أسبوع لندن لخريف وشتاء 2022 في «عين العاصفة»

بين الراحة والأناقة رقص المصممون احتفالاً بعهد جديد

TT

أسبوع لندن لخريف وشتاء 2022 في «عين العاصفة»

الجمعة الماضي لم يكن يوماً عادياً. فقد تزامن فيه افتتاح أسبوع الموضة البريطاني لخريف وشتاء 2022 بهبوب عاصفة «يونيس» التي لم تشهد لها بريطانيا مثيلاً منذ 30 عاماً. تحذيرات قوية من السلطات البريطانية وشلل وسائل المواصلات، وإغلاق المدارس، بل حتى الجيش وُضع في حالة تأهب منذ اليوم الخميس تحسباً لما قد تسببه أو تخلفه العاصفة من خسائر. التعليمات كانت عدم مغادرة المنازل سوى لأسباب قصوى. ويبدو أن حضور الأسبوع كان مهماً يتطلب المغامرة، وهو ما جعل الأسبوع يسير قُدماً في برنامجه. فلا الرياح العاصفة ولا المخاوف من تساقط الأشجار ولا تعطل المواصلات ردعت الحضور عن التنقل من منطقة إلى أخرى في تعطش واضح للانعتاق من قيود «كورونا». شيء واحد أثر على أجواء الأسبوع في اليوم الأول وهو جنون عشاق الموضة من الذين كانوا ينفشون ريشهم ويستعرضون جنونهم من خلال أزياء غريبة خارج قاعات العرض. هذه المرة فرضت عليهم الرياح العاتية والبرد القارس المسارعة بالاحتماء بدفء القاعات الداخلية، التي كانت بمثابة استراحات غطت فيها همهمات الحضور على زفيف الريح.
لا كمامات مفروضة ولا تباعد اجتماعي، فقط عناق من القلب وتساؤلات عما إذا كانت عاصفة «كوفيد - 19» قد مرت فعلاً بسلام أم أنها قد تُداهمنا بشكل متحور جديد؟
هذا الارتياح تحول إلى شبه احتفالات راقصة مصغرة في بعض العروض التي نذكر منها على سبيل المثال عروض بول كوستيلو وهاريس ريد وبرين وريتشارد كوين وغيرهم. المصمم المخضرم بول كوستيلو الذي كان يكتفي بتحية الحضور بانحناءة وتحية على الطريقة اليابانية، أنهاه هذه المرة برقصة مع عارضة. بينما أتحفنا هاريس ريد بعرض مثير فاجأنا فيه المغني سام سميث بوصلة غنائية حية تخايل على نغماتها عارضو أزياء بتصاميم نسائية في مشهد جريء كان فيه الخيط بين الأنوثة والذكورة رفيعاً إن لم نقل مفقوداً تماماً. ريتشارد كوين استعان بدوره بأوركسترا وترية رافقت العارضات من البداية إلى النهاية، مؤكداً أنه لم يكن يريد أن الاعتماد على الأزياء وحدها لإثارة الحلم والشغف بداخل الحضور، بقدر ما يريدها جُزءاً من تجربة متكاملة تلمس كل الحواس. من جهتها أعربت ثيا بريغازي، مصممة دار «برين» عن سعادتها بقولها: «يا لها من سعادة أن نعود للعروض الحية بعد عامين تقريباً». ترجمت وشريكها في التصميم جاستين بريغازي هذه السعادة بالاستعانة بطلبة من معهد الباليه الوطني لتقديم تصاميم مُستلهمة من ثقافة الشارع بكل ما تتضمنه من تمرد على القيود ورغبة في التعبير عن الذات عكستها حركات الراقصين.
من خلال متابعة العروض، سواء الحية أو الرقمية، تكتشف مدى تأثير العامين الأخيرين على عملية الإبداع وتوجهات الموضة الجديدة. أزياء وإكسسوارات لم تكن جزءاً من مشهد الموضة قبل 2019. تسلطنت على المنصات وهي تصرخ بأنها الواقع الجديد، مثل الشباشب والبيجامات وغيرها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض المصممين صنعوا أسماءهم وحققوا نجاحات تجارية كبيرة خلال الجائحة بفضل تفننهم في إخراج الملابس المنزلية إلى مناسبات السهرة والمساء مثل المصممة نادين ميرابي اللبنانية الأصل، التي أصبحت «بيجاماتها» المتميزة بريشها وأزرارها المتلألئة مطلب الجميع.
لكن ليس كل المصممين استكانوا للراحة والإيحاءات «البيتوتية». العديد منهم عبروا عن رغبتهم في العودة إلى الحياة الطبيعية والسهرات من خلال ملابس تميل إلى الفخامة.
مايكل هالبورن مثلاً، والذي احتفل بالعاملين في مجالات الصحة والمواصلات في عام 2020 في عرض افتراضي، عاد هذا الموسم بعرض حي في منطقة بريكستون، غير متجاهل لفكرة التضامن والتكافل الاجتماعي الذي لمسه خلال أزمة «كوفيد»، لكن ركز أيضاً على الجمال والبريق ليُذكرنا بأسلوبه المعتاد الذي تتراقص فيه ألوان الديسكو مع تصاميم مستوحاة من السبعينات. في تصريح له بعد العرض قال إنه انطلق من سؤال «ماذا لو كان كل هذا حلماً؟» والجواب بالنسبة له كان تقديم تصاميم أنيقة مفعمة بالفرح تكون بمثابة مضاد لبساطة وخمول الحياة الاجتماعية في العامين الأخيرين.
لهذا كانت تشكيلته لخريف وشتاء 2022 موجهة بكاملها لمناسبات المساء والسهرة بألوان متوهجة وأقمشة تتماوج بالخرز والترتر، وكأنه يريد أن ينسى ويُنسينا معه فترات الحجر والعُزلة الطويلة. المصمم ريتشارد كوين كان له رأي مماثل تقريباً، مع اختلاف الأسلوب. هو الآخر استعرض قدراته الفنية في تشكيلة تلعب على فخامة الأحجام وجمال الألوان والنقشات في صورة تحاكي الـ«هوت كوتور». ولا بأس من الإشارة هنا إلى أن عرضه أصبح من أهم العروض في أسبوع لندن منذ عام 2018 عندما سجل سبقاً بكونه أول مصمم أزياء تحضر له الملكة إليزابيث الثانية عرضاً في حياتها، والمناسبة كانت تلقيه جائزة على إسهاماته من يدها.
في تشكيلته هاته، عاد إلى حقبة الستينات ليستلهم منها أحجاماً هندسية واسعة طبعها بورود أصبحت بمثابة ماركته المسجلة بدأت خطوطها تلين وتنحف في الجزء الثاني من العرض ليكتسب المشهد جُرأة وحداثة أكبر.
بيد أنه رغم روح التفاؤل والرغبة في العودة إلى الطبيعي، راودت العديد من صناع الموضة وعُشاقها تساؤلات عن غياب أسماء مهمة عن المشاركة هذا الموسم ومدى تأثيرها على الأسبوع، لا سيما أن هذه الأسماء كانت تُضفي عليه بريقاً وزخماً إعلانياً، مثل «بيربري» وجوناثان أندرسون وفكتوريا بيكهام وكريستوفر كاين وماريا كاترانزو. لحسن الحظ أن العاصمة البريطانية في جُعبتها الكثير الذي يُخول لها ألا تستسلم بسهولة، سواء تعلق الأمر بفيروس فتاك أو بعاصفة جوية عاتية. فهي تمتلك سلاحاً قوياً يتجسد في مصممين شباب تسلموا المشعل من الكبار أو حديثي التخرج تُحركهم رغبة جامحة للابتكار. سطع نجم بعض هؤلاء المصممين خلال الجائحة بفضل تمكُنهم من أدوات المستقبل، مثل منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما الإنستغرام والتيك توك، إضافة إلى العروض الافتراضية والرقمية والميتافيرس. غني عن القول إن بعضهم الآخر تخرج خلال الجائحة في معاهد بريطانيا الشهيرة ولأنهم لم يحصلوا على فرصتهم للاحتفال بنجاحاتهم في حفل تخرج كبير يستعرضون فيه مواهبهم أمام المتخصصين والمؤثرين من صناع الموضة العالمية، أتيحت لهم الفرصة لإشباع هذه الحاجة من خلال عروض على منصات متنوعة قدموا فيها عروضاً تؤكد أن نجاحهم كان مستحقاً وأن المستقبل لهم.


مقالات ذات صلة

ميغان ماركل وكايلي جينر والصراع على المرتبة الأولى

لمسات الموضة بين ميغان ماركل وكايلي جينر قواسم مشتركة وفوارق عديدة في الوقت ذاته (أ.ف.ب)

ميغان ماركل وكايلي جينر والصراع على المرتبة الأولى

هناك فعلاً مجموعة من القواسم المُشتركة بين ماركل وجينر، إلى جانب الجدل الذي تثيرانه بسبب الثقافة التي تُمثلانها ويرفضها البعض ويدعمها البعض الآخر.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة توسعت الدار مؤخراً في كل ما يتعلق بالأناقة واللياقة لخلق أسلوب حياة متكامل (سيلين)

غادر هادي سليمان «سيلين» وهي تعبق بالدفء والجمال

بعد عدة أشهر من المفاوضات الشائكة، انتهى الأمر بفض الشراكة بين المصمم هادي سليمان ودار «سيلين». طوال هذه الأشهر انتشرت الكثير من التكهنات والشائعات حول مصيره…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة كيف جمع حذاء بسيط 6 مؤثرين سعوديين؟

كيف جمع حذاء بسيط 6 مؤثرين سعوديين؟

كشفت «بيركنشتوك» عن حملتها الجديدة التي تتوجه بها إلى المملكة السعودية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة الملك تشارلز الثالث يتوسط أمير قطر الشيخ تميم بن حمد وزوجته الشيخة جواهر والأمير ويليام وكاثرين ميدلتون (رويترز)

اختيار أميرة ويلز له... مواكبة للموضة أم لفتة دبلوماسية للعلم القطري؟

لا يختلف اثنان أن الإقبال على درجة الأحمر «العنابي» تحديداً زاد بشكل لافت هذا الموسم.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة تفننت الورشات المكسيكية في صياغة الإكسسوارات والمجوهرات والتطريز (كارولينا هيريرا)

دار «كارولينا هيريرا» تُطرِز أخطاء الماضي في لوحات تتوهج بالألوان

بعد اتهام الحكومة المكسيكية له بالانتحال الثقافي في عام 2020، يعود مصمم غوردن ويس مصمم دار «كارولينا هيريرا» بوجهة نظر جديدة تعاون فيها مع فنانات محليات

«الشرق الأوسط» (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)