أوكرانيا... صراع مفتوح وعصر جديد من العلاقات الدولية

مروحية روسية هبطت اضطرارياً في محيط كييف الخميس (أ.ب)
مروحية روسية هبطت اضطرارياً في محيط كييف الخميس (أ.ب)
TT

أوكرانيا... صراع مفتوح وعصر جديد من العلاقات الدولية

مروحية روسية هبطت اضطرارياً في محيط كييف الخميس (أ.ب)
مروحية روسية هبطت اضطرارياً في محيط كييف الخميس (أ.ب)

بإعلانه العملية العسكرية ضد أوكرانيا، نقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المواجهة مع الغرب من منطقة التماس إلى العمق الأوكراني. لكن هذا لم يكن ممكناً لولا تراكمات الأزمة الأوكرانية التي أتاحت لروسيا فرصة نادرة لإيجاد موطئ قدم وتغيير قواعد اللعبة.
فبدءاً من الاحتجاجات الجماهيرية وتغيير النظام في 2014، وبعدها الحرب المفتوحة في «دونباس»، وضعت الهوية الأوكرانية أمام اختبار شديد التقطت مفاتيحه روسيا. وأدّى عجز مجموعة النورماندي، المشكّلة من ألمانيا وفرنسا وأوكرانيا وروسيا، عن وقف القتال بموجب اتفاقيات مينسك الأولى والثانية لعامي 2014 و2015، إلى تقسيم منطقة الدونباس التاريخية إلى قسمين يفصلهما خط مواجهة.
أتاح ذلك المجال لدمج تدريجي للإقليمين المنفصلين في الهياكل السياسية والاقتصادية والأمنية لروسيا، من خلال توزيع جوازات السفر الروسية، وإدخال الروبل كعملة محلية وإعادة توطين الشركات والتنسيق الأمني، بالتوازي مع رفع الحكومة الأوكرانية يدها عن الإقليمين بهدف زيادة تكاليف الحرب على موسكو.
وسهّلت المسافة المادية والسياسية المتزايدة على مدى السنوات الماضية بين جزأي دونباس (الجزء الذي تسيطر عليه كييف من جهة والإقليمان المنفصلان من جهة أخرى)، مسألة فرز الهويات وتشتيت مواقف السكان المحليين، بين فريق متمسك بانتمائه الأوكراني، وآخر يرى نفسه في الفلك الروسي.

أبعد من حدود 2014
غير أن اللافت هو أن الحيّز الجغرافي للجمهوريتين الجديدتين، وفق إعلان بوتين الاعتراف بهما، يغطي الحدود الإدارية للإقليمين بما يتجاوز المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون، وبما يعيد التذكير بالشروط التي نصّ عليها مؤتمر مينسك، مما يعني أنّ المجال أضحى متاحاً أمام موسكو لمزيد من التوّغل في العمق الأوكراني وتنفيذ احتلال جزئي لمناطقها الشرقية، من مدينة خاركوف شمالاً حتى دنبّر وماريوبل جنوباً، ليتمّ الاتصال مع شبه جزيرة القرم والسيطرة على بحر آزوف وتحويله إلى بحر داخلي روسي يمكن إغلاقه أمام حركة الملاحة الغربية.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنّ شروط التسوية السياسية اكتسبت بُعداً جديداً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقضايا الأمن الدولي وبمستقبل القارة الأوروبية بشكل خاص.
فهل كانت الأزمة الأوكرانية خارج توقّعات الولايات المتّحدة والدول الغربية، أم أنّ هذه الدول أساءت تقدير ردّة الفعل الروسية، التي تبدو اليوم خارج السيطرة ومستعصيّة على الدبلوماسية لإعادة الأمور إلى نصابها؟

توريط روسيا
في بداية الأزمة، كان يكفي تعهد أميركي واضح بعدم وجود أي طموح لإدخال أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبعدم الرغبة في نشر المزيد من المنظومات الصاروخية، لإحراج بوتين وتعديل مسار الأزمة. لكن الإمعان الأميركي في وضع السيناريوهات العسكرية ونقل أجواء الحرب إلى أوروبا يُظهر إرادة واضحة في دفع روسيا للتّورط بالحرب مع أوكرانيا.
لهذا السبب، تمّ إفشال اجتماع النورماندي الأخير لتنفيذ مقررات مينسك المتعلّقة بمنح الاستقلال الذاتي للإقليمين. ولهذا السبب أيضاً، لم تقم واشنطن والدول الأوروبية بأي مسعى لدى كييف لوقف إطلاق النار ووقف العمليات العسكرية في الدونباس.
لقد تناقلت الصحف عن مسؤولين أميركيين أنّ الولايات المتّحدة أبلغت حلفاءها بأنّ العاصمة كييف ومدن خاركيف شمالاً ولاوديسا وخيرسون جنوباً، يمكن أن تكون هدفاً لغزو محتمل استناداً لقدرات القوى العسكرية المحتشدة على الحدود. وسبق ذلك إخلاء سفارة الولايات المتّحدة في كييف ونقل العمليات إلى مدينة لفيف القريبة من الحدود مع بولونيا. كما أبلغت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتّحدة في جنيف بثشبا كروكر، مجلس حقوق الإنسان، بأنّ لدى واشنطن معلومات حول إعداد موسكو قائمة بالأوكرانيين «الذين سيتم قتلهم أو إرسالهم إلى معسكرات بعد الاحتلال العسكري».

3 أهداف للمناورة الأميركية
محاولة فهم هذه المناورة الأميركية تقود إلى أهداف كثيرة تبدو منطقية، منها:
أولاً، إخضاع السيطرة الأميركية على دول حلف «الناتو» لاختبار جديد بالتلويح بوجود خطر فعلي يهدد الأمن الأوروبي، ولا شيء أفضل من دفع روسيا إلى التورط في حرب مع أوكرانيا التي تجمع ميزات عدة تتصل بالأمن الأوروبي على مستوى الطاقة والاقتصاد.
ثانياً، وضع حدّ للصعود المطرد للعلاقات الروسية - الأوروبية، خصوصاً الاقتصادية مع ألمانيا، التي باتت ترفض الانصياع للإملاءات الأميركية، لا سيما فيما يتعلّق بالموقف من «نورد ستريم - 2». هذا الخط الذي تعده ألمانيا عاملاً أساسياً في استقرارها الاقتصادي بعد أن اتّخذت قرارها بالاستغناء عن الطاقة النووية ووقف استخدام الفحم الحجري.
ثالثاً، فرض عقوبات اقتصادية قاسية، تشارك بها أوروبا، على صادرات الغاز من روسيا لإرهاق اقتصادها وإفساح المجال لتنويع مصادر الطاقة الأوروبية بعيداً عن موسكو.

ثمن التراجع لبوتين
على أن السؤال الأكثر تكراراً الآن هو: ماذا بعد استقلال الجمهوريتين وإعلان «الناتو» أنه ليس في وارد إرسال وحدات عسكرية للدفاع عن دولة ليست عضواً في الحلف، والاكتفاء بإرسال تعزيزات عسكرية؟ وماذا بعد فشل الدبلوماسية في اختراق الوضع القائم وتحول عمليات إطلاق النار المحدودة بين الجيش الأوكراني والانفصاليين في شرق البلاد إلى حرب استنزاف لن تستطيع كييف تحمل تكلفتها على المستويات كافة؟
بعبارات أخرى، تحوّلت أوكرانيا إلى حقل معركة لصراع دولي يشتبك فيه الاقتصادي بالأمني، وتقف عند تخومه كلّ من الولايات المتّحدة وروسيا، وتدفع أوروبا ثمناً باهظاً لاستمراره. والسؤال الآن لم يعد ما إذا كان سيتمّ المضي قدماً، ولكن إلى أي مدى؟ وهل يمكن أن يعني الانتقال إلى الدبلوماسية أقل من المطالبة بتغيير النظام وتنصيب فريق موالٍ للكرملين ووقف أي محاولة للانضمام للناتو والاعتراف بالجمهوريتين وتطبيق اتفاقات مينسك 2014؟
لقد رفع الكرملين مستوى المخاطر بشكل كبير، لدرجة لم يعدْ معها التراجع محتملاً ما لم يتمكّن من كسب شيء في المقابل، أقلّه الدفع باتّجاه المزيد من التنازلات الاستراتيجية فيما يتعلّق بالأمن الأوروبي ودور «الناتو».

ما أهمية أوكرانيا للغاز الأوروبي؟
لقد اعتادت أوكرانيا أن تكون محطة رئيسية في نظام الطاقة الأوروبي، لكن الحال اليوم لم يعدْ كما كان عليه في العقد الأخير من القرن الماضي، حين كان معظم الغاز الروسي إلى أوروبا يمرّ عبر أراضيها. لقد قامت روسيا منذ ذلك الحين بتنويع الطرق بواسطة خط أنابيب «يامال» عبر بيلاروسيا وبولندا، وخطي أنابيب «بلو ستريم» و«ترك ستريم» إلى تركيا، وخط أنابيب «نورد ستريم 1» إلى ألمانيا و«نورد ستريم 2» الذي ينتظر التصديق، مما أدى إلى خفض نقل الغاز عبر أوكرانيا بنسبة 70% بين عامي 1998 و2021 إلى أقل من 42 مليار متر مكعب. لقد خفّضت خطوط الأنابيب الجديدة عدد الدول التي تعتمد على الإمدادات عبر أوكرانيا. اليوم، أوكرانيا هي ممر عبور للغاز المتّجه إلى سلوفاكيا، وما بعده إلى النمسا وإيطاليا.
وخلصت المنظّمة الأوروبية لمشغلي خطوط نقل الغاز، في تحليل حديث لها، إلى أنّه يمكن التعايش مع التأثيرات النهائية لانقطاع الإمدادات الأوكرانية، بافتراض وجود سوق تعمل بشكل جيد وتعاون إقليمي.
وبالمثل، يلفت نيكوس تسافوس من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» إلى أن «انقطاع تدفّق الغاز عبر أوكرانيا سيؤثر على سلوفاكيا والنمسا وإيطاليا، ولكلٍّ منها خيارات مختلفة للتعامل مع ذلك... إيطاليا لديها بدائل كثيرة كونها دولة بحرية، كما أنّ بولندا لديها خيارات بديلة أكثر من أي وقت مضى. وستكون مولدوفا في موقف أكثر صعوبة على الرغم من وصول وارداتها عبر طريق مختلف. وستتوقف قدرة هذه البلدان للوصول إلى البدائل على ظروف السوق العالمية وكمية الغاز المخزنة في أنحاء القارة الأوروبية». لكنه لفت إلى أن القتال المحلي قد لا يؤثّر على تدفقات الغاز، في حين أنّ الحرب الشاملة قد تستهدف البنيّة التحتيّة للغاز عن طريق الصدفة أو بقصد الحصول على مكاسب عسكرية.
لا يزال قطع طرق إمداد النفط والغاز عن أوروبا سلاحاً يمكن استخدامه لتحقيق أهداف سياسية، بدليل أنّ روسيا لم تلعب دوراً مطمئناً لمعالجة الذعر الذي اجتاح السوق. صحيح أنّ الاعتماد على مبيعات النفط والغاز لأوروبا أقل مما كان عليه خلال الحرب الباردة، إذ توجد الآن سوق عالمية للنفط وسوق غاز بديلة في شمال شرقي آسيا، ولكنّ حجب روسيا المزيد من الإمدادات ستكون له كلفة باهظة على اقتصادها. غير أن المسألة الأهم لموسكو هي المقايضة الدقيقة بين الحافز الاقتصادي للحفاظ على تدفق إمدادات الطاقة والحافز الأمني للتأكّد من عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو» مطلقاً، وهي ترى نفسها في وضع ملائم تماماً لأنّ أوروبا تتّخذ خطوات واسعة للابتعاد عن الوقود الأحفوري، ولكنها في الوقت نفسه لا تجد بديلاً عن الغاز الروسي.

عقوبات وقيود وإلزامات
تعتمد أوروبا على روسيا لتأمين نحو 40% من غازها و25% من وارداتها النفطية. وبالتالي فإنّ أي اضطراب من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم أزمة الطاقة الحالية. طبعاً يمكن للاتحاد الأوروبي التعامل مع وقف قصير الأجلّ لواردات الغاز الروسي، على الرغم مما يترتب على ذلك من «عواقب اقتصادية عميقة» وتدابير طارئة لتقييد الطلب الصناعي وصعوبة الحصول على واردات إضافية من الغاز الطبيعي المسال. لكن إدارة الاقتصاد الأوروبي لعدة سنوات من دون الغاز الروسي تمثّل تحديّاً مختلفاً.
لقد زادت أوروبا وارداتها من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتّحدة وقطر ودول أخرى في السنوات الأخيرة. ففي عام 2020 انخفضت واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز بنسبة 9%. ومع ذلك، ظلّت روسيا المورِّد الأكبر للاتحاد الأوروبي، إذ استحوذت على 43% من الغاز المستورد، تليها النرويج والجزائر.
بالإضافة إلى ذلك، عززت أوروبا مناعتها منذ أزمتي الطاقة في عامي 2006 و2009 واستثمرت المليارات في توسيع البنيّة التحتيّة التي تسمح لها باستيراد الغاز عن طريق السفن ونقل الوقود بسهولة أكبر عبر القارة، والاستفادة من واردات خطوط الأنابيب من النرويج وشمال أفريقيا وأذربيجان. بالإضافة إلى أحجام إضافية من الغاز الطبيعي المسال، لتحلّ محل الإمدادات من روسيا. لكن الحصول على جزيئات بالمقاس المطلوب لاستبدال الأحجام الروسية بالكامل أمر مكلف للغاية في أفضل الأحوال، وربما غير ممكن.
أما القيود على مسألة تعويض أوروبا نقص الغاز الروسي فكثيرة، ومنها أنّ هناك حدوداً لمقدار إنتاج الغاز الطبيعي المسال ونقله، كما أنّ قدرة التسييل العالمية تُستخدم بالكامل تقريباً وكذلك سفن الغاز الطبيعي المسال. يقول رئيس وزراء النرويج، ثاني أكبر مورِّد لأوروبا، إنّ بلاده تقدّم الغاز الطبيعي بأقصى طاقتها ولا يمكنها تعويض أي إمدادات تحجبها روسيا. كما أنّه يمكن لقطر (أحد أكبر منتجي الغاز الطبيعي المسال في العالم) إرسال بعض الغاز الإضافي إلى أوروبا، لكنّ الإمدادات الاحتياطية ستكون شحيحة بسبب الارتباط بعقود سابقة. كذلك، فإنّ اليابان مستعدة لتحويل بعض شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، ولكن السفن ستأتي من موانئ في الولايات المتّحدة، وليس من اليابان مباشرةً.
صحيح أنه يمكن للغرب أن يفرض مجموعة متنوعة من العقوبات على قطاع الطاقة الروسي، بما في ذلك جعل شراء الدول والشركات للنفط والغاز من عملاقتي الطاقة «روسنفت» و«غازبروم» غير قانوني. كما أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة بصدد معاقبة الغاز الروسي رداً على الغزو، مع القدرة على تجنب «ألم قصير الأجل» في أسواق الطاقة الغربية.
لكنّ ذلك كله لا يُلغي أن أي قيود ستُفرض على الغاز الروسي سترفع الأسعار في جميع أنحاء أوروبا، لذلك تبقى مسألة وقف شحنات الغاز من روسيا مجرد فكرة نظرية رغم قدرتها على التأثير على ما قد يصل إلى 50% من مداخيلها بالعملة الصعبة.
إنّ أبرز إجراء قد يُقْدم عليه الغرب هو إحباط خط «نورد ستريم 2» الذي يمتد تحت بحر البلطيق بطول 1225 كيلومتراً لمضاعفة صادرات الغاز الروسي إلى ألمانيا، والذي استغرق بناؤه خمس سنوات بكلفة 11 مليار دولار، وعُلّقت الموافقة عليه لأنّه لا يمتثل للقانون الألماني.
مع ذلك، وعلى الرغم من الخطاب عالي النبرة في واشنطن التي هددت بوقف الخط، لا يمكن لألمانيا ببساطة إلغاء «نورد ستريم 2» لأنه منجز بالفعل، كما أن لديها أكثر من حافز لتشغيله بعد قرارها التخلص التدريجي من الطاقة النووية والفحم بالتوازي، مما يجعلها أكثر اعتماداً على الغاز، وهذا ما سيجعل الروس يفكرون مليّاً في هامش الحركة المتاح أمامهم.

فرص ومخاطر لدول الشرق الأوسط
يوفر الصراع الروسي - الأوكراني المفتوح فرصاً لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما النفطية منها لتعزيز مواقعها في مجال العلاقات الدولية. فمن المنطقي أن تسعى المملكة العربية السعودية إلى وضع الطلبات الأميركية والأوروبية لزيادة إمدادات النفط لصالح تعزيز موقعها. وكذلك ستطمح قطر في المقابل للحصول على تنازلات أوروبية، قد يكون على رأس قائمتها تأجيل المفوضية الأوروبية تحقيقاً مدته أربع سنوات في استخدام الدوحة المزعوم لعقود طويلة الأجل لمنع تدفق الغاز إلى السوق الأوروبية الموحدة.
وقد تتخذ دول شرق أوسطية أخرى مواقف أكثر تحفظاً في رهاناتها. فقد شهد العقد الماضي ازدهاراً في العلاقات الأمنية والاقتصادية بين روسيا والكثير من الدول في الشرق الأوسط، مدفوعاً بإحساس بتناقص الاهتمام الأميركي بالمنطقة.
تركيا بدورها ستكون أيضاً جزءاً مهماً من المعادلة، كونها عضواً في «الناتو» ولها علاقات وثيقة بكلّ من روسيا وأوكرانيا. وسيعزز الصراع في أوكرانيا تنافس روسيا والغرب على جذب أنقرة، إذ تحرص واشنطن على أن تواصل أنقرة مبيعاتها من الأسلحة إلى كييف. طبعاً من غير المرجح أن تتحالف تركيا بشكل كامل مع الغرب ضد روسيا تجنباً لمزيد من التعقيدات، لكنّ هذه الديناميكيات ستؤدي بلا شك إلى سياسة خارجية تركية أكثر ثقة بالنفس، تحديداً في البحر الأبيض المتوسط وسوريا، وتخفيف حدّة الانتقادات الغربية للوضع التركي الداخلي.
في المقابل، على أوروبا أن تدرك أنّ العقوبات المرتقبة قد تدفع بموسكو إلى استخدام موقعها في ليبيا للرد، من خلال استغلال الصراع المتجدّد هناك وزيادة تدفقات الهجرة إلى أوروبا عبر المتوسط. كما أنّ تصاعد الصراع في أوكرانيا قد يعيق إحراز تقدم ولو متواضع في القضايا الإنسانية، في المفاوضات بشأن سوريا بين روسيا والولايات المتّحدة.
أحد الانعكاسات المهمة قد يكون في التأثير على مسار المفاوضات في فيينا التي لعبت روسيا دوراً بنّاءً في جولاتها الأخيرة، إذ عملت عن كثب مع الجهات الغربية لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران.
أما إسرائيل، فمن المحتمل أن تتخذ موقفاً براغماتياً من الصراع الأوكراني، رغم تحالفها العميق مع الولايات المتّحدة. فمنذ أن نشرت موسكو جيشها في سوريا، أصبح المسؤولون الإسرائيليون ينظرون إلى روسيا على أنها جارهم الجديد في الشمال الذي يعتمدون على تعاونه في شن ضربات جوية ضد أهداف إيرانية في العمق السوري.

أوكرانيا ووطأة الجغرافيا
تدفع أوكرانيا اليوم أثمان موقعها الجغرافي، على تخوم إمبراطورية صاعدة تحاول استعادة إرثها وتنشد تسليماً دولياً بدورها كقوة عظمى، وتحالف دولي قادته الولايات المتّحدة ليتمدد على أنقاض العملاق السوفياتي الذي أعلنت نهاية التاريخ بعد سقوطه.
استفاد الرئيس الروسي من دروس الجغرافيا السياسية التي لم تعنِ شيئاً للزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الذي كان يرفض تدريسها في الكليات العسكرية السوفياتية. واستغل بوتين بنجاح كلّ نقاط الضعف المتاحة، من مسألة القوميات حتى تعقيدات إمدادات الطاقة التي تعد عصب الحياة والاقتصاد، مروراً بالجغرافيا.
ومع إعلان العملية العسكرية والاعتراف باستقلال الجمهوريتين في الدونباس، تدخل أوكرانيا مرحلة الرضوخ القسري لواقع جديد مفتوح على مزيد من التداعيات السياسية والأمنية، قد تكون أولى نتائجه القبول بدولة اتحادية وربما التعايش مع مشروع روسيا الموسعة في المستقبل.



لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
TT

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)

يمثل الصعود العسكري للصين، وبخاصة برنامج تحديث ترسانتها النووية، هاجساً قوياً لدى دوائر صناعة القرار والتحليل السياسي والاستراتيجي في الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل التقارب المزداد بين بكين، وموسكو التي تلوح بمواجهة عسكرية مباشرة مع الغرب على خلفية الحرب التي تخوضها حالياً في أوكرانيا.

وفي تحليل نشرته مجلة «ناشونال إنتريست» الأميركية، يتناول ستيفن سيمبالا أستاذ العلوم السياسية في جامعة براندواين العامة بولاية بنسلفانيا الأميركية، ولورانس كورب ضابط البحرية السابق والباحث في شؤون الأمن القومي في كثير من مراكز الأبحاث والجامعات الأميركية، مخاطر التحالف المحتمل للصين وروسيا على الولايات المتحدة وحلفائها.

ويرى الخبراء أن تنفيذ الصين لبرنامجها الطموح لتحديث الأسلحة النووية من شأنه أن يؤدي إلى ظهور عالم يضم 3 قوى نووية عظمى بحلول منتصف ثلاثينات القرن الحالي؛ وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين. في الوقت نفسه، تعزز القوة النووية الصينية المحتملة حجج المعسكر الداعي إلى تحديث الترسانة النووية الأميركية بأكملها.

وأشار أحدث تقرير للجنة الكونغرس المعنية بتقييم الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة والصادر في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إلى ضرورة تغيير استراتيجية الردع الأميركية للتعامل مع بيئة التهديدات النووية خلال الفترة من 2027 إلى 2035. وبحسب اللجنة، فإن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والقيم التي يستند إليها يواجه خطر نظام الحكم المستبد في الصين وروسيا. كما أن خطر نشوب صراع عسكري بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا يزداد، وينطوي على احتمال نشوب حرب نووية.

ولمواجهة هذه التحديات الأمنية، أوصت اللجنة الأميركية ببرنامج طموح لتحديث الترسانة النووية والتقليدية الأميركية، مع قدرات فضائية أكثر مرونة للقيام بعمليات عسكرية دفاعية وهجومية، وتوسيع قاعدة الصناعات العسكرية الأميركية وتحسين البنية التحتية النووية. علاوة على ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تأمين تفوقها التكنولوجي، وبخاصة في التقنيات العسكرية والأمنية الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وتحليل البيانات الكبيرة، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية.

ولم يقترح تقرير اللجنة أرقاماً دقيقة للأسلحة التي تحتاجها الولايات المتحدة ولا أنواعها، لمواجهة صعود الصين قوة نووية منافسة وتحديث الترسانة النووية الروسية. ورغم ذلك، فإن التكلفة المرتبطة بتحديث القوة النووية الأميركية وبنيتها التحتية، بما في ذلك القيادة النووية وأنظمة الاتصالات والسيطرة والدعم السيبراني والفضائي وأنظمة إطلاق الأسلحة النووية وتحسين الدفاع الجوي والصاروخي للولايات المتحدة، يمكن أن تسبب مشكلات كبيرة في الميزانية العامة للولايات المتحدة.

في الوقت نفسه، فالأمر الأكثر أهمية هو قضية الاستراتيجية الأميركية والفهم الأميركي للاستراتيجية العسكرية الصينية والروسية والعكس أيضاً، بما في ذلك الردع النووي أو احتمالات استخدامه الذي يظهر في الخلفية بصورة مثيرة للقلق.

في الوقت نفسه، يرى كل من سيمبالا صاحب كثير من الكتب والمقالات حول قضايا الأمن الدولي، وكورب الذي عمل مساعداً لوزير الدفاع في عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، أنه من المهم تحديد مدى تنسيق التخطيط العسكري الاستراتيجي الروسي والصيني فيما يتعلق بالردع النووي والبدء باستخدام الأسلحة النووية أو القيام بالضربة الأولى. وقد أظهر الرئيسان الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين، تقارباً واضحاً خلال السنوات الأخيرة، في حين تجري الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة بصورة منتظمة. ومع ذلك فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك شفافية كاملة بين موسكو وبكين بشأن قواتهما النووية أو خططهما الحربية. فالقيادة الروسية والصينية تتفقان على رفض ما تعدّانه هيمنة أميركية، لكن تأثير هذا الرفض المشترك على مستقبل التخطيط العسكري لهما ما زال غامضاً.

ويمكن أن يوفر الحد من التسلح منتدى لزيادة التشاور بين الصين وروسيا، بالإضافة إلى توقعاتهما بشأن الولايات المتحدة. على سبيل المثال، حتى لو زادت الصين ترسانتها النووية الاستراتيجية إلى 1500 رأس حربي موجودة على 700 أو أقل من منصات الإطلاق العابرة للقارات، سيظل الجيش الصيني ضمن حدود معاهدة «ستارت» الدولية للتسلح النووي التي تلتزم بها الولايات المتحدة وروسيا حالياً. في الوقت نفسه، يتشكك البعض في مدى استعداد الصين للمشاركة في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، حيث كانت هذه المحادثات تجري في الماضي بين الولايات المتحدة وروسيا فقط. ولكي تنضم الصين إلى هذه المحادثات عليها القبول بدرجة معينة من الشفافية التي لم تسمح بها من قبل بشأن ترسانتها النووية.

وحاول الخبيران الاستراتيجيان سيمبالا وكورب في تحليلهما وضع معايير تشكيل نظام عالمي ذي 3 قوى عظمى نووية، من خلال وضع تصور مستقبلي لنشر القوات النووية الاستراتيجية الأميركية والروسية والصينية، مع نشر كل منها أسلحتها النووية عبر مجموعة متنوعة من منصات الإطلاق البرية والبحرية والجوية. ويظهر التباين الحتمي بين الدول الثلاث بسبب الاختلاف الشديد بين الإعدادات الجيوستراتيجية والأجندات السياسة للقوى الثلاث. كما أن خطط تحديث القوة النووية للدول الثلاث ما زالت رهن الإعداد. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة وروسيا ستواصلان خططهما لتحديث صواريخهما الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة بأجيال أحدث من منصات الإطلاق في كل فئة، في حين يظل الغموض يحيط بخطط الصين للتحديث.

ورغم أن الولايات المتحدة تمتلك ترسانة نووية تتفوق بشدة على ترسانتي روسيا والصين، فإن هذا التفوق يتآكل بشدة عند جمع الترسانتين الروسية والصينية معاً. فالولايات المتحدة تمتلك حالياً 3708 رؤوس نووية استراتيجية، في حين تمتلك روسيا 2822 رأساً، والصين 440 رأساً. علاوة على ذلك، فالدول الثلاث تقوم بتحديث ترساناتها النووية، في حين يمكن أن يصل حجم ترسانة الأسلحة النووية الاستراتيجية الصينية إلى 1000 سلاح بحلول 2030.

ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: إلى أي مدى ستفقد الولايات المتحدة تفوقها إذا واجهت هجوماً مشتركاً محتملاً من جانب روسيا والصين مقارنة بتفوقها في حال التعامل مع كل دولة منهما على حدة؟ ولا توجد إجابة فورية واضحة عن هذا السؤال، ولكنه يثير قضايا سياسية واستراتيجية مهمة.

على سبيل المثال، ما الذي يدفع الصين للانضمام إلى الضربة النووية الروسية الأولى ضد الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)؟ ولا بد أن نتخيل سيناريو متطرفاً، حيث تتحول الأزمات المتزامنة في أوروبا وآسيا إلى أزمات حادة، فتتحول الحرب الروسية - الأوكرانية إلى مواجهة بين روسيا وحلف «الناتو»، في الوقت الذي تتحرك فيه الصين للاستيلاء على تايوان، مع تصدي الولايات المتحدة لمثل هذه المحاولة.

وحتى في هذه الحالة المتطرفة، لا شك أن الصين تفضل تسوية الأمور مع تايوان بشروطها الخاصة وباستخدام القوات التقليدية. كما أنها لن تستفيد من الاشتراك في حرب بوتين النووية مع «الناتو». بل على العكس من ذلك، أشارت الصين حتى الآن بوضوح تام إلى روسيا بأن القيادة الصينية تعارض أي استخدام نووي أولاً في أوكرانيا أو ضد حلف شمال الأطلسي. والواقع أن العلاقات الاقتصادية الصينية مع الولايات المتحدة وأوروبا واسعة النطاق.

وليس لدى الصين أي خطة لتحويل الاقتصادات الغربية إلى أنقاض. فضلاً عن ذلك، فإن الرد النووي للولايات المتحدة و«الناتو» على الضربة الروسية الأولى يمكن أن يشكل مخاطر فورية على سلامة وأمن الصين.

وإذا كان مخططو الاستراتيجية الأميركية يستبعدون اشتراك روسيا والصين في توجيه ضربة نووية أولى إلى الولايات المتحدة، فإن حجم القوة المشتركة للدولتين قد يوفر قدراً من القوة التفاوضية في مواجهة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة.

وربما تدعم الصين وروسيا صورة كل منهما للأخرى بوصفها دولة نووية آمنة في مواجهة الضغوط الأميركية أو حلفائها لصالح تايوان أو أوكرانيا. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن توفر «الفجوة» بين أعداد الأسلحة النووية غير الاستراتيجية أو التكتيكية التي تحتفظ بها روسيا والصين والموجودة في المسرح المباشر للعمليات العسكرية، مقارنة بتلك المتاحة للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، عنصر ردع ضد أي تصعيد تقليدي من جانب الولايات المتحدة ضد أي من الدولتين.

أخيراً، يضيف ظهور الصين قوة نووية عظمى تعقيداً إلى التحدي المتمثل في إدارة الاستقرار الاستراتيجي النووي. ومع ذلك، فإن هذا لا يمنع تطوير سياسات واستراتيجيات إبداعية لتحقيق استقرار الردع، والحد من الأسلحة النووية، ودعم نظام منع الانتشار، وتجنب الحرب النووية. ولا يمكن فهم الردع النووي للصين بمعزل عن تحديث قوتها التقليدية ورغبتها في التصدي للنظام الدولي القائم على القواعد التي تفضلها الولايات المتحدة وحلفاؤها في آسيا. في الوقت نفسه، فإن التحالف العسكري والأمني بين الصين وروسيا مؤقت، وليس وجودياً. فالتوافق بين الأهداف العالمية لكل من الصين وروسيا ليس كاملاً، لكن هذا التحالف يظل تهديداً خطيراً للهيمنة الأميركية والغربية على النظام العالمي.