تلتهم سلافة معمار الجو في مسلسل «عالحد»، وتسيطر تماماً. تحول دون التركيز على نواقص يصعب التغاضي عنها، إلا أن عوضت نجمة كبيرة بحجمها النقص. في العمل هفوات أمكن عدم إغفالها، لكن يُحسب له رد الاعتبار للبطولة النسائية المتفوقة والرهان على وجوه جديدة؛ بعدما اعتادت الدراما إسناد البطولة المطلقة للرجل. معمار بشخصية «ليلى» ساحرة من الألف إلى الياء.
تتحول «ليلى» إلى قاتلة متسلسلة عن طريق صدفة توقظ الوحش في داخلها. ويا لها من كائن غريب الأطوار، يحار المرء أيتعاطف معها أم يدينها! وهي إن راحت تنفذ جرائمها بذريعة تحقيق العدالة، فإن «الطوباوية» الحائمة فوقها سرعان ما تتبخر لكونها هي أيضاً مخطئة، تمارس القتل، تمسح مكياجها وتنام. تغدر أعز صديقاتها وحين تكتشف حقيقتها، تكتفي بالصمت ورجفة اليد.
الشخصية غير الواضحة على الورق، تحولها سلافة معمار إلى امرأة من لحم ودم، عصبية، لها ابتسامتها الصفراء، سيجارتها وحركة جسدها المثيرة للريبة. هي نسوية تجاه الجميع، إلا عندما يتعلق الأمر بنفسها. تطبق أحكام الإعدام على المتحرشين والمعنفين، لكنها لا تخجل من الخيانة، بل تبحث لها عن أسباب تخفيفية. هنا قوة النجمة في احتواء التناقضات حد التسبب للمُشاهد بالدوار الجميل. من خلال شخصيتها نتأكد: لا ملائكة على الأرض، وحتى من يرتدون ثوب العفة، تطاردهم خطاياهم وترميهم في الهاوية.
تزدحم القضايا وكان الأفضل التروي في معالجتها أو الاستغناء عن بعضها، كقضية بيع العقارات في بيروت مثلاً، إذ تمر من دون رائحة. تحضر أيضاً مسألة اللجوء السوري غير الشرعي في لبنان، من خلال المراهقة دوجانا عيسى بشخصية «تلجة» المُتقنة. فالصبية اللافتة بأدائها، تتلبس مسائل خطرة قد تعترض أي فتاة في سنها، تتسكع في الشوارع، فيسهل تعرضها للاستغلال والاغتصاب والمواقف المشبوهة.
هنا يطل إدمون حداد بشخصية «عاطف» المتعدي على مهنة الصيدلاني. تحت الرداء الأبيض، يختبئ الذئب. من خلاله، يرفع المسلسل الصوت في وجه الفساد المستتر خلف المهن الاجتماعية. ينتهز الرجل مرض زوجته ليحول الصيدلية ممراً لتجارة المخدرات، مستغلاً «تلجة» بائعة السكاكر على الرصيف المقابل. ثم يوهمها بطلب الزواج منها ويغتصبها. جريء إدمون حداد في أدائه المحترف. بإبرة سم من «ليلى» يموت ذات ليلة.
تُقحم البطلة «المنقذة» نفسها في ورطة تجر ورطة، بلا إرادتها أولاً ثم بإدراكها ووعيها. في المسلسل، نافذة مفتوحة على الأدوية وغايات استعمالها، ولو بدا مستغرباً سعر الدواء الزهيد في صيدلية «ليلى» مقارنة بمأساوية أسعار الأدوية في لبنان، خصوصاً أن المسلسل لمح إلى أزمة الغلاء في سياقه. لنعد إلى «ليلى». حبوبها المهدئة دائماً في محفظتها، كالمشرط، أداة جريمتها الأولى. لم يتضح سبب حاجتها للمهدئات، سوى لإسكات اضطرابات عاطفية تبلغ ذروتها بالتهامها قالب حلوى بشراهة ليلة عيد ميلاد عشيقها.
الدواء في الأيدي الخطأ، يتحول إلى قاتل. من خلال خبرتها في الطب والصيدلة، راحت تصنع السم وتدسه في الإبر، أو تستعمله بطريقة البودرة، فترشه فوق بيتزا طلبها شاب حاول التحرش بها، لترديه قتيلاً. يوميات امرأة في غابة مخيفة تصبح بمثابة كناية عن الحياة، تدوس كواسرُها ضحاياها، و«ليلى» تحولت إلى كاسرة.
القطعة الناقصة في «بازل» شخصية «ليلى» هي موت إحساسها بالذنب برغم أن نيات لارتكاب الجرائم «حسنة». منذ قتلها مدرس ابنتها المتحرش (لم نفهم دوافع آدمي في الظاهر مثله، للتحرش؟)، وهي تُكمل حياتها كأن شيئاً لم يكن. كذلك بعد انتصارها لامرأة معنفة تتردد إلى صيدليتها لمداواة الضرب المبرح من زوجها، فتدهسه بالسيارة حين يضربها حتى الموت. الوحش يولد وحوشاً تتغذى بامتصاص دمها.
والجريمة تجر جريمة بهدوء أعصاب. قاتلة متسلسلة، طيبتها غير مقنعة، فأمكن المسلسل التعمق أكثر بالخلفيات وBase الشخصية لمزيد من الإقناع بطبيعتها وأبعادها، بدل الاتكال على جهد النجمة لإيصالها. من الحماقة اعتبار أن القتلة جميعهم أشرار، لكن تناقض «ليلى» ليس في مصلحتها.
المسلسل أيضاً عن حياة تتبدل فجأة بلا جرس إنذار. كانت مروة خليل بشخصية «داليا»، لتظن أن «ليلى» صديقة حميمة لا تطعن بها، لولا المشهد الساذج حين كشفتها على حقيقتها: مخادعة، خائنة، تقيم علاقة مع زوجها «وليد» (رودريغ سليمان)، الذي يعري أخلاقها ويحجم ادعاءها المثالية، فيساويها به: هو الانتهازي، مستغل شركة زوجته لتجارة المخدرات، وهي الموافقة على التجاوزات من دون رفة جفن.
لم نفهم أي دور لـ«وسام» (ناجي صوراتي) في المسلسل، ولِما بدا أنه يحوك مؤامرة ضد «ليلى». اقتصر وجوده على إثارة غيرة «وليد»، ثم تلاشى من دون مصير. حتى دور المحقق «نسيم» (علي منيمنة بدور مختلف عن أدوار الرجل الطماع المكررة) بدا محدوداً، مساحة تحقيقاته ضيقة، فكان متوقعاً الإبقاء على العدالة سائبة.
12 حلقة على «شاهد»، من إنتاج «الصباح أخوان»؛ كتابة لبنى حداد ولانا الجندي، وإخراج ليال راجحة، وسط تفاوت جمالية الصورة. اسم كبير كصباح الجزائري جدير بحضور أعمق. تضحيات الأمومة أصدق رسائل المسلسل.
«عالحد»... الحياة غابة مخيفة
مسلسل يعيد الاعتبار للبطولة النسائية المتفوقة
«عالحد»... الحياة غابة مخيفة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة