الرسام روجيه سمعان يحوّل الإعاقة إلى عمل فني

صنع أكثر من 20 قناعاً للممثل غابي حويك ليتجاوز محنته

فكرة تصميم الأقنعة ولدت عند سمعان حلاً لمشكلة
فكرة تصميم الأقنعة ولدت عند سمعان حلاً لمشكلة
TT

الرسام روجيه سمعان يحوّل الإعاقة إلى عمل فني

فكرة تصميم الأقنعة ولدت عند سمعان حلاً لمشكلة
فكرة تصميم الأقنعة ولدت عند سمعان حلاً لمشكلة

جميعنا تابعنا إطلالات الفنان الكوميدي غابي حويك بعد إصابته بشلل نصفي في وجهه. ولعل أكثر ما لفتنا هو تكرار اسم صديقه الرسام التشكيلي روجيه سمعان. فهذا الأخير الذي تربطه بحويك علاقة صداقة قديمة منذ الصغر، استطاع أن يسهم في تجاوز غابي حويك محنته، فصمم له أقنعة ملونة تبهج النظر كي يتمكن من الوقوف على خشبة المسرح وشاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي من دون أي إحراج. ومع هذه الأقنعة التي صممها سمعان لتتلاءم مع كل مناسبة يطل فيها صديق العمر، استعاد الممثل اللبناني إيقاع حياته اليومي الطبيعي، فأزاح عن كاهله هماً تآكله من قبل إجراء عملية جراحية في رأسه. فقد اكتشف الأطباء أنه مصاب بورم في الرأس يجب استئصاله. كما أبلغوه بأن إصابته بشلل نصفي في وجهه أمر محتمل بنسبة كبيرة. ومنذ تلك اللحظة راح الصديقان يفكران كيف يواجهان مصير حويك الممثل والإنسان معاً.
«تشاورنا كثيراً في هذا الموضوع قبل أن يخضع غابي للعملية الجراحية. وكان يخاف أن يتوقف عن ممارسة عمله نهائياً، في حال تعرض وجهه إلى تشوه نصفي». يقول الرسام روجيه سمعان إن صديقه صلب البنية وقد تجاوز مواقف صعبة كثيرة في السابق. ويتابع سمعان في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «بحثنا معاً عن حل للمشكلة، وقررنا أن نلجأ إلى القناع، كي نخفي الإصابة في حال حصلت». وبالفعل، وبعيد خضوعه إلى العملية الجراحية، اكتشف غابي إصابته بالشلل، ومع القناع الذي يتم لصقه بمادة تستخدم في الأعمال المسرحية قرر العودة إلى عمله.
«كانت لحظات صعبة من دون شك، ولكننا تحضرنا لها بشكل جيد؛ غابي وأنا. فلقد اعتدنا ألا نتوقف عند أي عقبات تواجهنا منذ الصغر. فنحن أبناء بلدة واحدة ألا وهي بدادون، وتجمعنا ذكريات حلوة ومرة ونعرف كيف نتكاتف عند الحاجة».
أول قناع صنعه روجيه لغابي حمل ألواناً زاهية تألفت من الأزرق والأصفر... «كانت بمثابة خربشات تجريدية بداية، لتتطور مع الوقت وتصبح بمثابة لوحات تشكيلية». ويتابع سمعان: «حاولت قدر الإمكان الابتعاد عن الأسود لأنه يعطى انطباعاً يميل إلى الحزن. وهكذا راحت رسومي تتطور وتأخذ أشكالاً وألواناً تبعث على الفرح؛ بينها ما يشبه الشمس، وثانية تنقل ألوان موج البحر، وثالثة صممتها لمناسبة وطنية وتحمل رسم العلم اللبناني».
بالفعل أطل غابي حويك في برامج تلفزيونية عدة عبر شاشات «إل بي سي آي» و«الجديد» و«إم تي في»، ووضع في كل منها قناعاً يختلف عن الآخر ويتميز بلمسة فنية أنيقة. بداية؛ اتخذ القناع شكلاً مغايراً للذي يرتديه اليوم الممثل صاحب الموهبة الفذة في تقليد رجال السياسة اللبنانية وبأسلوب ساخر. وبعد أن كان يلتصق قطعةً واحدة جامدة على الناحية المصابة في وجه حويك، راح سمعان يتفنن في صناعته... «رأيت أن نجري عليه بعض التعديلات كي يتسم بالحركة فلا يزعج النظر. فكسرت خطوطه الجانبية كي لا تظهر مستقيمة لا حياة فيها. وصار القناع متعرجاً أحياناً وملتوياً بفعل رسمة يمثلها مرات أخرى، فتحول إلى إكسسوار فني بامتياز».
بعض المصابين بإعاقة غابي حويك نفسها يسألونه اليوم عن عنوان صديقه كي يصنع لهم أقنعة مماثلة تخبئ إعاقتهم... «لطالما عملنا؛ غابي وأنا، في الشأن الاجتماعي، وعندما أعلمني عن رغبة بعض الذين اتصلوا به؛ من دون أي تردد وافقت. فالعمل الإنساني لا يتطلب التفكير؛ بل التنفيذ من أجل المساعدة». اليوم يدخل روجيه سمعان مشغله وينظر بسعادة إلى كمّ من الأقنعة وصل عددها إلى نحو 20 تصميماً. ويعلق في سياق حديثه: «ولا مرة أنظر إلى الأمور من الناحية السلبية؛ بل أفضل رؤيتها من ناحيتها الإيجابية. وما قمنا به سابقة في حد ذاته؛ إذ لم يسبق أن اعتمدت من قبل. وعندما أنظر إلى الأقنعة التي صنعتها حتى اليوم لغابي، يأخذ رأسي في التفكير بتصاميم مختلفة للمستقبل. فيكفيني أن صديق الطفولة استعاد حيويته ومهنته، وأراه من جديد على الشاشات والمسارح». وعمّا استطاع إحرازه مع هذه الأقنعة من الناحيتين الشخصية والفنية، يقول روجيه سمعان: «العطاء قيمة إنسانية كبيرة، لا نعرف انعكاسها الإيجابي علينا إلا حين نمارسها على الأرض. فغابي وأنا أعطينا بعضنا الكثير، وما أثلج قلبي هو أن أشخاصاً كثيرين كانوا يعيشون الحزن جراء إصابتهم بإعاقة مشابهة أو غيرها ويحتارون كيف يدارونها عن النظر، جاءت طريقتنا في تناولها بمثابة فسحة أمل دفعت بأصحابها إلى المواجهة وعدم الخنوع للإصابة. صاروا يظهرونها من دون خوف».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».