منحة فنية سويسرية في العلا تجذب فنانين من أنحاء العالم

توفرها «بيير سيغ الفنية»

الاستوديو في وسط المدينة القديمة
الاستوديو في وسط المدينة القديمة
TT

منحة فنية سويسرية في العلا تجذب فنانين من أنحاء العالم

الاستوديو في وسط المدينة القديمة
الاستوديو في وسط المدينة القديمة

رجل الأعمال السويسري بيير سيغ عُرف بعشقه اقتناء الأعمال الفنية المعاصرة، إضافة إلى عمله في مجال التقنية الحديثة، ولكن الاقتناء وحده لم يقنع رجل الأعمال المقيم في السعودية؛ فهو محب للفنون ويحمل رؤية مستقبلية وحلماً بدعم الفنانين بشكل أكبر. في يناير (كانون الثاني) الماضي أطلق سيغ «مؤسسة بيير سيغ الفنية» التي أطلقت برنامجاً يوفر إقامات لفنانين عالميين بهدف بناء جسور ثقافية بين الفنانين في العالم. البرنامج انطلق في 2020 و2021 في منزل سيغ بجنوب فرنسا. قال سيغ في بيان: «كانت لدي مساحة ضخمة في موقع طبيعي رائع، وفكرت أن بإمكاني الاستفادة منها لأوفر مكاناً لفنانين لتطوير أفكارهم بدلاً من الاكتفاء بدعمهم عبر شراء أعمالهم».
وهكذا انطلقت «مؤسسة سيغ للفنون»، وهي منظمة غير ربحية تهدف إلى دعم الفنانين الذين يجمعون في أعمالهم بين الأساليب التقليدية والوسائل التقنية الحديثة، مع التركيز على توفير فرص الإقامة الفنية لهم. وبعد نجاح برامج الإقامة السابقة في جنوب فرنسا، أطلقت المؤسسة إقامة فنية ثالثة، ولكن هذه المرة من قلب المملكة العربية السعودية، وتحديداً من العلا حيث يجتمع هناك فنانون من فرنسا والسويد وأميركا واليابان والصين يغوصون في طبيعية مختلفة عنهم، يجمعون منها أفكاراً وموضوعات وانطباعات تلون أعمالهم المقبلة.
المنسقة الفنية ساشا غويدج كوهين، مديرة المؤسسة والمشرفة على البرنامج الدولي، تحدثت لـ«الشرق الأوسط» عن الإقامة الفنية في العلا وعن الفنانين المشاركين، وأهمية التواصل مع المجتمع المحلي. في بيان حول المنحة، ذكرت كوهين: «خلال أبحاثي المستمرة في الفيديو والفن الرقمي عبر السنوات العشر الأخيرة التقيت وعملت مع عدد من الفنانين في هذا المجال الذي ينمو بسرعة. يهتم بيير سيغ بالجيل الجديد من الفنانين الذين يدمجون بين الوسائل التقليدية والحديثة».
أتحدث مع ساشا كوهين حول نشاط الفنانين على الأرض في العلا، تتحدث من أحد البيوت الطينية التي تميز مباني المدينة القديمة، خلفها نرى الأعمدة الخشبية والدعامات التقليدية، خلال حديثها تشير أكثر من مرة إلى التأثير الخاص للمنطقة؛ بدءاً من الطبيعة الساحرة، إلى النفحات التي تميز وسط مدينة العلا ببيوتها التراثية وأسواقها المحيطة بمكان عمل الفنانين المشاركين.
في بداية حديثها تقول: «عملنا مع الفنانين بدأ قبل وصولهم إلى العلا، ولكن حضورهم إلى هنا ومعاينتهم المكان له وقع آخر». تشرح أكثر: «الإقامة هي لعمل الأبحاث، ومن خلالها نتعرف على المجتمع المحلي والموقع الطبيعي حولنا، وهو ما سيحدد برنامج عمل الفنانين. في النهاية نريد إنتاج أعمال تتفاعل مع المجتمع المحيط».
نعرف منها أن أحد الفنانين الموجودين على الأرض في العلا، وهو من فرنسا (كيفين براي)، في طور تنفيذ عمل فني سيوضع في وسط المدينة بعد الانتهاء منه، فهو مهتم بالنقوش الصخرية التي تزخر بها المنطقة، وسيقوم بإنتاج ترجمة رقمية لهذه النقوش التاريخية عبر تقنية ثلاثية الأبعاد.
أسألها عن الموضوعات التي سيتناولها الفنانون عبر أعمالهم؛ هل هناك إطار موحد؟ تقول: «نركز على المشهد الفني الناشئ، حيث يتفحص الفنانون التقاطع ما بين وسائل التواصل التقليدية والحديثة. يحمل الفنانون القادمون إلى العلا أبحاثهم الفنية التي بدأوها منذ فترة، ويركزون على وسائل التقنية الحديثة والحفاظ على تراث المنطقة، ولهذا يأتون إلى هنا محملين بالأدوات التقنية المتطورة اللازمة لمشروعاتهم وسيستخدمون المواد المحلية لصنع أعمالهم».
فكرة الدمج بين كل ما هو حديث من تقنيات وبين المواد الأساسية التي توفرها منطقة العلا تبدو مثيرة وآنية، يمكننا أن نتخيل شكل الأعمال المنتجة والتي ستجمع في خليط موحٍ بين أفكار فنانينها وبين المواد المحلية، مثل الألوان والصبغات، وحتى استلهام الطبيعة والتاريخ المحيط، وتؤكد لنا المنسقة ذلك: «كل مشروع سيكون له طابع مختلف، ولكن المكان هو الرابط بينهم».
التفاعل مع المكان والمجتمع عنصر أساسي في عمل الفنانين، وهذا ما يوفره موقع الاستوديو حيث يعملون، فهو يقع في وسط المدينة القديمة على مقربة من السوق... «الميزة هنا للفنانين أن الاستوديو مفتوح على الطريق العامة».
تؤكد خلال حديثها على أهمية الاستفادة من المواد الأولية المحلية والعمل الواعي بتراث المنطقة وقصة المدينة، وترى أن ذلك مهم لضمان تفاعل الجمهور مع الأعمال الفنية الناتجة. غير أنها لا ترى في عدم معرفة المشاركين اللغة العربية عائقاً، فهناك مترجم مرافق، ولكنها تعول على اللغة المشتركة التي ستنشأ بين الفنانين والجمهور عبر الفن والعناصر المحلية في الأعمال، وهو ما سيجعلها مألوفة لأعين أفراد الجمهور لتصبح خيط التعارف بينهم... «على سبيل المثال؛ الصور التي التقطها الفنان الفرنسي كيفن براي للرسومات الصخرية ستكون مألوفة لدى الزوار المحليين، فهم يرونها حولهم في كل مكان، وفي زيارتهم الاستوديو وتواصلهم مع الفنان عبر المترجم، سيجدون أن هناك عاملاً مشتركاً بينهم».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».