«عوالم موازية»... مناخات معاصرة في الفن التشكيلي

زائرة تتأمل لوحتين للودي صبرا وكلوي صفير
زائرة تتأمل لوحتين للودي صبرا وكلوي صفير
TT

«عوالم موازية»... مناخات معاصرة في الفن التشكيلي

زائرة تتأمل لوحتين للودي صبرا وكلوي صفير
زائرة تتأمل لوحتين للودي صبرا وكلوي صفير

التردد، الخوف، الجرأة، الوقت، إضافةً إلى موضوعات أخرى، يتناولها معرض «عوالم موازية» للفنون التشكيلية. وضمن 50 عملاً فنياً يتراوح بين النحت والرسم، يكتشف زائر المعرض في «زيكو هاوس»، بشارع الحمراء، مناخات فنية معاصرة. يوقِّع هذه الأعمال نحو 12 فناناً من خريجي معهد الفنون في الجامعة اللبنانية. ويكمن سر المعرض في التناغم الذي يسود لوحاته، كأنها تتحدث بعضها مع بعض. ومن حائط إلى آخر ومن غرفة إلى ثانية تجاورها، تتهامس هذه الأعمال مجتمعةً أحياناً وفي حوارات ثنائية مرات أخرى. ينظِّم المعرض غاليري «أرنيلي» الذي يهتم بتسليط الضوء على فنانين أكاديميين تخرجوا حديثاً في معاهد فنية. وتقول دزوفيك أرنيليان، صاحبة هذه المبادرة، إنّ المعرض يأتي ونحن في أشد الحاجة إلى مساحة ضوء نتنفس من خلالها. وتتابع لـ«الشرق الأوسط»: «عملنا مجتمعين لتنظيم الحدث بالتعاون مع منسقته منار علي حسن. كلٌ منّا أسهم في ولادته على طريقته إنْ مادياً أو معنوياً. أردناه فسحة أمل في أيامنا القاتمة ومحطة تبرز مواهب فنانين من لبنان».
كل فنان من أصل الـ12 المشاركين في المعرض يأخذنا بريشته أو منحوتته إلى عالمه الخاص. «إنّها عوالم موازية نعيش فيها وترافقنا في يومياتنا كفنانين نترجمها في أعمالنا»، تقول دزوفيك المشاركة أيضاً في المعرض. فهي تقدم من خلال مجموعة لوحات أكليريك مَشاهد من الحياة تحكي حال الإنسان. وتعلق: «هي لحظات أمرّ بها في عالمي وتصحبني إلى ما ورائيات الحياة. وكما تلاحظين فإنّ لوحاتي تحكي عن الخوف والتردد عند المرأة، ولكنها تسطع بالحقيقة لأنّها تخلّت عن النفاق وتعرّت».
الرسامة أماني حسن نرى في لوحتها الزيتية مجموعة كتب موضبة على رف مكتبة. هذا المشهد رأته خلال زيارتها لمنزل الموسيقي العالمي الراحل تشايكوفسكي الذي ترك أثره الكبير عليها وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا أعرف لماذا سكنني هذا المشهد وأنا أزور منزل الموسيقي العالمي في مدينة كلن الروسية في عام 2019. أعتقد أنّ روحه لمستني عن قرب، وكأنّها مطبوعة على هذه الكتب. تشايكوفسكي تصفح هذه الكتب بأنامله وقلّب في صفحاتها وسهر معها وترك بصماته عليها. هذه الأحاسيس نقلتها ورسمتها في عام 2021 كلفتة تكريمية للموسيقي الروسي».
تتجول في معرض «عوالم موازية» (Parallel Realms) بين ثلاث غرف أساسية. توضح دزوفيك: «الغرفة الداخلية تحتضن تجارب فنية مختلفة من ميكسد ميديا وفن تجريدي. والغرفة الثانية، أي التي تطالع الزائر عند مدخل المعرض، تحمل موضوعات خاصة بالمرأة. أمّا في القسم الأخير من المعرض فتطالعنا لوحات وقّعها فنانون من الشبان المشاركين معنا».
تلفتك في أحد أركان المعرض لوحة أكليريك لجوني سمعان بعنوان «على المسرح» (on stage)، يجمع فيها شلة من الرجال يحيطون بامرأة واحدة بالكاد تظهر ملامح وجوههم المبهمة. وفي منحوتته «هروب» المصنوعة من مادة الـ«ريزين» نراقب كيف يتزاحم الناس على تسلق المجهول.
ومع إيمان طفيلي نعيش قصة امرأة حالمة على الرغم من حياة بسيطة وعادية تعيشها في بيئة محافظة. وبتقنية الـ«كولاج» التي تسود مجموعة لوحاتها تجذبنا دقة التفاصيل التي تنقلها في كل منها. فهي أرملة تعيش وحيدة بعدما تفرق أولادها عنها بسبب دراساتهم الجامعية. قررت أن تتحدى نفسها في الفن التشكيلي. وتستخدم إيمان أنواع أقمشة مختلفة لتفلشها على لوحاتها، وقد قصتها من أزيائها الخاصة لتطرّز بها لوحاتها وتمدها بلمسة إنسانية حقيقية.
من ناحيته فإن كريكور أفيسيان يعرض لوحات من نوع الـ«ميكسد ميديا» ينقل من خلالها مشاعره تجاه الحرب في أرمينيا. يقول: «استخدمت مواد مختلفة لأعبّر من خلالها عن قراءتي لهذه الكارثة التي حلّت بالشعب الأرميني. حاولت أن أولّد الحياة من قلب الخراب، لذلك تلاحظين في اللوحات وجوهاً تخرج من العتمة». وفي منحوتته «لحظة و76 ألف لحظة» المجبولة بالبرونز والبلاتين والـ«ريزين»، نمتع نظرنا بمجسم رجل يقاوم، فيقف على قدم واحدة منتصباً في قلب الركام.
أمّا ليا حلو فتوثق الحالة النفسية التي اجتاحتها في أثناء «كورونا» في لوحة عنونتها «18 أغسطس». وتنقل فيها مشاهد مختلفة استوحتها من مناظر استوقفتها من نافذة منزلها. فيما تأخذنا لودي صبرا إلى ذكريات الطفولة وعالم القرية وعلاقتنا بالجذور، في لوحة ميكسد ميديا تستخدم فيها الرمل والزجاج والكرتون وقد أطلقت عليها اسم «والحياة تستمر». يتوسط المعرض ركن خاص بالفنانة نورا بكار الحائزة على شهادة الماجستير في الفن التشكيلي من الجامعة اللبنانية. ومن خلال هذا التجهيز الفني وهو كناية عن منحوتات مختلفة الأحجام تتناول أقسام الجسد تحت عنوان «أفرودايت». وترتكز صبرا على مادة الفخار في منحوتاتها التي قولبتها لتأخذ أشكال أعضاء الجسم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)