الجمعة الماضي لم يكن يوماً عادياً. فقد تزامن فيه افتتاح أسبوع الموضة البريطاني لخريف وشتاء 2022 بهبوب عاصفة «يونيس» التي لم تشهد لها بريطانيا مثيلاً منذ 30 عاماً. تحذيرات قوية من السلطات البريطانية وشلل وسائل المواصلات، وإغلاق المدارس، بل حتى الجيش وُضع في حالة تأهب منذ اليوم الخميس تحسباً لما قد تسببه أو تخلفه العاصفة من خسائر. التعليمات كانت عدم مغادرة المنازل سوى لأسباب قصوى. ويبدو أن حضور الأسبوع كان مهماً يتطلب المغامرة، وهو ما جعل الأسبوع يسير قُدماً في برنامجه. فلا الرياح العاصفة ولا المخاوف من تساقط الأشجار ولا تعطل المواصلات ردعت الحضور عن التنقل من منطقة إلى أخرى في تعطش واضح للانعتاق من قيود «كورونا». شيء واحد أثر على أجواء الأسبوع في اليوم الأول وهو جنون عشاق الموضة من الذين كانوا ينفشون ريشهم ويستعرضون جنونهم من خلال أزياء غريبة خارج قاعات العرض. هذه المرة فرضت عليهم الرياح العاتية والبرد القارس المسارعة بالاحتماء بدفء القاعات الداخلية، التي كانت بمثابة استراحات غطت فيها همهمات الحضور على زفيف الريح.
لا كمامات مفروضة ولا تباعد اجتماعي، فقط عناق من القلب وتساؤلات عما إذا كانت عاصفة «كوفيد - 19» قد مرت فعلاً بسلام أم أنها قد تُداهمنا بشكل متحور جديد؟
هذا الارتياح تحول إلى شبه احتفالات راقصة مصغرة في بعض العروض التي نذكر منها على سبيل المثال عروض بول كوستيلو وهاريس ريد وبرين وريتشارد كوين وغيرهم. المصمم المخضرم بول كوستيلو الذي كان يكتفي بتحية الحضور بانحناءة وتحية على الطريقة اليابانية، أنهاه هذه المرة برقصة مع عارضة. بينما أتحفنا هاريس ريد بعرض مثير فاجأنا فيه المغني سام سميث بوصلة غنائية حية تخايل على نغماتها عارضو أزياء بتصاميم نسائية في مشهد جريء كان فيه الخيط بين الأنوثة والذكورة رفيعاً إن لم نقل مفقوداً تماماً. ريتشارد كوين استعان بدوره بأوركسترا وترية رافقت العارضات من البداية إلى النهاية، مؤكداً أنه لم يكن يريد أن الاعتماد على الأزياء وحدها لإثارة الحلم والشغف بداخل الحضور، بقدر ما يريدها جُزءاً من تجربة متكاملة تلمس كل الحواس. من جهتها أعربت ثيا بريغازي، مصممة دار «برين» عن سعادتها بقولها: «يا لها من سعادة أن نعود للعروض الحية بعد عامين تقريباً». ترجمت وشريكها في التصميم جاستين بريغازي هذه السعادة بالاستعانة بطلبة من معهد الباليه الوطني لتقديم تصاميم مُستلهمة من ثقافة الشارع بكل ما تتضمنه من تمرد على القيود ورغبة في التعبير عن الذات عكستها حركات الراقصين.
من خلال متابعة العروض، سواء الحية أو الرقمية، تكتشف مدى تأثير العامين الأخيرين على عملية الإبداع وتوجهات الموضة الجديدة. أزياء وإكسسوارات لم تكن جزءاً من مشهد الموضة قبل 2019. تسلطنت على المنصات وهي تصرخ بأنها الواقع الجديد، مثل الشباشب والبيجامات وغيرها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض المصممين صنعوا أسماءهم وحققوا نجاحات تجارية كبيرة خلال الجائحة بفضل تفننهم في إخراج الملابس المنزلية إلى مناسبات السهرة والمساء مثل المصممة نادين ميرابي اللبنانية الأصل، التي أصبحت «بيجاماتها» المتميزة بريشها وأزرارها المتلألئة مطلب الجميع.
لكن ليس كل المصممين استكانوا للراحة والإيحاءات «البيتوتية». العديد منهم عبروا عن رغبتهم في العودة إلى الحياة الطبيعية والسهرات من خلال ملابس تميل إلى الفخامة.
مايكل هالبورن مثلاً، والذي احتفل بالعاملين في مجالات الصحة والمواصلات في عام 2020 في عرض افتراضي، عاد هذا الموسم بعرض حي في منطقة بريكستون، غير متجاهل لفكرة التضامن والتكافل الاجتماعي الذي لمسه خلال أزمة «كوفيد»، لكن ركز أيضاً على الجمال والبريق ليُذكرنا بأسلوبه المعتاد الذي تتراقص فيه ألوان الديسكو مع تصاميم مستوحاة من السبعينات. في تصريح له بعد العرض قال إنه انطلق من سؤال «ماذا لو كان كل هذا حلماً؟» والجواب بالنسبة له كان تقديم تصاميم أنيقة مفعمة بالفرح تكون بمثابة مضاد لبساطة وخمول الحياة الاجتماعية في العامين الأخيرين.
لهذا كانت تشكيلته لخريف وشتاء 2022 موجهة بكاملها لمناسبات المساء والسهرة بألوان متوهجة وأقمشة تتماوج بالخرز والترتر، وكأنه يريد أن ينسى ويُنسينا معه فترات الحجر والعُزلة الطويلة. المصمم ريتشارد كوين كان له رأي مماثل تقريباً، مع اختلاف الأسلوب. هو الآخر استعرض قدراته الفنية في تشكيلة تلعب على فخامة الأحجام وجمال الألوان والنقشات في صورة تحاكي الـ«هوت كوتور». ولا بأس من الإشارة هنا إلى أن عرضه أصبح من أهم العروض في أسبوع لندن منذ عام 2018 عندما سجل سبقاً بكونه أول مصمم أزياء تحضر له الملكة إليزابيث الثانية عرضاً في حياتها، والمناسبة كانت تلقيه جائزة على إسهاماته من يدها.
في تشكيلته هاته، عاد إلى حقبة الستينات ليستلهم منها أحجاماً هندسية واسعة طبعها بورود أصبحت بمثابة ماركته المسجلة بدأت خطوطها تلين وتنحف في الجزء الثاني من العرض ليكتسب المشهد جُرأة وحداثة أكبر.
بيد أنه رغم روح التفاؤل والرغبة في العودة إلى الطبيعي، راودت العديد من صناع الموضة وعُشاقها تساؤلات عن غياب أسماء مهمة عن المشاركة هذا الموسم ومدى تأثيرها على الأسبوع، لا سيما أن هذه الأسماء كانت تُضفي عليه بريقاً وزخماً إعلانياً، مثل «بيربري» وجوناثان أندرسون وفكتوريا بيكهام وكريستوفر كاين وماريا كاترانزو. لحسن الحظ أن العاصمة البريطانية في جُعبتها الكثير الذي يُخول لها ألا تستسلم بسهولة، سواء تعلق الأمر بفيروس فتاك أو بعاصفة جوية عاتية. فهي تمتلك سلاحاً قوياً يتجسد في مصممين شباب تسلموا المشعل من الكبار أو حديثي التخرج تُحركهم رغبة جامحة للابتكار. سطع نجم بعض هؤلاء المصممين خلال الجائحة بفضل تمكُنهم من أدوات المستقبل، مثل منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما الإنستغرام والتيك توك، إضافة إلى العروض الافتراضية والرقمية والميتافيرس. غني عن القول إن بعضهم الآخر تخرج خلال الجائحة في معاهد بريطانيا الشهيرة ولأنهم لم يحصلوا على فرصتهم للاحتفال بنجاحاتهم في حفل تخرج كبير يستعرضون فيه مواهبهم أمام المتخصصين والمؤثرين من صناع الموضة العالمية، أتيحت لهم الفرصة لإشباع هذه الحاجة من خلال عروض على منصات متنوعة قدموا فيها عروضاً تؤكد أن نجاحهم كان مستحقاً وأن المستقبل لهم.
أسبوع لندن لخريف وشتاء 2022 في «عين العاصفة»
بين الراحة والأناقة رقص المصممون احتفالاً بعهد جديد
أسبوع لندن لخريف وشتاء 2022 في «عين العاصفة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة