنع القرار».
القادة الستة أعلنوا، في بيان مشترك صدر عقب الاجتماع، تمسكهم ببناء نظام قوي ليبرالي ديمقراطي عادل، يفصل بين السلطات بتشريعات فعالة وتشاركية، وإدارة شفافة وحيادية وخاضعة للمساءلة، مع ضمان استقلال القضاء. وقال البيان: «بلادنا تشهد واحدة من أعمق الأزمات السياسية والاقتصادية في تاريخ الجمهورية. إذ تتزايد المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يوماً بعد يوم وتظهر آثارها بشدة. أما السبب الأهم لهذه الأزمة فهو بلا شك الإدارة التعسفية والجائرة تحت مسمى نظام الحكم الرئاسي».
وتابع البيان أن «المسؤولية المشتركة لنا جميعاً، بصفتنا 6 أحزاب سياسية، هي التغلب على هذه الأزمة بالتضامن والوحدة، والعمل على حل مشكلات البلاد العميقة على أساس التعددية من خلال توسيع مجال السياسة الديمقراطية».
ولفت البيان إلى أن الأحزاب الستة أجرت دراسة مكثفة حول النظام البرلماني المعزّز، الهادف إلى تعزيز دولة القانون والديمقراطية وتقوية الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية، مؤكداً أن «الأحزاب تبنى على التشاور والمصالحة وليس الاستقطاب». وأشار إلى أنه اتُّفِق على طرح النظام البرلماني الجديد، الذي أجمع عليه قادة الأحزاب، أمام الشعب ومشاركته مع ممثلي مختلف شرائح الأمة في الاجتماع الثاني، الذي سيعقد في 28 فبراير الحالي.

- هدف مشترك
وتابع البيان أن قادة الأحزاب الستة أجروا خلال الاجتماع تقييماً للتطورات الاقتصادية والاجتماعية الحالية في البلاد، وتبادلوا وجهات النظر حول المجالات التي يمكن العمل المشترك فيها والسياسات الواجب تنفيذها بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في يونيو 2023. وأكدوا أن هدفهم «ضمان أن يتنفس الشعب الصعداء، ورفع مستوى الرفاهية على الفور... عبر الشفافية والمساواة ومكافحة الفساد بشكل فعال، وإعلاء مبدأ الجدارة في الإدارة العامة وخدمة الشعب من خلال قانون الأخلاق السياسية».
ومن ثم، أكد البيان على أنه «لا توجد مشكلة في تركيا لا يمكن حلها عبر التشاور والتوافق... وأن الأمر المهم هو بناء تركيا الديمقراطية بضمان الحقوق والحريات الأساسية في إطار معايير مجلس أوروبا والاتحاد الأوروبي؛ حيث يرى الجميع أنفسهم مواطنين متساوين وأحراراً؛ ويمكنهم التعبير بحرية عن أفكارهم والعيش كما يعتقدون».

- جدل التحالفات
من ناحية أخرى، بينما كان اجتماع قادة الأحزاب الستة منعقداً، سرت شائعات في كواليس أنقرة بأن «تحالف الأمة»، الذي يضم حزبي «الشعب الجمهوري» و«الجيد»، سيتوسع وسيحمل اسم «تحالف الأمة الكبرى»، لكن كليتشدار أوغلو، قال: «لقد اجتمعنا في شكل 6 أحزاب على مائدة مستديرة، يعملون معاً على النظام البرلماني المعزز... لذلك أعتقد أنه من السابق لأوانه القول إن تحالف الأمة نما أو تقلص... المهم أننا شرعنا في إخراج تركيا من الظروف التي تعيشها اليوم».
للعلم، سبق أن صدرت تلميحات عن المعارضة التركية إلى احتمالات توسيع تحالفها المعروف باسم «تحالف الأمة» ليضم الأحزاب التي تتفق معاً في المبادئ، وأهمها «الديمقراطية والتقدم» برئاسة باباجان و«المستقبل» برئاسة داود أوغلو. وذكر كليتشدار أوغلو أن أحزاب المعارضة الجديدة المنشقة عن حزب «العدالة والتنمية» الحاكم برئاسة رجل طيب إردوغان، لديها خطاب سياسي مشترك مع «تحالف الأمة».
وبدوره، قال علي باباجان، نائب رئيس الوزراء الأسبق: «لدينا لقاءات متكررة مع أحزاب سياسية مختلفة على مستوى الرؤساء، وهناك أيضاً مباحثات تجري عبر كثير من القنوات، واجتماعات تعقد دورياً». وأردف باباجان أنه على الأحزاب التي تطالب بنظام برلماني «التحدث عن عملية الانتقال التي تعتبر مهمة وحاسمة، فهي بحاجة إلى التخطيط بشكل جيد للغاية، لأنه ليس من الواضح كيف سيتشكل البرلمان بعد الانتخابات». وتابع باباجان أن التحالف الانتخابي موضوع منفصل، والدراسات الموضوعية موضوع آخر، موضحاً: «أرى النظام البرلماني كأحد المجالات التي تحتاج إلى العمل على أساس موضوعي... النظام البرلماني يعني التعديل الدستوري. لكن في الوقت الراهن، ليس سهلاً على أي حزب الحصول على 360 - 400 نائب في البرلمان أو بعد الانتخابات... مع المعادلة السياسية الحالية، يبدو أنه لن يكون لأي حزب سلطة تغيير الدستور بمفرده. وإذا كان الأمر يتعلق بالتعديل الدستوري، فيجب أن يحصل ذلك بالبحث عن توافق سياسي واجتماعي. وفي النهاية، عندما يتحقق ذلك يُعرض على البرلمان، فيحصل على 360 صوتاً ويذهب للاستفتاء أو يذهب مباشرة إلى البرلمان بغالبية 400 صوت».

- مشروع الدستور
إردوغان كان قد أعلن أنه سيطرح مشروع دستور جديد، وصفه بأنه سيكون «نهاية لحقبة الوصاية العسكرية» خلال الأشهر الأولى من العام الحالي. لكن المشروع لا يحظى بتوافق من جانب المعارضة، التي تتمسك بإلغاء النظام الرئاسي، وترى في المشروع محاولة من جانب إردوغان للبقاء وحزبه في السلطة لفترة أطول عبر تغيير القوانين.
وفي هذه الأثناء، ثار جدل حول أحقية إردوغان في خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، بعدما أعلن دولت بهشلي رئيس حزب «الحركة القومية» وحليف إردوغان في «تحالف الشعب» أن الأخير سيكون مرشح التحالف للرئاسة. إذ ينص الدستور على أنه لا يحق للرئيس الترشح لأكثر من دورتين رئاسيتين، مدة كل منهما 5 سنوات.
يتولى إردوغان الرئاسة منذ 2014، وكانت مدته الأولى التي لم تكتمل في ظل النظام البرلماني. ولقد أجري تعديل على الدستور للانتقال إلى النظام الرئاسي، أقرّ عبر استفتاء شعبي في أبريل (نيسان) 2017. وتضمن نصاً على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية معاً في يوم واحد. من ثم قدّم موعد الانتخابات لتجري في 24 يونيو 2018. وهي الانتخابات التي بدأ بعدها تطبيق النظام الرئاسي.
حزب «العدالة والتنمية» لا يرى مبرراً لإثارة الجدل حول حق إردوغان بخوض الانتخابات المقبلة استناداً إلى أن التعديل الدستوري ألغى ما قبله، وعليه يحق للرئيس الترشح لفترة ثانية في 2023. بينما بدأ بهشلي يروّج لفكرة منح حق الترشح لـ3 فترات رئاسية في ظل النظام الرئاسي، إيذاناً بإدراج مادة تنص على ذلك في مشروع الدستور الجديد. ومن جانبه، يعتبر «العدالة والتنمية»، بدعم من حزب بهشلي، أن النظام الرئاسي يسمح بإدارة أكثر سلاسة للحكومة ويضع البرلمان كثقل يعادل السلطات التنفيذية الممنوحة للرئيس. غير أن المعارضة ومنتقدي ذلك النظام يؤكدون أنه يشدد من قبضة إردوغان على البلاد ويكرس حكم «الرجل الواحد»، الذي أدى إلى أزمات سياسية واقتصادية جرّت البلاد إلى كوارث منذ تطبيقه.
وفي هذا السياق، أظهرت سلسلة من استطلاعات الرأي خلال الفترة الأخيرة قلّة رضا غالبية الشعب التركي عن النظام الرئاسي وعن طريقة إدارة حكومة الرئيس رجب طيب إردوغان للبلاد. كذلك، أكدت تضاؤل فرص «تحالف الشعب» في الفوز بالانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في يونيو 2023.

- ضغط الوضع الاقتصادي
> أصبح الوضع الاقتصادي المتدهور في تركيا من أكثر العوامل الضاغطة على الرئيس رجب طيب إردوغان وحكومته، وتسبب في تراجع التأييد لتحالفه الانتخابي «تحالف الشعب». إذ هبطت شعبيته إلى مستوى متدنٍ لا يزيد في جل الاستطلاعات عن 34 في المائة للتحالف الذي يضم حزبي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» معاً، في حين تفوق نسبة تأييد «تحالف الأمة» المعارض 40 في المائة، مع مراعاة أن ثمة رقماً صعباً آخر يتمثل في حزب «الشعوب الديمقراطية» المؤيد للأكراد.
من ناحية ثانية، غدا مألوفاً خروج الأتراك في مظاهرات احتجاجية على غلاء الأسعار وارتفاع معدل الفقر، منددة بالسياسات الاقتصادية للرئيس رجب طيب إردوغان. إذ تتهمها بالتسبب في انهيار عملة البلاد (الليرة التركية)، وتطالب باستقالته وتحسين الأوضاع المعيشية، مع التأكيد على أن الشعب سيحاسبه وحكومته.
وفي المقابل، تصعّد المعارضة مطالباتها بالتوجه إلى انتخابات مبكرة في أسرع وقت، وتحذّر من حدوث فوضى في البلاد إذا استمر الصمت على انهيار الاقتصاد. بينما إردوغان وحليفه بهشلي يرفضان البحث بالانتخابات المبكرة.
في هذه الأثناء، توقع علي باباجان، نائب رئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب «الديمقراطية والتقدم» المعارض، انتشار الفقر بشكل أكبر بسبب الأزمة الناجمة عن انخفاض قيمة الليرة وزيادة التضخم. وحمّل باباجان - الذي نجح في إحداث قفزة في الاقتصاد التركي منذ عام 2002، عندما كان مع «العدالة والتنمية» في الحكم، حتى تركه الحكومة عام 2013 - حكومة «العدالة والتنمية» المسؤولية عن الوضع الاقتصادي الحالي في تركيا. وأوضح أن الناس «سيتفهمون عواقب الأزمة على حياتهم في الأشهر القليلة المقبلة؛ حيث سيتفشى الفقر وتتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء». وشدد على وجوب إجراء انتخابات مبكرة على الفور للخروج من الأزمة الاقتصادية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن باباجان أطلق حزبه العام الماضي بعد استقالته عام 2019 من «العدالة والتنمية».
محاولات الإنقاذ

> في ظل هذه الأوضاع، بدأ إردوغان تحركات على الصعيد الاقتصادي لإنقاذ الليرة التركية، لكن هذه التحركات لم تسفر عن تحقيق تقدم كبير، خاصة على صعيد التضخم وارتفاع الأسعار. وأيضاً، يتحرك إردوغان على صعيد محاولة كسر عزلة تركيا بسبب السياسة الخارجية، التي ترى المعارضة أنها «حشرت تركيا في الزاوية» وجعلتها محاطة بالأعداء، في خطوة تستهدف بدرجة كبيرة إنعاش الاقتصاد التركية.
وبعد محاولات لتحسين العلاقات مع كل من مصر والمملكة العربية السعودية، حققت العلاقات بين تركيا والإمارات العربية المتحدة قفزة توّجت بزيارات على أرفع مستوى بين البلدين وتوقيع اتفاقيات للاستثمار ومبادلة العملة. كذلك قطعت أنقرة شوطاً كبيراً على صعيد تطبيع العلاقات مع إسرائيل وتنتظر زيارة من رئيسها إسحاق هرتسوغ في مارس (آذار) المقبل، سيسعى إردوغان خلالها إلى التركيز بشدة على ملف غاز شرق البحر المتوسط ونقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر بلاده.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.