رحلة بتذكرة ذهاب فقط

قد تكون «ملحمة جلجامش» أول محاولة للتحرر من سطوة الزمن

رحلة بتذكرة ذهاب فقط
TT

رحلة بتذكرة ذهاب فقط

رحلة بتذكرة ذهاب فقط

> «صحِب الناس قبلنا ذَا الزمانا»
(المتنبي)
كم يبدو الناس حولي حريصين على إمعان النظر، أحدهم في الآخَر، لتحديد شيء ما غامض يمنحهم قدراً من الطمأنينة، فإذا وجدوك واقفاً أمامهم في قطار مكتظ بركابه فسينهض أحدهم ليمنحك كرسيه، حتى لو أنك في وضع صحي أفضل منه؛ لكن نهوضه هذا هو أيضاً لمنح نفسه ذلك الشعور بالطمأنينة، أن هناك آخر سيسبقه بانتهاء الرحلة.
هنا، للرحلة في بعديها المكاني والزماني اختلاف جذري، فأنت تسكن في أستراليا، وصديقك يسكن في كندا، وثالث يسكن في الأردن، وكل منكم مختلف عن الآخر في المكان الذي سافرتم إليه. قد يكون الطقس مختلفاً بحكم موقع كل منكم، وقد يكون أحدكم هو الأحسن حالاً من حيث شروط الحياة والعمل والثروة، وكل هذه الفروقات تدخل في إحداثيات المكان الثلاثة: السير شمالاً أم جنوباً، يميناً أم يساراً، بالإضافة إلى العمق.
غير أن الزمان له إحداثي واحد، وإذا أردتُ أن أحدد اتجاهه فهو لولبي يدور حول نقطة تقاطع إحداثيات المكان الثلاثة.
كم أستغرب أحياناً حين أشاهد ممثلاً أو مذيعاً في التلفزيون أو السينما، بعد انقطاع عن تتبعه لثلاثين سنة، أن اكتشف فجأة شخصاً آخر، تفكك كثير من براغيه، وتلاشت هنا وهناك علائم الجاذبية والحيوية عن وجهه. وبالطبع، وحتى من دون مقارنة وجهي بوجهه، ينتابني شعور كاذب بأن ما حلَّ به أسوأ بكثير مما أصابني بفعل هذا الإحداثي الصامت الذي يعمل من دون كلل أو ملل، لجعلنا معاً راكبَين السفينة نفسها، حتى لو كنا نعيش في أماكن بعيدة جداً بعضها عن بعض، في قارات تفصلها آلاف الكيلومترات.
كانت الفكرة السائدة التي رسخها نيوتن في أذهان أجيال كثيرة من المتعلمين، أن الزمان والمكان مطلقان، فإذا كنتَ تسير على قدميك فوق الأرض، وكانت زوجتك على متن طائرة قريبة في سرعتها من سرعة الضوء، فإن الزمن الذي سيمر عليك وعلى زوجتك هو واحد، إذا كان كل منكما يحمل ساعة دقيقة لا تقيس فقط الثواني بدقة؛ بل أجزاء الثواني. غير أن قدوم آينشتاين في أوائل القرن العشرين قلب هذه القناعة رأساً على عقب: إذا كنتَ في طائرة تسير بسرعة الضوء المساوية لثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية، فإن الزمن الذي يمر عليك مختلف عن زمن صديقك الذي يسير على الأرض بسرعة لا تتجاوز في أحسن الأحوال خمسة كيلومترات في الساعة. وحين تعود من سفرتك التي استغرقت يوماً واحداً ستكتشف أن صديقك وابنه وحفيده قد غادروا السفينة التي لا يقدم رُبَّانها سوى تذكرة ذهاب فقط، وهي سفينة شبحية قابلة لأن نراها في أكثر من مكان عبر المخيلة، أكثر منها عبر البصر.
ولعل هذا التخلخل الهائل في الرحلة عبر الزمان، تناظره قصة أهل الكهف: أولئك الهاربون من بطش الحاكم، لاعتناقهم ديناً توحيدياً، ثم ناموا معاً في مغارة بفعل تدخل إعجازي، واستيقظوا بعد مرور زمن ظنوه يوماً أو يومين؛ لكنهم اكتشفوا بعد أول خطوة لهم خارج المغارة أن أكثر من ثلاثة قرون مضت عليهم في سباتهم.
هم تحرروا من وجود أشخاص حولهم يستطيعون من خلالهم قراءة المدى الذي قطعوه في رحلتهم الزمنية.
هم حققوا تحرراً للحظة من هذه الرحلة ذات التذكرة الواحدة.
لعل شاشات التلفزيون تعمق هذا الشعور بالحيرة؛ حين يبرز شخص ما في لحظة تاريخية ما، فيهز الوضع الراكد المستقر، مثل رئيس الاتحاد السوفياتي الأخير غورباتشوف. لقد انطبعت صورته في مخيلتي بتلك الشخصية الحيوية الكاريزماتية، حتى مع تلك الطرة الحمراء المرسومة في زاوية من جبهته؛ بل إن الأخيرة خلقت إحساساً بأنها علامة منحها قدر خفي، لينهي أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ المعاصر، ضمت 15 دولة، ومئات القوميات، وعديداً من الأديان والطوائف. تلك الصورة انطبعت في ذاكرة أجيال متعددة بعمق؛ لكن فشل تحقيق الإصلاح وتفتت الاتحاد السوفياتي، آل بهذا الزعيم (بعد أن أغلق من دون قصد كتاب الثورة الذي خط لينين أولى صفحاته عام 1917) إلى الاختفاء عن مسرح الأحداث، وفجأة برز بعد ثلاثين سنة لنرى شخصاً آخر مضى أكثر مما ينبغي في رحلة السيد المستبد: الزمان.
قد تكون «ملحمة جلجامش» أول محاولة للتحرر من سطوة قبطان سفينة الزمن هذا، من خلال السعي لتحقيق الخلود. كان هناك أمل يراود بطلنا الأسطوري بإمكانية تحقق ذلك، إنْ هو سافر بعيداً إلى ذلك الفردوس الذي يسكن فيه أوتونبشتم، بعد أن منحته آلهة «الأنوناكي» السومرية الخلود، غير أن الأخير وضع شرطاً تعجيزياً: إنْ أردتَ بلوغ غايتك، فعليك أن تتمكن من التخلي عن النوم؛ إحدى سمات الحياة العابرة. وفي هذا الاختبار فشل جلجامش فشلاً ذريعاً؛ إذ أخذته سنة نوم عميقة، بعد رحلة طويلة واجه فيها شتى المخاطر والعقبات. كانت زوجة أوتونبشتم تضع كل يوم من أيام إغفاءته السبعة، رغيف خبز ساخناً بجانبه، وحين استيقظ وجد الخبز متدرجاً في فقدان طراوته، فكان أمام دليل قاطع باستحالة تحقق خلوده الشخصي: اختفاء الحاجة إلى النوم لدى أوتونبشتم وزوجته، جعلهما كائنين فوق بشريين (لا ينتميان إلى جنس الإنسان العاقل) مثلما هو حال ذلك المسافر في رحلة سرعتها قريبة من سرعة الضوء.
يطرح الشاعر الألماني هاينريش هاينه (1797- 1856) فكرة تسعى في جوهرها إلى هزم هذا المستبد، بافتراض أن الأحداث التي يمر بها البشر منذ ظهورهم على هذه الأرض وحتى يومنا هذا محدودة عددياً، مقابل دورات الزمن اللانهائية، ومن هنا طرح تصوراً ترك بصماته بصياغات مختلفة، على نيتشه أولاً، ثم على شبنغلر في كتاب حياته الأساس «تدهور الحضارة الغربية»، والمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي الذي استخدم منهجه في كتبه العديدة عن تاريخ العالم: الأحداث تتكرر في عود أبدي، والشخصيات والأحداث التاريخية نفسها تتكرر بتعديلات طفيفة في المظهر، مع بقائها ثابتة في الجوهر، فالحضارات تنمو وتبلغ ذروتها ثم تموت، حالها حال ممالك النمل، والإنسان الفرد ليس سوى قطعة غيار ضرورية في تشكلها.
إنها محاولة للتحرر من سطوة ربان سفينة الزمان، ورحلته ذات الاتجاه الواحد، بالتأكيد له أنني كررتُ هذه الرحلة مراراً، وأن من سيأتي بعدي سيكرر رحلتي، حتى لو مضى عليه دهر قبل ظهوره: العود الأبدي هو نوع من ترياق لمواجهة قانون الرحلة المزودة بتذكرة ذهاب فقط؛ حيث تتضافر الأديان والأدب والفلسفة والتاريخ والفنون معاً؛ لا لكسر شوكة هذا القبطان المستبد؛ بل لإقناعه بأنه هو أيضاً يقوم بتكرار نفسه، مثلما هو الحال مع جنسنا البشري.
وَمُرادُ النُّفوسِ أَصغَرُ مِن
أَن نَتَعادَى فيهِ وَأَن نَتَفانى
لعل ما يعنيه المتنبي في هذا البيت هو الأخوَّة التي تجمع كل البشر، بفضل سطوة الزمان عليهم، والعداوة التي تفرقهم بفضل المكان وإحداثياته؛ مذكراً إياهم بما يوحدهم، فهم جميعاً أسرى قبطان سفينة لا يقدم لراكبيها أي عزاء أكثر من تذكرة ذهاب فقط.



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.